شوف تشوف

الرأي

قصة السلاح النووي (2- 2) 

 

بقلم: خالص جلبي  

ما كان يحدث في ذلك الصباح أن البارجة (إنديانابوليس) انطلقت من ميناء سان فرانسيسكو يغلفها الضباب، قاصدة جزيرة «تينيان» على بعد  9000 كيلومتر في الباسفيك، وعلى متنها عبوة تشبه أسطوانة الغاز الكبيرة باسم «برونكس»، يجب أن يحافظ عليها ولو بكلفة حياة كل جنود البارجة، ومن غرائب الأحداث أن هذه البارجة غرقت في رحلة العودة، بعد أن ضربها طوربيد من غواصة يابانية، فهوت إلى الأعماق في 12 دقيقة، ولم ينج من بحارتها البالغين 1196 سوى 315 فردا. ولكن البارجة كانت قد أفرغت حمولتها، وبدؤوا في توضيب العبوة على ظهر الطائرة «إيلون جاي» من «نوع ب ـ 29»، التي ستحوم حول الجزر اليابانية.  

وفي صباح 6 و9 غشت عام 1945م عرف الناس في نيومكسيكو أنهم كانوا الشهود الأوائل على ولادة العصر النووي، وفهموا سر تلك الظاهرة الكونية الغريبة التي أوحت إليهم أن الشمس أشرقت مرتين.  

أعطى ترومان أوامره بتوقيع واحد بضرب المدينتين، لإحداث أثر الصاعقة والاستسلام الفوري وهو الذي حصل، وكان من رأي «ليزلي جروفز»، الرأس العسكري لمشروع مانهاتن، حرق مدينة كيوتو الأثرية الجميلة ومعها مليون من الأنام و3000 معبد، وبها يكسر العمود الفقري لليابان. ولكن وزير خارجية أمريكا «جيمس بايرنس» تدخل فأنقذ المدينة من شبح الفناء، وهذا يحكي سخرية الأقدار وأثر الأفراد في رسم مصائر العباد.  

بعد صدمة «هيروشيما» اجتمع مولوتوف، وزير الخارجية الروسي، مع نظيره الأمريكي في برلين، وفي حفلة خمر توتر الجو وهدد الأمريكي أنه سيكسر رأس مولوتوف، فابتسم مولوتوف وقال له: وهل في جيبك قنبلة نووية؟ رد الأمريكي من تكساس وزأر: كأنك لا تعرفنا. فابتسم مولوتوف من جديد واقترب من نظيره الأمريكي وهمس في أذنه، أنهم امتلكوا سر السلاح النووي. 

 وبرز بشكل واضح أن مبرر الضربة اليابانية، كان إخافة روسيا في مرحلة ما بعد الحرب، بل وكان من رأي بعض السياسيين انتهاز الفرصة وتدمير الاتحاد السوفياتي، وفي يد أمريكا سلاح الدمار الشامل منفردة. ولكن «ليزلي جروفز» قد أوحى إلى القيادة الأمريكية أن بين روسيا وامتلاك السلاح النووي ربع قرن من الزمان، حتى جاءت المفاجأة أسرع من التوقع، حين انفجرت أول قنبلة نووية روسية في صحراء بالا تنسك في كازاخستان عام 1949، وعلى العكس كان رأي العلماء إنشاء ناد نووي عالمي يراقب التسلح، وأن لا يبق حكرا في يد دولة، وبعد امتلاك روسيا أول سلاح نووي لها فتح الباب على مصراعيه لسباق التسلح النووي، ودخول الحرب الباردة وتهديد السلام العالمي.  

ومن العلماء الذين شاركوا في مشروع «لوس ألاموس»، «إدوارد تيلر» وهو هنغاري الأصل، الذي كان يرى أن السلاح الانشطاري سخيف يصلح أن يكون ألعابا نارية في العيد، وأن السلاح الفعلي هو القنبلة الحرارية الاندماجية (Fusion)، وهنا ترتفع طاقة التفجير من كيلوطن إلى ميغاطن، أي قوة ملايين الأطنان من مادة «ت. ن . ت».  

وبعد انفجار قنبلة «جو»، (نسبة إلى جوزيف ستالين) الأولى هرع البنتاغون إلى إدوارد تيلر من أجل مشروع السلاح النووي الحراري الاندماجي، وقد عاونه في حل المشكلات الرياضية شاب من أصل روسي هو «ستانسيلاف أولام»، الذي حل المعضلة بقانون القبضة الفولاذية المضاعفة بأربعة تفجيرات من ثلاثة انشطارية تسحق الهيدروجين الثلاثي، وتحوله إلى هليوم، وتحرير طاقة خرافية تشعل الشمس على وجه الأرض بمليون درجة حرارية. «انشطار ـ انشطار ـ انشطار ـ التحام FISSION- FISSION-FUSION FISSION ».  

ومن الصدف الغريبة أن القنبلة التي جربت في جزر البكيني في الخمسينات، والتي كان متوقعا لها قوة انفجار 8,4 ميغاطن، انفجرت بقوة 15 ميغاطن، فسلقت الحيتان في قاع المحيط وأصيب بحارة يابانيون على بعد 150 كيلومترا على متن سفينة «لا دراغون» بمرض الأشعة الذي فجر سرطان الدرق.  

ثم ولد الجيل الثالث الذي اشتغل عليه «كوهن» لإنتاج القنبلة النظيفة «قنبلة النترون» التي تعتمد قوة الأشعة أكثر من الصدم والحرارة، فتقضي على البشر وتحافظ على الأبنية والأسلحة، ولكن تبين أن القنبلة النظيفة لم تكن نظيفة تماما.  

وبين رحلة الأجيال الثلاثة مشى الاتجاه بطريق مغاير بين التكبير والتصغير، فبعد التسابق على من يملك أكبر وأقوى، فجر الروس قنبلة بلغت 58 ميغاطن، أي أكثر من قنبلة هيروشيما

بـ3000 مرة. بعدها فكر البنتاغون في الوصول إلى قنبلة بقوة 100 ميغاطن. ويبدو أن القنابل الالتحامية يمكن أن تصعد إلى ما لانهاية إلى درجة انشقاق الأرض والقمر.  

بعدها بدأت الصناعة تتجه إلى الأصغر (الميني Minibomb)، بحيث يبتعدوا عن ورطة السلاح الأعظم، وظن البعض أن بالإمكان خوض الحرب بأسلحة تكتيكية من عيار الكيلوطن، ولكن خبراء الأسلحة الاستراتيجيين «مثل بيير غالوا» قالوا إن الانزلاق من الحرب الصغيرة إلى السلاح الأعظم محتمل في أي لحظة. وبذلك ثبت المرة بعد المرة أن السلاح النووي ليس للاستخدام.  

وهكذا انهارت مسلمة «الردع النووي» من جديد، وتبين أن السلاح النووي الذي اخترعوه ليحميهم ورطة كبرى، وكما في صناعة الصنم، فالبشر ينحتوه بأيديهم، ثم يعبدونه، والله يقول: «أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون؟». 

ثم بدأت رحلة العودة باتفاقيات سالت وستارت، بعد أن كانت القوى العظمى قد صنعت أكثر من خمسين ألف رأس نووي بقوة 5000 ميغاطن، ما يعادل عشرة أطنان لكل مواطن على وجه الأرض، وتكفي رصاصة لقتل إنسان وليس نصف قنبلة هيروشيما. تعالى الله عما يشركون علوا عظيما.  

ويروي «لي بتلر»، الخبير الاستراتيجي الأمريكي النووي قصة التطور الكاملة، ويتعجب في كيفية نجاة العالم من المحرقة العظمى، ومن يتأمل في حماقات البشر يتوقع نهاية العالم بخطأ صغير، ومع ذلك لم يحدث بعد. ومجيء أمريكا إلى العراق هو أكبر من جشع البترول، وعطش السيطرة العالمية، وزرع الديموقراطية المزعومة، وجنون صدام، ونجاة إسرائيل، وأسلحة الدمار الشامل، بل هو قدر تسوقه بلطف يد من خلف الأستار إلى أجل مسمى، والكون يقوم على الصيرورة، وكل حدث معادلة شديدة التعقيد من مجاهيل شتى، ومن زعم المعرفة المطلقة كان أجهل الجاهلين، «ولو شاء الله ما اقتتلوا، ولكن الله يفعل ما يريد».  

  نافذة:

 برز بشكل واضح أن مبرر الضربة اليابانية كان إخافة روسيا في مرحلة ما بعد الحرب بل وكان من رأي بعض السياسيين انتهاز الفرصة وتدمير الاتحاد السوفياتي

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى