قصة الحكومة التي لم تر النور
دارت رحى حروبها السرية في نونبر وبداية دجنبر 1955
الكثيرون ممن اتصلنا بهم في «الأخبار»، لكي نسألهم عن سبب عدم تشكل حكومة مغربية، بالموازاة مع عودة السلطان محمد بن يوسف من المنفى، لترتيب عودته إلى المغرب، خصوصا وأن الوطنيين نسقوا لترتيب عودة السلطان بشكل غير رسمي، أجابوا بأن الأجواء «سياسيا» لم تكن مواتية. وهو جواب غامض.
إذ ما دامت الذريعة التي قدمت في السابق، والتي مفادها أنه لم يكن هناك توافق حول بن عرفة، لم تعد قائمة بإعلان قرب عودة السلطان محمد بن يوسف إلى المغرب.
من حقنا إذن أن نتساءل ماذا وقع في الفترة ما بين 18 نونبر 1955 و3 مارس 1956، وهي الفترة التي فصلت بين احتفالات عودة السلطان محمد بن يوسف إلى العرش، وبين توقيع الاستقلال رسميا من طرف الحكومة المغربية الثالثة، رغم أنه لم يكن قد مضى على عودة السلطان سوى أربعة أشهر فقط. لماذا أجهضت هذه الحكومات؟ ومن كان يرج طاولة المحادثات؟
يونس جنوحي:
ماذا وقع في باريس قبل عودة محمد بن يوسف من المنفى؟
لكي نعرف أولا سياق هذه الحكومة التي لم تر النور، والتي أشيع في الرباط منذ انتشار أخبار قرب عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، عن قُرب تشكيلها بالتوافق مع السلطان محمد بن يوسف، وقيل أيضا إنها سوف تضم قدماء الموظفين المخزنيين، لا بد أولا أن نعكف على ما جرى عندما عاد السلطان محمد بن يوسف من مدغشقر إلى فرنسا، أي قبل نونبر 1955.
إذ إن إسقاط تلك المحاولة لإيجاد حكومة مغربية مشكلة من الأعيان، ارتبط بما وقع في باريس عندما كان الوطنيون يحجون تباعا لرؤية السلطان وتجديد بيعته، والتأكيد له على أنهم سوف يدعمون المرحلة الجديدة. وهكذا كان الغليان في فرنسا متجاوزا بكثير الغليان في نفوس أعضاء الحركة الوطنية، الذين كانوا يتابعون أخبار زملائهم من المغرب، ويتأملون صورهم وهم يسلمون على السلطان محمد بن يوسف.
أحد الوطنيين الذين حضروا هذه الأحداث عن قرب، هو امحمد بوستة، وقد جاء في مذكراته التي صدرت بعد وفاته، في الجزء المتعلق بكواليس عودة السلطان إلى فرنسا تمهيدا لعودته النهائية إلى المغرب، ما يلي:
«كان أحمد بلا فريج يقيم وقتئذ بجنيف بسويسرا، ومنها كان يتابع المباحثات بكل تفاصيلها، ويشارك بطريقة غير مباشرة في صياغة مواقف الحزب. وكنت مكلفا بربط الاتصال بينه وبين أعضاء الوفد المفاوض. ولهذه الغاية استأجر لي غرفة بجواره في فندق «دي رونDu Rhone » بجنيف.
وقد كنت خلال هذه المباحثات أتسلم يوميا من أعضاء الوفد تقريرا يتضمن تفاصيل الاجتماع وملحوظاتهم حوله، ثم أذهب على متن سيارة صغيرة من إيكس ليبان الموجودة في التراب الفرنسي إلى جنيف بسويسرا، وتستغرق الرحلة بين المدينتين حوالي ساعة ونصف الساعة تقريبا، حيث أقوم بتسليم التقرير إلى أحمد بلافريج للاطلاع عليه وأقضي الليل هناك، وفي صباح الغد وبعد تناول الإفطار يسلمني تقريرا يتضمن ملحوظاته وآرائه وتعليماته. وكان أحيانا يضيف إليها آراء وملاحظات أعضاء الحزب بأمريكا، ومواقف علال الفاسي بالقاهرة، لأنه كان على اتصال دائم بهم. وعند العودة إلى إيكس ليبان أسلم التقرير إلى أعضاء الوفد المفاوض. وهكذا كان الحال طيلة مدة انعقاد هذه الاجتماعات، وكانت هذه العملية تتم يوميا بصفة مضبوطة ومحكمة. (..) امتطينا السيارة في اتجاه لوفوكيت، قال لي عبد الرحيم بوعبيد إن ما أقدم عليه الكلاوي سيعفينا من مناقشة حيثيات عودة محمد الخامس إلى فرنسا مع إميل روش، ولكننا سنطالب بالرجوع الرسمي لملك المغرب إلى عرشه. ذهبنا إلى اللقاء واجتمعنا بإميل روش، وجدناه مصابا بالصعقة النفسية التي أصيب بها بونيفاص وجماعته بالمغرب، بسبب تصريح الباشا التهامي الكلاوي، الذي كان وقعه شديدا أيضا على الفرنسيين المعادين للملك وللحركة الوطنية. بعد ذلك توالت الأحداث بوتيرة سريعة، إلى أن تم الإعلان عن وصول الملك محمد الخامس رفقة عائلته إلى مطار نيس. وكنت شخصيا ضمن الوفد الذي كان في استقباله، يوم واحد وثلاثين أكتوبر 1955.
كانت لي بالملك محمد الخامس علاقة قرابة، إذ إن زوجتي التي هي في الوقت نفسه ابنة خالي كانت تدرس مع الأميرة لالة عائشة، كريمة محمد الخامس، واستمرت علاقتهما وطيدة حتى بعد الدراسة. وخلال مقامي بباريس كانت الأميرة لالة أمينة، أخت الملك، قد جاءت إلى فرنسا مع زوجها مولاي الحسن بن إدريس، من أجل العلاج. وكانت تقيم بشارع كراند أرمي رفقة أخيها المدعو بابا حسن، وهو الأمير مولاي الحسن. (..) وهكذا ذهبت رفقة زوجتي معهم لاستقبال العائلة الملكية. وذهبنا برفقتهم إلى مقـر إقامتهم في بوفالون، حيث قضينا معهم أمسية ذلك اليوم، إلى أن جاء موفد من طرف الحكومة الفرنسية يطلب من محمد الخامس الالتحاق بسان جيرمان أونلي، بضواحي باريس. وهنـاك ألقى جلالته خطاب سادس نونبر، أو ما عرف بتصريح لاسيل سان كلو الموقع من طرف محمد الخامس، وأنطوان بيناي، وزير الخارجية الفرنسي. وساهم عبد الرحيم بوعبيد في صياغة هذا التصريح، بمعية الأمير مولاي الحسن، الذي لعب دورا كبيرا في بلورته وتحريره، إذ تم فيه الإقرار بشرعية عودة محمد الخامس إلى عرشه. في التصريح المشترك بين الملك محمد الخامس، والوزير بيناي، يؤكد الطرف الفرنسي أن المغرب مقبل على تطوير علاقاته مع فرنسا، على أساس إلغاء معاهدة الحماية. وهو الأمر نفسه الذي عبر عنه محمد الخامس، مباشرة بعد عودته إلى المغرب يوم سادس عشر نونبر 1955، حيث أكد هذا حين قال: «لقد ولى عهد الحجر والحماية، وانبثق عهد الحرية والاستقلال».
قدماء المقاومة.. رجال ضد كل الحكومات
بعيدا عن قلب الأحداث في فرنسا، تحولت الرباط إلى مسرح للأحداث الكبرى، في سياق ملحمة 18 نونبر 1955، وهي الاحتفالية الكبيرة التي نظمها المغاربة بمختلف انتماءاتهم وتياراتهم للاحتفال بعودة السلطان الشرعي إلى البلاد.
إذ في غمرة الاحتفالات والأهازيج، بادر قدماء المقاومة إلى مباشرة عملية تصفيات جسدية، تزامنت في أوقات متقاربة، واستهدفت رموز التعاون مع الاستعمار في كل مدن المغرب تقريبا. وهكذا كانت تتوارد أخبار اغتيال بعض الأعيان وموظفي المخزن الذين دعموا الإدارة الفرنسية، وسرعان ما خيم القلق على أجواء تداول مستقبل المغرب سياسيا، وأخبار بداية التفاوض لتشكيل حكومة مغربية تتولى تدبير انتقال السلطة على الإدارات التي تركتها فرنسا خلفها، وأيضا تمهيدا لتوقيع وثيقة الاستقلال، والتي لم توقع إلا في مارس 1956، أي بعد أربعة أشهر من الترتيبات. حتى أنه يمكن القول إن تأخر توقيع الوثيقة كان بسبب عدم التفاهم حول حكومة مغربية بين أقطاب السياسة.
حسب تقارير أمنية فرنسية رسمية، فإن الملك محمد الخامس كان منذ اليوم الأول لوصوله، أي في نونبر 1955، يتوصل بتقارير مفصلة عن حالة الشارع المغربي، وتابع بدوره كيف أن أعضاء الخلايا السرية للمقاومة، وأيضا المنتسبين للحركة الوطنية الذين ظهروا فجأة بعد أشهر طويلة من الاختفاء، مخافة الاعتقال على يد الأمن الفرنسي في المغرب، كانوا يقومون بعمليات عشوائية تستهدف الفرنسيين وممتلكاتهم.
على بُعد أمتار فقط من القصر الملكي في الرباط، بدأت أولى عمليات تصفيات الخونة.
كان المكان الذي يحتله البرلمان المغربي اليوم، مسرحا لعملية تصفية أربعة بشاوات على الأقل. أحدهم كان يمارس مهامه في الرباط، وآخرون اقتيدوا فقط إلى المكان لتصفيتهم على مرأى ومسمع من المارة. كان الفرنسيون يكتفون بالتفرج، لأن التعليمات القادمة من الإقامة العامة كانت تلزم البوليس الفرنسي بعدم التدخل نهائيا لفض أي نزاع مغربي- مغربي، مخافة انفجار الأوضاع أمنيا.
وهكذا صفي «البغدادي»، أحد أشهر الأعيان المغاربة الذين اتُهموا بالخيانة العظمى، بسبب علاقاته الوطيدة مع الفرنسيين، وتلته شخصيات أخرى تفاوتت أهميتها بحسب علاقتها بالفرنسيين، وليس بسبب ترتيبها في السلم الإداري.
تعرض مغاربة من الأعيان أيضا للتصفية الجسدية، وتم استهداف آخرين، كان ذنبهم فقط أنهم أصبحوا من مؤسسي البرجوازية المغربية، ونجحوا خلال فترة الحماية الفرنسية في تأسيس حياتهم المالية والاقتصادية في المغرب، بشكل عصري مكنهم من احتلال مكانة اجتماعية مهمة.
المغضوب عليهم.. هؤلاء أرادوا تشكيل حكومة بدون وطنيين
عبد الحي الكتاني، الباشا الكلاوي، والفاطمي بن سليمان. هؤلاء الثلاثة كانوا يشتغلون لتأسيس أول حكومة مغربية، مباشرة بعد نفي السلطان محمد بن يوسف إلى «كورسيكا» ومدغشقر في غشت 1953.
وكان مشروع هذه الحكومة يقتضي وجود بن عرفة، السلطان الذي لم يحظ بالشرعية عند المغاربة، رغم أنه من أبناء عمومة السلطان الشرعي، على رأس هرم التجربة، وأن يُعين الوزير الأول لتلك الحكومة.
وحسب الأرشيف، فإن الفاطمي بن سليمان، الذي اكتسب خبرة كبيرة في الوزارة والدواوين، عندما اشتغل في سلك المخزن أيام السلطان مولاي يوسف، ثم مع ابنه محمد بن يوسف، كان المرشح الأبرز لكي يكون على رأس «حكومة الثلاثة». إذ إن الأرشيف لم يشر أبدا إلى تشكيل حكومة بأسماء وزارية، بل كان أقرب إلى مجلس للحكم، يتقاسم فيه الثلاثة سلطات واسعة، ويفوضون صلاحيات لموظفين في دواوينهم.
كان الفاطمي بن سليمان على وشك أن يُعين لقيادة التجربة، وهو ما ورد في مذكرات الباشا الكلاوي، التي نشرها ابنه عبد الصادق الكلاوي سنوات بعد وفاة الباشا، وجمع فيها أرشيف رسائل والده، لولا أن فرنسا استجابت للضغط المغربي، وقررت التمهيد لعودة الملك الراحل من المنفى.
تبخر حلم الكلاوي لكي يحكم المغرب، من خلال مجلس لتدبير أزمة العرش. إذ إن فشل محمد بن عرفة في أن يحظى بشعبية لدى المغاربة، عجل بضرورة رحيله، أو سحب السلط منه على الأقل وإبعاده عن الأضواء، وهكذا جاءت فكرة هذه «الحكومة» الثلاثية بين الكلاوي وعبد الحي الكتاني والفاطمي بن سليمان، ولم تكد سنة 1955 تلقي بظلالها على المغرب، حتى بدأت تلوح علامات الانفراج، سيما وأن أخبار إذعان فرنسا بدأت تتسرب من محادثات «إكس ليبان»، وهناك بدأ الذين دعموا نفي السلطان محمد بن يوسف وبايعوا بن عرفة، يتحسسون رؤوسهم.
وكل الذين دعموا تجربة بن عرفة وتداعياتها، سُجلوا في لائحة الخونة. بل إن الباشا الكلاوي نفسه وُجد خارج الأحداث تماما، بمجرد ما أن وصل السلطان محمد بن يوسف إلى باريس. حتى أن الفرنسيين أنفسهم في الرباط لم يعودوا يتصلون بالكلاوي لإحاطته علما بالتفاصيل. وأجهضت فكرة مجلس الأزمة، الذي كان مقررا أن يشكله مع الكتاني وبن سليمان للنيابة عن بن عرفة.
إلى درجة أن الكلاوي حمل هاتفه وبدأ يتصل بالوطنيين لأول مرة في حياته، حيث ربط الاتصال بمحمد بن الحسن الوزاني، الذي كان في قلب المباحثات مع فرنسا لعودة السلطان محمد بن يوسف، على اعتبار أنه من أبرز رموز الحركة الوطنية. وعندما اتصل الكلاوي بالوزاني، اغتنم الأخير الفرصة لكي يدعوه إلى دعم عودة السلطان، قبل أن تستميله فرنسا مجددا إلى صفها ويغير موقفه، وفعلا استجاب الباشا للمبادرة، وهو ما أكده الوزاني في مذكراته «حياة وجهاد». ذهب الكلاوي في رحلته الشهيرة إلى فرنسا بعد أن قبل السلطان لقاءه، وأعلن توبته هناك وطلب الصفح من السلطان.
كانت عودة الكلاوي من باريس مغايرة تماما لكل رحلاته السابقة، حيث نزل من الباخرة شخصا بدون صلاحيات ولا نفوذ ولا مستقبل. وأدرك أن الحكومة المغربية المقبلة لن يكون له نهائيا أي مكان داخلها، وأن مرحلته قد طُويت نهائيا.
لماذا لم تُنشر الرسائل القديمة بين الوطنيين بعد الاستقلال؟
هذا السؤال الشائك مُحرج إلى درجة أنه بقي معلقا بدون جواب لعقود. إذ سبق في أكثر من مناسبة، خاصة أثناء إحياء ذكرى رحيل بعض رموز الحركة الوطنية، أمثال محمد بن الحسن الوزاني، ونخبة مدينة سلا، مثل الحاج معنينو وأحمد بلافريج وآخرين وعلاقتهم بالباشا الصبيحي الذي دافع بدوره عن الوطنيين في الظروف الحالكة لفترة 1953، بالإضافة إلى النخبة الفاسية مثل علال الفاسي والدويري. ثم رسائل القوميين، مثل عبد الهادي بوطالب ومن كانوا على اتصال معه من مثقفين متأثرين بما يقع في الشرق.
وعندما يُطرح هذا السؤال، يتجنب أغلب الذين كانوا قريبين من هذه الأسماء وغيرها من رموز الحركة الوطنية، الخوض في التفاصيل. ليس فقط لأنها مُتعبة، ولكن لأنها بالتأكيد محرجة جدا. إذ إن هؤلاء الوطنيين تبادلوا بينهم رسائل كثيرة عند عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، وجرت بينهم اجتماعات سرية ومكالمات هاتفية مطولة، للوصول إلى حلول سياسية وتوافقية لرؤية مغرب ما بعد عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى،
خصوصا وأن الأوساط السياسية كلها جاءت إلى الرباط لتهنئة السلطان باستعادته للعرش، وبدأ الحديث عن أن استقلال المغرب رسميا ليس إلا مسألة وقت، وأن سلطات فرنسا تتباحث مع أطراف كثيرة مسألة تسليم الإدارات إلى المغرب.
الأسابيع الأولى التي تلت عودة السلطان محمد بن يوسف إلى العرش يوم 18 نونبر 1955 كانت ماراثونية، وجرى خلالها الحديث عن تشكيل أول حكومة مغربية يُعين فيها وزراء مغاربة يشرفون كل على القطاعات الوزارية المغربية التي تشرف عليها الإدارات الفرنسية، لتسهيل رفع يد فرنسا عن السيادة المغربية.
لكن الأمر لم يكن أبدا بتلك السهولة. إذ إن أعضاء الحركة الوطنية، بقيادة المهدي بن بركة، الذي يمثل «دينامو» تيار الاستقلاليين من جهة، ومحمد بن الحسن الوزاني، مؤسس حزب الشورى، الذي كانت لديه خبرة كبيرة في التفاوض باسم المغرب في المحافل الدولية، بالإضافة إلى تكوينه الأكاديمي رفيع المستوى، متفوقا على بقية الأسماء بحكم أنه درس العلوم السياسية في فرنسا خلال ثلاثينيات القرن الماضي، وبينهما (بن بركة والوزاني) أسماء أخرى تخرجت من القرويين، أمثال عبد الهادي بوطالب، ونخبة أخرى مثل عبد الرحيم بوعبيد وامحمد بوستة. هؤلاء جميعا كانوا بالإضافة إلى الجيل القديم من الأعيان الذين دعموا الحركة الوطنية ومولوا المقاومة، يتدارسون بينهم تصورا لحكومة المغرب الأولى، التي قيل إن السلطان محمد بن يوسف سوف يعين أعضاءها بنفسه.
كانت الجلسات السرية في صالونات الرباط، تقول إن السلطان توصل باقتراح من الإدارة الفرنسية لكي يضع على رأس الحكومة شخصية تقترحها عليه، لكي تتكلف بالوزارة الأولى. لكن الوطنيين رفضوا هذا الاقتراح على الفور، واعتبروا أن فرنسا كانت ما زالت تخطط لبسط سلطتها في المغرب.
لم يكن وقتها اسم «البكاي بن امبارك» متداولا، إذ إن ما تسرب إلى آذان الوطنيين لم يكن يوفر كل التفاصيل.
لكن انتشر وقتها في الرباط أن المهدي بن بركة، هو الذي رفض أن يكون منصب الوزارة الأولى بين يدي الإدارة الفرنسية، ولا أن تقترح من يجلس فيه.
وتحسر بعض الذين تابعوا تلك المشاحنات، على أيام المجلس الاستشاري الذي كان المهدي بن بركة عضوا فيه إلى جانب مُنتخبين فرنسيين، قبل أن تفشل تلك التجربة، بسبب خلافات عميقة بين رئيس المجلس الذي كان فرنسيا، والأعضاء المغاربة الذين حرضهم بن بركة لكي ينسحبوا من ذلك المجلس الاستشاري، خلال فترة الحماية الفرنسية.
أجهضت المحاولة رغم أن مساعي تشكيل أول حكومة مغربية بدأت من باريس، التي استضافت السلطان محمد بن يوسف قبل عودته الرسمية إلى المغرب، في نونبر 1955. وخلال مقام السلطان هناك، جاء إليه أغلب الوطنيين، بل إن عبد الرحيم بوعبيد وامحمد بوستة كانا يقيمان بالقرب من إقامة السلطان، ويقضيان ساعات يوميا في جلسات مع الأسماء التي جاءت لرؤية محمد الخامس قبل دخوله إلى المغرب، وهناك نسف بن بركة محاولات وضع تصور أولي لحكومة مغربية تُشرف على تفويت الإدارات إلى المغرب عند توقيع وثيقة الاستقلال، الذي لم يكن تاريخه قد تحدد بعدُ في ذلك الوقت.
لكن المثير أن شهرا واحدا فقط بعد عودة السلطان محمد بن يوسف إلى المغرب، تعينت أول حكومة مغربية، وكان البكاي وزيرا أول، بحضور أسماء من حزب الاستقلال فيها. وسرعان ما فشلت، بسبب تداعيات تأثير نسف المشروع الذي كان قبلها.
ولو أن المراسلات وأرشيف الأسماء الوطنية التي كانت قريبة من الحدث قُدر لها يوما أن تخرج إلى العلن، فسوف يصل الضوء إلى مساحات ظل كثيرة تتعلق بتلك الأحداث.
مجلس شورى الحكومة.. أول تجربة حكومية لكنها سقطت من التاريخ
رغم أنها لم تكن حكومة، بل كانت مجلسا بعض أعضائه مغاربة يُدلون بآرائهم بخصوص قرارات ومشاريع قوانين تقترحها الحكومة الفرنسية في باريس، إلا أن مجلس شورى الحكومة كان من التجارب المبكرة التي تعرف فيها المغاربة على العمل السياسي سنة 1947.
كان جوان هو المقيم العام في المغرب وقتها، وأحد مهندسي هذه التجربة.
وحسب الإفادة التي أدلى بها حمزة الأمين، وهو أحد قدماء حزب الشورى والاستقلال، في سلسلة مذكرات عن الحركة الوطنية والمقاومة لـ«الأخبار»، والتي جاء فيها بخصوص هذه التجربة:
«بعد أن حارب حزب الاستقلال بكل قوة مبادرة حزب الشورى، المتمثلة في مذكرة شتنبر 1947 التي طالبت بإلغاء معاهدة الحماية، وتعيين حكومة انتقالية يعينها محمد الخامس وغيرها من الإصلاحات الممهدة للاستقلال الكامل عن فرنسا، فوجئ الرأي العام المغربي بدخول حزب الاستقلال بعد ثلاثة أشهر فقط في مبادرة مجلس شورى الحكومة، الذي تشكل من أعضاء فرنسيين وحوالي عشرين عضوا مغربيا، لم يكونوا يمثلون أكثر من 19 في المائة.
نظمت انتخابات مصغرة همت الأعيان والتجار، وهم الذين صوتوا لصالح الشخصيات المغربية التي دخلت المجلس.
قلتُ إن رئيس المجلس كان هو الجنرال جوان، وكان مخصصا لتداول شؤون الغرف التجارية والمشاريع إلخ.
حزب الشورى عارض بقوة هذا المجلس وامتنع عن المشاركة. بالمقابل، شارك حزب الاستقلال بترشيح بعض الشخصيات، وشارك أيضا بعض الأعيان غير المنتمين إلى أي حزب.
لأن حزب الشورى أساسا كان يقترح في مذكرة 1947 أن يكون هناك استقلال داخلي عن فرنسا، وتمهيد لمرحلة انتقالية، ثم الحصول على الاستقلال التام عن فرنسا. أما حزب الاستقلال فقد حارب المذكرة، وطالب بالاستقلال الفوري والتام عن فرنسا على الفور، وبدون أي مرحلة انتقالية، أو أي تدبير أو تشارك. وبعد 3 أشهر فقط فوجئنا بالحزب يدخل في تجربة مجلس شورى الحكومة الفرنسية، الذي يترأسه الجنرال جوان.
لقد اتُهم حزب الشورى بأنه «يُخرّف»، وبعد ثلاثة أشهر فقط انتهج الاستقلال خطوة غير مسبوقة.
سُميت الانتخابات التي تشكل بها المجلس انتخابات الإقامة العامة، لأن الإقامة العامة هي التي أشرفت عليها. والتصويت خُصص للأعيان المغاربة والمواطنين الفرنسيين، حيث اختاروا من يمثلهم في المجلس.
أما الاستقلاليون الذين فازوا بمقاعد في هذا المجلس، وكانوا 11 عضوا بالضبط، فهم كالآتي: محمد الغزاوي (المدير العام للأمن الوطني بعد الاستقلال)، أحمد اليزيدي، الجيلالي بن محمد بناني، محمد العراقي، محمد الزيزي، محمد بن الحبيب الفيلالي، عباس بنجلون، محمد عمور، المهدي زنيبر، الحاج عبد السلام بن محمد اكديرة، عباس القباج.
هؤلاء طبعا كانوا من الأثرياء، لذلك صوت عليهم الأعيان، وكانوا يمثلون التجار والحرفيين الكبار ورجال الأعمال المغاربة الأوائل.
استمرت هذه التجربة ثلاث سنوات تقريبا، ففي سنة 1951 سوف تفشل على إثر تشنج بين أعضاء حزب الاستقلال وبين الجنرال جوان، الذي كان رئيسا للمجلس. استمر عمل المجلس ثلاث سنوات تقريبا. وفي دجنبر سنة 1950، انتشر خبر نشوب خلاف بين الجنرال جوان وممثلي حزب الاستقلال في المجلس، حيث طرد المقيم العام الأعضاء الاستقلاليين بطريقة مُهينة، لأنهم تناقشوا معه خلال الجلسة وهو ما لم يرقه، فقرر طردهم خارج قاعة المجلس».
هذه التجربة، رغم أنها لم تكن طويلة، وتخللتها مشاكل سياسية كثيرة وتباين في المواقف بين الوطنيين بخصوص خوضها من عدمه، إلا أنها تبقى تمرينا دخله المغاربة لأول مرة للمشاركة في تدبير عصري للشأن العام، ولو بشكل جزئي.
هذه الأزمات نسفت أول مقترح لحكومة مغربية سنة 1955
الكثيرون ممن اتصلنا بهم في «الأخبار» لكي نسألهم عن سبب عدم تشكل حكومة مغربية، بالموازاة مع عودة السلطان محمد بن يوسف من المنفى، لترتيب عودته إلى المغرب، خصوصا وأن الوطنيين نسقوا لترتيب عودة السلطان بشكل غير رسمي، أجابوا بأن الأجواء «سياسيا» لم تكن مواتية. وهو جواب غامض.
إذ ما دامت الذريعة التي قدمت في السابق، والتي مفادها أنه لم يكن هناك توافق حول بن عرفة، لم تعد قائمة بإعلان قرب عودة السلطان محمد بن يوسف إلى المغرب. وهكذا فإن ترتيب عودة محمد بن يوسف إلى العرش لو تمت بالتوافق مع حكومة مغربية باتفاق بين أعضاء الحركة الوطنية، لربح المغرب الكثير. إذ إن وطنيين أكدوا لاحقا في أكثر من مناسبة، أن المغرب أضاع سنوات كثيرة في الصراع حول حكومات 1955 و1960. بدءا بحكومتي البكاي اللتين نسفهما حزب الاستقلال، مرورا بحكومة أحمد بلافريج، وصولا إلى حكومة عبد الله إبراهيم سنة 1959، ثم حكومة ولي العهد التي ترأسها الملك الراحل محمد الخامس.
في زمن قياسي جدا، جرب المغرب أكثر من حكومة بعد الاستقلال، والسبب أن الخلافات السياسية كانت تنسف دائما تلك التجاربة الحكومية، التي لم تعمر سوى أشهر قليلة ليتم حلها أو ترميمها. ورغم أن الأسماء التي قادت هذه التجارب كان عليها توافق، إلا أن كواليس الصلاحيات والأسماء المستوزرة في قطاعات أخرى كانت دائما موضوع نقاش.
والخلاصة أن التصور الذي أراده المهدي بن بركة وهو في حزب الاستقلال، استمر إلى ما بعد تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
ورغم أن الحزب لم يتأسس إلا في سنة 1959، إلا أن تيار بن بركة اعتبروا أنفسهم خارج الحزب منذ الاستقلال. وهو ما أكده عبد الرحمن اليوسفي في مذكراته التي صدرت قبل وفاته، وقال فيها إنه رفقة كثيرين أحسوا أنهم لم يعودوا في حزب الاستقلال منذ 1956، وليس عند انسحابهم إلى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
تجربة الحكومة المغربية التي لم تر النور، والتي كانت مشكلة من الأعيان، حتى لو لو شُكلت فإنها لن تعمر سوى أيام قليلة قبل أن تُنسف، لأن أول تعديل حكومي على حكومة البكاي الأولى التي تأسست في دجنبر 1955، كان يرمي إلى إزالة وزارات سيادية للمستوزرين غير المتحزبين ومنحها لوزراء حزب الاستقلال، مثل وزارات الداخلية والخارجية والاقتصاد والتجهيز. وهو ما يعني أن التجربة التي نُسفت لا بد وأن تكون هي الأخرى قد احتكرت وزارات السيادة، وجعلتها بعيدة عن متناول بن بركة ومن معه.