قصة الإنسولين
بقلم: خالص جلبي
قصة مرض السكري وكشف الهورمون الذي يحرق السكر من أمتع القصص العلمية وأحفلها بالإثارة، في الوقت التي هي قصة الكارثة للمصاب، وبالطبع وقبل الكشف عن الإنسولين كانت نهاية المرض موتا بالسبات، فالسكر في الدم له رقم معين يتأرجح عنده، وهو على سبيل المثال على الريق صباحا يجب أن لا يتجاوز 124 ميليغراما في اللتر، أو أرقام الميلي مول التي تتأرجح بين 6 و7، فإن فاض في الدم دخل المريض حالة السبات وغياب الوعي (Coma)، والأخطر هو انخفاض كمية السكر عن رقم 40 ميليغراما في اللتر؛ فيقع صاحبها في سبات هو الأخطر، فسبات الارتفاع لا يميت خلاف الانخفاض. ونحن من مارس جراحة الأوعية كانت وما زالت إصابة الأقدام السكرية تمثل تحديا ليس بالسهولة بمكان، ينتهي صاحبها ببتر الطرف أو الموت بالاختلاطات. ووالدتي أنا بالذات ماتت من هذا الاختلاط، لذا أقوم أنا شخصيا بفحص السكر والضغط عندي كل 15 يوما، للتأكد من الصحة أو المرض وبداية الاختلاطات. وأذكر جيدا صور المرضى الذين حقن عندهم الإنسولين للمرة الأولى، وكيف دبت فيهم الحياة بعد يأس.
تمتد قصة الكشف عن الإنسولين في ملحمة من أعظم ملاحم الطب، بدءا من معرفة التركيب، إلى التركيب، إلى الوصول إلى تقنيات مذهلة، آخرها استخدام الخلايا الجذعية (Stem Cells) لتوليد وإنتاج الخلايا المسؤولة عن إنتاج الإنسولين، وهذه هي قصة العلم مع كل كشف هام.
في البداية ومن عام 1981م تم تحديد مكان (جين) الإنسولين على الذراع القصيرة للكروموسوم الثاني (II)، وكان (سانجر) أول من كشف عن الإنسولين، بعد جهد خارق استغرق عشر سنوات، فعرف أن تركيبه هو من سلسلتين من الأحماض الأمينية، تربط بينهما جسور كبريتية مضاعفة، وقبل هذا عرف مكان الخلايا التي تنتج هذه المادة السحرية، وأن مكانها هو غدة البنكرياس (المعثكلة)، وبالتحديد من بعض الخلايا في جزر أخذت اسم مكتشفها الكندي (لانغرهانس).
واليوم يقفز العلم قفزة نوعية بزراعة خلايا بنكرياس من جنين، أخذت منه هذه الخلايا السحرية لتزرع في بنكرياس مريض معتل، قد فسدت فيه جزر لانغرهانس، فيرمم وتعود وظيفته إلى الحياة مجددا.
وفي عام 1985م استطاع الكوبي الشارد إلى أوروبا (سفينتو بيبو) فتح الطريق إلى علم جديد في عالم الوراثة، ما يمكن تسميته آركيولوجيا الجينات (Paleogenetic)، فيمكن تحديد البصمة الجينية من أثر تافه للإنسان، أو أي كائن حي، واستطاع من مومياء فرعونية تحديد الكروموسومات الوراثية، ومن فكرته ولد فيلم «جوراسيك بارك Jurassic Park» المثير، حين انطلقت أوابد العهد القديم من الديناصورات التي عاشت قبل 150 مليون سنة، لينتهي الأمر بكارثة. ومن تطبيقات هذا الفن أيضا إدانة (كلينتون)، الرئيس الأمريكي الأسبق، من آثاره على ملابس عشيقته السرية التي كانت تمارس الزنا الفموي معه (مونيكا لوينسكي)، أو تبرئة الأسود (سامبسون) من دم زوجته القتيلة البيضاء. وكل يوم هو في شان.
وتكمن خطورة مشروع (كريج فينتر) الذي أنجزه لوحده، أنه سبق مشروع الجينوم البشري في (لوس ألاموس) الذي كلف 3 مليارات دولار، بمعدل دولار لكل حمض نووي في الكود الوراثي.
أما (كاري موليس) فقد تقدم بفكرة سباقة للكشف عن الحامض النووي من مخلفات تافهة من أي جرثومة أو فيروس تركت خلفها الحامض الخاص بها (الكشف عن فيروس كورونا هو من بركات هذا العلم)، عن طريق مضاعفته بفكرة في غاية البساطة، فنال على الفكرة مكافأة 10 آلاف دولار، لتباع براءة الاختراع لاحقا إلى شركة «هوفمان لاروش» بمبلغ 300 مليون دولار.
الدرس الكبير من مشروع (كريج فينتر) الذي أنجزه أن العلم ينمو بأسرع من الجنين وأكبر من الديناصور، حيث الدورة الرأسمالية تبعث النشاط في مفاصله، فمراكز البحث العلمي كما يقول الكاتب الليبي (الصادق النيهوم) تشكل أصغر مكتب في الشركات العملاقة، ولا يستطيع البحث العلمي أن يعيش خارج السوق الرأسمالية، إلا بقدر ما يعيش الحوت على البر. في دائرة مكتملة بين تمويل البحث وتسويق الإنتاج، أمام العالم العربي الذي يعيش معظمه في عصر الجفاف، تحرق فيه نار الهجير اللاهبة جلودهم منذ عصر جدهم إبراهيم، ولن تنقلب الأرض عليهم بردا وسلاما ما لم يطوعوا الطاقة الشمسية. قد يعينهم النفط أن يعيشوا اليوم، ولكن بيوتهم ستتحول في النهاية نارا تتلظى تهرب منها العقارب والأفاعي، وسيكون السر هو في إطلاق سراح المال العربي، عندما يتحول المواطن إلى مساهم وليس موظفا، وفي غياب صيغة مالية من هذا النوع سيبقى العرب ألف سنة أخرى على باب العلم دون أن يدخلوه.
أتذكر يوما أنني كنت عند موظف كبير في قسم الجوازات بمنطقة عسير، وكنت منكبا على بحث أسرار السلاح النووي، وهو ما تكلل في النهاية بكتابي «عندما بزغت الشمس مرتين»، حين كانت أفراد عائلة ويسلمان في جنوب أمريكا يمشون في الظلام بسيارة على طريق اتحادي، ليروا فجأة شروق شمس مفاجئ أضاءت منه رؤوس الجبال، ثم يعم الظلام مجددا؛ فلم يعرفوا السبب وكانت أول تجربة للسلاح النووي في لوس ألاموس، في منطقة تبعد أكثر من مائة كيلومتر.
تمتد قصة الكشف عن الإنسولين في ملحمة من أعظم ملاحم الطب، بدءا من معرفة التركيب، إلى التركيب، إلى الوصول إلى تقنيات مذهلة، آخرها استخدام الخلايا الجذعية (Stem Cells) لتوليد وإنتاج الخلايا المسؤولة عن إنتاج الإنسولين، وهذه هي قصة العلم مع كل كشف هام