كان سقراط فلتة عقلية وبالتعبير الطبي (طفرة)، مع هذا فقد حكمت أثينا الديموقراطية بإعدام سقراط عام 399 قبل الميلاد، والسؤال ما هو هذا الجُرْمُ الكبير الذي حكم على العقل الكبير أن ينطفئ في أثينا؟
في الواقع ليس من طريقة لتخليد الأفكار مثل الموت في سبيلها، و«عبد الناصر» بإعدام «سيد قطب» نشر فكره أكثر من ألف دار بحماقة تزيد على حماقة أشعب، وانتقلت (القاعدة الصلبة الواعية) التي بشر بها قطب في كتاب «معالم في الطريق» إلى كهوف تورا بورا. وهذا يحكي قصر نظر السياسيين، ولو عاش سيد قطب حتى اليوم، لكان شيخا طاعنا في السن تستقبله بعض المحطات الفضائية للحوار معه، أو أن يتكلم عن تاريخه في برنامج من نوع بلا حدود. وبذلك أفاده عبد الناصر من حيث أراد التخلص منه، فجعله حي الذكر يطبع كتابه «في ظلال القرآن» المرة بعد المرة، فهذه هي ميزة «الشهيد».
وأثينا بإعدامها سقراط خلدت ذكره إلى يوم الدين، وهذه هي الشهادة، لأنها تخلع عليه الحياة فلا ينال منه الموت، ويبقى ملتمعا مثل الشعرى اليمانية في أفق الإنسانية.
ومن الضروري الإحاطة بظروف إعدام هذا الرجل، فقد عاشت أثينا القديمة فترة من الزمن تنعم بنوع من الحكم الديموقراطي، السيادة فيه لعامة أبنائها، ولكن ما كادت المدينة العريقة تنهزم في حربها مع إسبرطة حتى انتكست فيها الديموقراطية، فقد أعاد الإسبرطيون فلول الأرستقراطية الأثينية إلى الحكم، فنكلوا بالديموقراطيين وحكموا على الكثير منهم بالإعدام، دون مقاضاة أو محاكمة.
كان عصرا أسود لف أثينا بظلامه، ولكن الخلاص كان في الطريق فقد عاد «تراسبيولوس» بعدد قليل من أتباعه، فانضم إليه أنصار الديموقراطية واضطر الإسبرطيون إلى أن يمكنوهم من حكم البلاد، ولكن ما إن مضت خمسة أعوام وحل عام 399 قبل الميلاد، حتى اقترف هؤلاء ما رأت فيه الأجيال اللاحقة وصمة عار في جبين الديموقراطية الأثينية، لا يمكن أن ينساها التاريخ.
كانت ثروة البلاد في هبوط، فراح كثيرون يبحثون عن كبش فداء يوجهون إليه اللوم، وكان الشعور سائدا بأن الفضائل اهتزت، وكان المسؤولون عن ذلك في نظرهم فئة من المعلمين ذوي الأفكار الجديدة يتقدمهم معلم يعمل نحاتا يقال له «سقراط». والحقيقة أن سقراط لم يترك كتبا تحمل آراءه، وإنما نقلها إلينا تلميذه «أفلاطون». ولم يكن لسقراط من عمل سوى التجول في شوارع أثينا، مغريا الناس بالجدل والمناقشة، دافعا إياهم عن طريق السؤال والجواب إلى البحث عن المعرفة الحقيقية والفضيلة، ولكي ينهض بتلك الرسالة كان لا بد من التشكيك في كثير من الأفكار السائدة، وهكذا أثار سخط عدد من الناس عليه، فاتهموه بالمروق الديني وإفساد الشباب. وقدم الفيلسوف إلى المحاكمة، وكانت محكمة غريبة تتكون من 565 قاضيا من العوام، خليطا من بائع متجول ومتسكع عربيد وقصاب وصياد سمك ومرابي. وعندما فرغ المدعي من تلاوة اتهامه نهض سقراط، وقال: أيها الأثينيون لقد عشت شهما شجاعا فثبت للعدو في ساحة القتال ولم أترك مكاني خوف الموت، وما أراني اليوم وقد تقدمت بي السن مستطيعا أن أهبط عن ذلك المقام في الشجاعة، فأتخلى عن رسالتي التي ألهمتني إياها السماء والتي تهيب بي أن أُبَصِّر الناس بأنفسهم، فإذا كان ذلك التبصير هو ما تسمونه إفسادا للشباب الأثيني، ألا إذن فاعلموا أيها القضاة أنكم إن أخليتم سبيلي في هذه الساعة فإني عائد من فوري إلى ما كنت عليه من طلب الحكمة وتعليمها، مهما يكن منكم بعد ذلك في شأني من رأي أو قضاء.
هنا ازداد ضجيج القضاة وأحس رئيسهم بالخطر الذي تتعرض له حياة الفيلسوف من مثل هذه اللهجة الحادة، فقال له: أليس من الأفضل لك أن تكسب عطف المحكمة، بدلا من أن تتحداها بهذا الزهو والشموخ؟
أجابه سقراط: وماذا تريدني أن أقول أيها الرئيس؟ أتريدني حقا أن أترضاكم يا أهل أثينا بالمديح والثناء الكاذب، وأن أرضي غروركم بالتوسل والبكاء، وأحضر زوجتي وأولادي أمامكم لترأفوا بحالهم وتنقذوهم من اليتم والترمل. إني لو فعلت ذلك لكنت أخذت بالعواطف الرخيصة دون إقناعكم بالعقل، والآن أيها القضاة احكموا بما شئتم فذلك شأنكم أنتم، واعلموا أن نفوسكم هي التي في كفة الميزان لا نفسي، فاحرصوا على العدل والحق فهو خير لكم وأجدى عليكم، وإني مستريح إلى ما بصرتكم به من عاقبة، فارعوا أنفسكم بما تتوخون من العدل أيها القضاة.
وعندما سأل كبير القضاة سقراط عن أي العقوبات يظن أنه يستحقها؟ وكان هذا السؤال مما جرت به عادة القضاء. أجاب مبتسما: إن أليق حكم تصدرونه علي أن تحكموا لي بأن أطعم وأكسى على نفقة الدولة بقية عمري، اعترافا منكم بما أسديت لأثينا وأهلها من الخير، وما بصرتهم به من الحق والعدل.
وصدر الحكم على سقراط بالإعدام، وأودع السجن حتى يحين وقت التنفيذ. في تلك الأثناء تسلل إليه ذات ليلة تلميذه الشاب «كريتون» وهمس في أذنه: لقد أعددنا كل شيء للهرب، فهيا بنا يا أستاذي إلى الحرية. فتطلع إليه سقراط طويلا، ثم قال: كلا يا كريتون لن أهرب من الموت، إني لا أستطيع أن أتخلى عن المبادئ التي ناديت بها عمري كله. أجل يا كريتون ليست الحياة نفسها شيئا، ولكن أن نحيا حياة الخير والحق والعدل، فذلك هو كل شيء.
وفي ذلك اليوم حمل إليه الحارس كأس السم فتجرعه سقراط بكل شجاعة المؤمن بمبدئه، فلم يخف الموت، لأنه كان على يقين من أن الخلود في انتظاره.
خالص جلبي