يونس جنوحي
العام سيعود بالتأكيد إلى زمن القراصنة.
رجال بدون سيوف ولا سفن، يجلسون في غرف مغلقة ويستهدفون الأنظمة المعلوماتية الأكثر حساسية للدول الكبرى، ويسرقونها تماما كما كان قراصنة العصور الوسطى يُشهرون راياتهم السوداء في عمق البحار، ويبحثون عن الكنوز، ويعترضون طريق سفن أخرى ويُغرقونها عمدا في المحيطات.
تناول تقرير نشرته صحيفة «ذي برنت» تفاصيل مثيرة جدا عن اكتشاف الحكومة الروسية، قبل أسبوع، أن قراصنة صينيين حاولوا سرقة بيانات أمنية روسية.
ويقول التقرير إن قراصنة صينيين أرسلوا عبر البريد الإلكتروني رسائل تحتوي على روابط «مفخخة» إلى عدد من العلماء والمهندسين الروس، الذين يشتغلون حاليا في برامج أبحاث ومؤسسات للتطوير، لكي يحصلوا من خلال تلك الرسائل على معلومات عن النظام الأمني الروسي.
وطبعا، هؤلاء القراصنة الصينيون لم يستعملوا أسماءهم العادية، بل أوهموا متلقي تلك الرسائل أن مصدرها هو وزارة الصحة الروسية، وأنها تتعلق بقائمة للأشخاص الذين تستهدفهم العقوبات الأمريكية لروسيا، بخصوص الحرب ضد أوكرانيا.
كانت «نيويورك تايمز» أحد أوائل المنابر الدولية التي فجرت هذه الفضيحة، وكشفت أن مصدر تلك الرسائل الملغومة هم القراصنة الصينيون، وقال التقرير إن الصين ترى روسيا على أنها «هدف مشروع لسرقة معلومات وبيانات عسكرية تكنولوجية حساسة».
هذه الحرب الجديدة، التي يبدو أنها لن تدور لا في البحار ولا في الغابات، سوف تكون لها تداعيات أخطر من الحروب القديمة التي تسير فيها المدرعات وتقصف فيها الجبهات.
حرب المعلومة، تبقى أخطر من الحروب الميدانية، لأنها تهدد الاقتصاد بشكل أكبر، وقد تتسبب في كوارث جماعية تتحكم في الأسعار والأمن القومي، دون أن يتم إطلاق رصاصة واحدة.
التقرير يقول إن هناك أدلة قوية ضد الصين، تؤكد وجود تحركات صينية للتجسس على روسيا. والمعروف أن علاقات متشابكة ومعقدة بين البلدين، روسيا والصين، تطورت في السنوات الأخيرة، خصوصا وأنهما توجدان في «معسكر» واحد في مواجهة سياسة الولايات المتحدة أخيرا، منذ عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما.
منذ يوليوز 2021، والتقرير يرصد تحركات القراصنة الروس وهم يستهدفون مصالح حكومية روسية، وآخرها المعلومات التي كشفها، الأسبوع الماضي، فقط بخصوص محاولات اختراق حواسيب المهندسين الروس الذين يعملون على مشاريع حكومية، بعضها بعيدة تماما عن المجال العسكري.
خبراء أمريكيون قالوا إن هذه العملية التي قادها القراصنة الصينيون، تبقى واحدة من أخطر وأقوى عمليات التجسس المعلوماتي في السنوات الأخيرة، وخطورتها لن يفهمها إلا الذين يقدرون جيدا علاقة المعلومات الأمنية والعسكرية بالوضع الاقتصادي العالمي الحالي. واعتبروا أن الحملة الصينية التي استهدفت المعاهد الروسية العاملة في مجال الاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية والرادارات والحروب الإلكترونية، تؤكد أن الصين مهتمة جدا بالسباق وتنوي دخول المنافسة مع دول تتوفر على خبرة تفوق ستين سنة، لكن المشكل أن تلك المنافسة «غير شريفة» كما وصفها التقرير.
صحيفة «نيويورك تايمز» صبت مزيدا من الشمع، وحمّلت الصين مسؤولية القيام بعمليات محظورة وغير مشروعة تهدد الأمن المعلوماتي للحكومات.
كنا دائما نعتقد أن العالم تغير، وأن زمن الإنترنت والسيارات الكهربائية و«الهولوغرام» سيقودنا إلى مستقبل بمعالم جديدة، لكن الحقيقة أننا ما زلنا نكرر الأخطاء نفسها التي قادت أجدادنا نحو «الحافة». كنا نظن أن القراصنة انقرضوا تماما وأن سفنهم لم تعد موجودة الآن إلا في المتاحف، وأن آخر أدلة أنشطة القراصنة تنام تحت عمق كيلومترات في بطن المحيطات، إلا أن القراصنة في الحقيقة لا يزالون على قيد الحياة، وما زالت أعلامهم السوداء ترفرف في انتظار مزيد من السفن..
وآخر هؤلاء القراصنة، فريق صيني راج في الإعلام الأمريكي أن اسمه «سكاراب»، قاموا بإرسال معلومات إلى منظمات أوكرانية يقدمون لهم فيها إرشادات عن الطرق الأكثر أمانا لتسجيل وقائع الحرب الروسية. وفي الأخير اكتشفوا أن تلك الإرشادات «مفخخة»، وتهدد الأمن المعلوماتي أيضا، أكثر مما تهدده الدبابات الروسية.