شوف تشوف

الرأي

قدر الشيخوخة

بقلم: خالص جلبي
صديقي المدخن الدكتور الجراح، قدري، رسى قدره في العناية المركزة وحين رأيته لم يكن ابن الخمسين بل الثمانين! لقد زارته الشيخوخة مبكرا، ولكن ما هي تحديدا؟
هل هي العمر الفيزيولوجي أم النفسي؟ فأما العضوية فتسم الشيخوخة بثلاثة مظاهر سريعة: المفاصل والعيون والذاكرة، فأما المفاصل فتبدأ بالطقطقة والتنكس، وأما العيون فتجف المدامع ويظهر الماء الأبيض والأزرق وتتكثف العدسة وتبدأ مشاكل الرؤية من الذباب الطائر والعتمات، وأما الذاكرة فتشتد الذاكرة البعيدة فهي حديد، وتخف القريبة فيبدأ الوسواس الخناس، وهناك من إذا خرج من البيت عاد إليه ليتفقد موقد النار وصنابير المياه وهل الباب مغلق.
إن حديث البيولوجيا مع تقدم العمر واضح لا يحتاج إلى ترجمان؛ فالقلب يضخ بـ75 في المائة من طاقته مع الشيخوخة، وتنكمش الرئتان إلى 40 في المائة من بث النفس، وتتراجع قوة قبضة اليد إلى 55 في المائة من بطشها، وينكس وزن الدماغ إلى 56 في المائة من كتلته. وتتراجع حليمات الذوق إلى 36 في المائة من طعمها؛ فلا يتلذذ المسن بطعام أو يهنأ بشراب، هذا إن لم تكن الأسنان تساقطت (هرت) فتحول إلى طفل يثغو!
وتتراجع الطاقة الجنسية بشكل حاد مع سن الـ48 عند الرجال، وهو سن اليأس لدى الرجال، كما كان انقطاع الطمث عند المرأة إيذانا بدخول مرحلة جديدة، من هبات عاصفة الضهي، وتغير السن من الشباب إلى الكهولة فالشيخوخة.
ومن كان مصابا بالسكري أصيب بالعنة وفقد الانتصاب بشكل أبكر. وهي كلها مؤشرات واضحة أن زمن الصبا ولى، فيصبح الزوجان صديقين بدون إغراءات جنسية، بعد أن ضوى الشباب، وذبل الجمال، وتجعد الجلد، وأطلت الصلعة، وفترت الهمة. وهو نداء أن وقت الإنجاب ولى، ووقت الحكمة أقبل. مع هذا فالشيخوخة لا تقاس ولا يراهن عليها بمؤشرات البيولوجيا، وإنما بالشعور الداخلي، هل بقي شيء للإنجاز أم لا؟
الشيخوخة إذن ليست تظاهرة فيزيائية ولكنها تجل نفسي؛ فإذا شعر المرء أنه ليس من شيء للإنجاز، كان معناه توقف الصيرورة، وكان معناه الموت قبل الموت. والموت هو الختم على كل صيرورة، ووقف لكل تحقق للإنسان.
والإنجاز هو الارتباط بالحياة عبر صيرورة متدفقة. هكذا عاش بيكاسو يبدع في الرسم حتى سن 91، وتزوج في عمر الثمانين شابة وهي الرابعة من الزوجات، وبقي بافلوف يشرف على أبحاثه حتى سن 86. وبقي كوفي عنان في معمعة السياسة حتى سن الثمانين، وعمر سنان التركي نصف مساجد وقناطر الدولة العثمانية وتزوج بعمر الثمانين وأنجب، وبقي جراح الأوعية الأمريكي ميشيل دبغي، اللبناني الأصل، يمارس جراحات الأوعية والقلب حتى وافته المنية بعمر 99، وسمعت له في مقابلة أنه عمل لزوجته عملية فماتت تحت يديه على طاولة العمليات رواها ولم يرف له جفن ولم تدمع له عين، وفي آخر عمره نصح من حوله أن يجروا له العملية التي اقترحها فكان له ما طلب. واستمر برتراند راسل، الفيلسوف البريطاني، يكتب في الفلسفة، ويقود المظاهرات، ويسجن من أجل السلام وهو في سن الثمانين. وأما يوسف بن تاشفين، شيخ المرابطين، فقد قاد معركة الزلاقة عام 1086م لإنقاذ الأندلس وهو شيخ في الثمانين، وأخر سقوط الأندلس أربعة قرون حتى عام 1492م. وبقي عمر المختار يقاوم الاحتلال الإيطالي لمدة خمس وعشرين سنة حتى شنق وهو شيخ مهترئ المفاصل. وتم اغتيال غاندي العجوز، داعية السلام، وهو شيخ محدودب الظهر. وقاد الخميني ثورة ناجحة في إيران وعمره فوق الثمانين، وتابع جان بياجيي أبحاثه في علم النفس الارتقائي حتى سن الشيخوخة المتأخرة. كما تابع الفيلسوف البريطاني برنارد شو نكته الساخرة وهو يدلف إلى خريف العمر، وحقق أديناور معجزة ألمانيا الاقتصادية وهو الشيخ المسن. وعمر الفيزيائي الدانماركي نيلز بور إلى قريب من سن الخرف، وهو الذي وضع الموديل الأول للذرة، استنادا إلى مفاهيم ميكانيكا الكم، وبقت باربارا مك كلنتوك تعمل في فك الكود الوراثي فاكتشفت الطفرة، وعرفت أن الجينات ليست مثل حبات اللؤلؤ على جيد حسناء، بل تغير مواقعها باستمرار (تذكروا طفرة فيروس الكورونا) . وبقيت تشتغل سبعة أيام في الأسبوع لمدة 12 ساعة يوميا بعشق، حتى وافتها المنية وهي عجوز في التسعين. وبقي لفينهوك يعمل على المجهر إلى ما قبل موته بساعة. وتسلم كوبرنيكوس أول طبعة من كتابه حول حركة الأرض حول الشمس وهو في سكرات الموت. ونشرت مجلة «الشبيغل» الألمانية عن (هانس بيته) الذي كان أول من كشف أن النجوم تستهلك وقودا نوويا وشارك في صناعة أول سلاح ذري ومات بعد نشاط علمي هائل بعمر 98 عاما، وأنا أطالع دوماَ صفحة الوفيات في المجلة حيث تأتي بأعلام الناس مما يذكرني بكتاب الأعلام للزركلي، وقرأت أخيرا عن موت ثلاثة مشاهير، الأول أوري أفنيري، السلامي الإسرائيلي الذي ترك خلفه كتاب (متفائل) واقترح دولتين في فلسطين ومات بعمر 94، وهو من أصل ألماني باسم (هيلموت أوسترمان Helmut Ostermann)، والثاني (غونتر فيللي
wille Gunther) ابتكر الحلقات البوليسية في التلفزيون الألماني بعنوان (مكان الجريمة Tatort)، فأنجز منها 1000 حلقة ويزيد، والثالث هي سيدة من الأرجنتين اسمها (ماريا إيزابيل كوروبيك دي مارياني Maria Isabel Chorobik de Mariani)، أنشات حركة النساء في وجه حكم العسكر وكن يتظاهرن أمام البرلمان، وكانت قد فقدت حفيدتها وبقت تتابع أثرها بدون جدوى حتى عميت بعمر 88 عاما، ولما ماتت بعمر 92 كانت آخر كلماتها: «عسى أن يأتي من بعدي من يعرف أثر حفيدتي أين اختفت». أنا لم يكن أمامي إلا دمعة حزينة أشاركها قصتها الحزينة، وأظن أنها اجتمعت بها في دار البقاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى