شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

فيسبوكيات (1)

 

 

يسرا طارق

 

حين اخترعت آلة التصوير وآلة النسخ قيل إن فن الرسم سيحتضر طويلا، ثم يموت، لأن قدرة هذه الآلة على إخراج آلاف الصور، من المشهد أو اللوحة الواحدة، ستفقدها فرادتها وغموضها وسينزع عنها هالة السحر التي كانت تحيط بالأعمال الفنية، وحين اخترعت السينما قيل إنها ستقتل الكتابة، والرواية خصوصًا، وعوض أن يجهد الواحد عينيه في تتبع قصة في كتابة، سيشاهدها ممثلة أمام عينيه بشخصيات من لحم ودم، وحين اخترع التلفزيون قيل إنه سيقتل الراديو أولا والسينما، وعوض أن يخرج الواحد في الليل والأحوال الجوية السيئة لمشاهدة فيلم وسيؤدي فوق ذلك ثمنا، سيجلس في بيته ويستمتع بمشاهدته. لم يمت الفن التشكيلي أو التصويري، ولم تمت السينما ولم يمت التلفزيون حين اخترع جهاز الفيديو، بل تكيفت كلها مع الوقائع والاختراعات التي تلدها الحداثة، لكن بعض المخترعات ماتت، أفلست الشركات التي كانت تنتجها. ماتت الأسطوانات حين اخترع «الكاسيط»، ومات «الكاسيط» حين اخترع «السيدي» واندحر «السيدي» أمام مفتاح «اليوسبي».

كان لزاما على هذه الحداثة، التي لا تتوقف عن إنتاج الاختراعات التي تيسر حياة الناس وتعقدها في الآن نفسه، بل تفرغها من إنسانيتها، أن تصل للكيفية التي يتواصل بها الناس في ما بينهم، فبدأت بالتلغراف والهاتف الثابت، وحين اخترع الهاتف النقال، وتطور بسرعة إلى درجة أنه صار يتوفر على شاشة، وعلى ما يشبه الحاسوب الصغير الذي بإمكانه أن يؤدي خدمات عديدة، ظهر «الفايسبوك» وانتشر بسرعة هائلة، وظهرت تطبيقات مماثلة تصل الناس بعضهم ببعض أينما كانوا. لم يعد الناس في حاجة للرسائل ولا لانتظار ساعي البريد، لم يعد الناس في حاجة للكتابة وللبحث عن منبر لينشروا آراءهم، لم يعد الناس يتدرجون من بريد إلى القراء إلى صفحات الشباب، ليصلوا إلى الملحق الثقافي، لينشروا قصائدهم وقصصهم وكتاباتهم، بصفة عامة. لقد منحت وسائل التواصل الاجتماعي حق الكلمة للجميع، بمن فيهم الأطفال والأشباح والشياطين والذباب، وجعلت الناس يعيشون في بيت واحدٍ افتراضي، يبنون فيه الصورة التي يريدون أن يكونوا عليها، بل إن هذه الوسائل الاجتماعية خلقت سوقا يشبه الأسواق الأسبوعية يجد فيه كل واحد ما يريده ويعرض فيه ما يريده، ومثلما لكل شيء مزايا له مساوئ، فمثلًا، غطت وسائل التواصل هذه على ضحالة العمل السياسي للأحزاب، وضعف، بل انعدم التأطير السياسي، وصارت تمنح منابر للناس، يناقشون فيها قضايا سياسية، ويبنون فيها، أحيانا، رأيا عاما حول قضية معينة، ومثلما أخرجت الجيد في الناس، أخرجت السيئ، وصارت منبرًا لعرض العاهات النفسية، والعقد، والحاجات المزمنة لتمجيد الذات وتعظيمها، حتى أن البعض صار يتحدث عن وباء «الفايسبوك» الفتاك الذي أفسد طفولة الأطفال، وسمّم الأجواء العائلية وجعل الحياة الحميمية، التي من المفروض أن تكون لها قدسية، مِلكا مشاعا لمن هب ودب…(يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى