فيروس مستجد وسياسة مستجدة
بيير لوي ريمون
في برنامج من إذاعة فرنسا الثقافية(France Culture) بُث قبل أيام قليلة، أثارت انتباهي الطريقة التي تعامل بها المعلقون، بل أيضا الرأي العام، مع ظواهر تفشي الوباء الجديد المنتشر عالميا. لقد تحدث مؤرخ للطب وأستاذ في المعهد الفرنسي للعلوم الطبية، عما سماه «التوصيفات الاستعارية»، التي تجلت في ربط المرض بظواهر اجتماعية، أو اقتصادية منفصلة عن السياق «الكلينيكي»، أي مجمل آليات الاختبار والتحليل المحصورة في حقل الطب.
هكذا، استقرأ الخبير تاريخ الأمراض باختصار، ليضع سياق كورونا في إطار أشمل، فربط فيروسHIV المتسبب في انتشار مرض الإيدز بتأولات اجتماعية غاية في الخطورة، لخلوها من أي تفسير طبي ووازع أخلاقي، ربطت المرض بالمثلية في المخيال الجماعي، مثلما تفشت نظرة، حللت انتشار وباء «كوفيد- 19» من منظار آثار العولمة، والقصة المتداولة إلى ما لا نهاية عن تناول حساء الخفافيش في الصين وانتقال الفيروس إلى حيوان «البناجولين»، بدون الأخذ بعين الاعتبار أن «كوفيد- 19» فيروس منبثق عن فصيلة من الكوفيدات الأخرى، شهد تحولا غير مسبوق جعل تفشيه وبائيا.
تطرح هذه الظاهرة إشكالية أعم وهي ربط المجال الطبي بالمجال غير الطبي، عبر انتقال بؤرة التحليل من شبكة قراءة البحث العلمي إلى التقدير العام، الذي قد يعتمد على بيانات ومستندات محققة وقد لا يعتمد.. وهنا بيت الداء، الذي يتشارك فيه السياسي والرأي العام، كل وفق نهجه. فلنتكلم عن النهج السياسي أولا، بحيث يدخل النهج السياسي في الحساب ضوابط اقتصادية منفصلة تماما عن النهج الطبي. لو أخذنا النهج الفرنسي مثلا، إعلان العودة إلى المدارس، الذي يمكن اعتباره مبكرا، قياسا بقرار مثل الذي اتخذته إيطاليا، لا يمكن قصره في سعي لاحتواء الإخفاق المدرسي، الذي بات يتربص بالتلاميذ الأقل استفادة من تأطير عائلي خارج المدرسة، فهو قرار تحكمه ضرورة إرجاع دواليب الاقتصاد إلى سكة آمنة، ولنقل أقل جلبا لمخاطر «انهيار» البلد، وهو مصطلح استعمله رئيس الوزراء الفرنسي في خطابه المطول أمام البرلمان، قدم فيه خطة إنهاء الحجر الصحي. القرار، هنا، سياسي، وإيطاليا أيضا اتخذت قرارا سياسيا لكن مختلفا، هدف إلى إعادة اقتصادها إلى السكة، لكن دون اعتزام فتح أي من فروع تعليمها. فقط أخذت مسار العودة هياكل الإنتاج، بمعنى المصانع أساسا، علما أن إيطاليا أكثر تضررا من الاقتصاد الفرنسي، المنهار، لكن ليس إلى هذه الدرجة.
في هذه الأزمة تختلف زوايا الفحص، وبالتالي طبيعة القرارات. فلئن كان القرار يعود دائما في نهاية المطاف إلى السياسة، قد يكون مصدره سياسيا وقد لا يكون، فقد نشأ على إثر الأزمة الصحية في فرنسا ما يسمى المجلس العلمي، بعبارة أخرى، مجلس الأطباء الخبراء الموكول إليهم تقديم المشورة للحكومة، بعبارة أدق رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية (وبعبارة مباشرة أكثر رئيس الجمهورية).
هنا وقع ما وقع: من ناحية مدة الحجر الصحي، تابع رئيس الجمهورية مشورة مجلس الخبراء حرفيا، لكن خطابه الأخير الذي وجهه إلى الأمة يوم 13 أبريل الماضي أحدث قطيعة واضحة مع توصيات الخبراء الطبيين. ليس بالضرورة من ناحية تحديد تاريخ لنهاية الحجر الصحي (المحمل بسيل من الشروط تمنع ربطه بعودة مرتقبة إلى الحياة الطبيعية)، لكن القطيعة الواضحة كانت بقرار عودة تدريجية لتلاميذ المدارس إلى مدارسهم (الجامعات تظل مغلقة حتى شهر شتنبر). هذه العودة، كان تحفظ عليها أعضاء المجلس العلمي، عبر تقرير من 11 صفحة شعروا بضرورة كتابته لتعديل توصياتهم، تحت ضغط القرار السياسي، فتركز محتوى التقرير على تقديم بعض الحلول، لمواكبة عودة وصفها أحد أعضاء المجلس العلمي في تصريح للإذاعة بالـ»غاية في التعقيد».
هل نختصر قرار الحكومة الفرنسية في «إما صحة أبنائنا، إما موت اقتصادنا؟»،
لا أعتقد ذلك، فالحكومة لا تزال متخبطة في القرار، آخر المستجدات تحصر هذه العودة التدريجية على تلاميذ فروع الحضانة والمدارس الابتدائية، أي الأقل عرضة للفيروس، بعد أن تم تعليق فجائي لقرار مسبق بإعادة فتح المدارس الثانوية. هنا، تتجلى حدود طبيعة القرار السياسي ومدى رجاحته في سياق غير مسبوق يختلط فيه كل لحظة السياسي بالطبي، أي العلمي بالتقديري.
التقديري، عرفناه لحد الآن كمعيار وسيط، كدعامة كسند، وليس كلبنة مركزية تسبق كل قرار. لكننا نواجه في الوقت الراهن وضعا لا مثيل له، يحتم علينا أن ننظر إلى معاني السياسة من جديد، أهمها ينطلق من المعنى الأصلي، كما توجب أن يظهر في المعاجم من الآن فصاعدا «ساس يسوس الجماهير والشعوب، أي قادهم في تلاؤم بين رفاه البلاد ورفاه العباد».