شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

في مقام الدولة الوطنية

عبد الإله بلقزيز

 

إذا كان من مورد استراتيجي حيوي لصناعة التقدم والبناء الحضاري اهتدى الغرب إلى حيازته، فهو ذلك المورد الذي تجسد في كيان الدولة الوطنية الحديثة، ونجح هو في إنتاجه.

نعم، يمكن أي مؤرخ منصف أن يَنْسُب إلى الغرب فتوحات تفرد، فعلا، بصناعة فصولها قبل أن ينتقل بعضها – أو بعض نتائجها – إلى أصقاع العالم كافة. يمكن أن يَعُدَّ النهضة، والإصلاح الديني، والثورات العلمية، والثورة الصناعية، وسيادة العقلانية والنزعة التجريبية، وفلسفة الأنوار، وحركات التوحيد القومي، والثورات السياسية الكبرى، والعلمنة… في جملة تلك الفتوحات التي لم يشارك أحد أوروبا والغرب في إطلاقها؛ ويمكن عدها في جملة مواردهما الاستراتيجية التي صنعت لهما التفوق والسيادة، وصنعت لنموذج مدنيتهما الحديثة ذلك القدر الهائل من الجاذبية في العالم.

مع ذلك، ليس مثل بناء الدولة الوطنية صنيع زود أوروبا والغرب بأسباب القوة، حتى إن تلك الفتوحات جميعَها تَقْبَل النظر إليها بما هي مقدمات رئيسة وشروط لازبة لانبثاق ذلك الحدث التاريخي الكبير الذي مثله قيام نظام الدولة الوطنية في أوروبا العصر الحديث.

هذا يعني، ابتداء، أن أوروبا تدين في تقدمها وقوة مدنيتها إلى العامل السياسي في مقام أول؛ وأن السياسة هي مفتاح كل أفق في الإمكان ارتياده. وليس في هذا أي استصغار لشأن عوامل أخرى كبيرة ذات أثر في سيرة التقدم الأوروبي والغربي، من قبيل: النهضة، والعقل، والعلم، والصناعة وسوى ذلك، وإنما القصد منه القول إن السياسي هو المركز المحرك لمجموع العوامل الأخرى التي تشتغل داخل آلة النظام المجتمعي؛ فكأنما السياسي محرك تلك الآلة الذي به يكون انتظام عملها.

والحق أنه بمثل ما هيأت الفتوحات الأوروبية الكبرى، المومأ إليها، الشروط والأسباب أمام نشوء نظام الدولة الوطنية الحديثة، أتتْ نشأة هذه الأخيرة تقدم للمكتسبات والفتوحات تلك مدى رحبا للفشو والامتداد وممارسة التأثير خارج أوروبا والغرب.

وحين يقول مَن يقول، اليوم، إن مدنية أوروبا والغرب اكتسحت العالم وصارت «كونية»، وفرضت على مجتمعات الأرض وأممها ظواهرها الكبرى (الرأسمالية، الصناعة، التكنولوجيا، العقلانية، العلمنة…) ومعاييرها ومنظومات قيمها، وثقافاتها ولغاتها…، فما ذلك إلا لأن هذه وجدت لها حاملا ورافعة حملتْها إلى العالم وأَنْفَذَتْها فيه هي الدولة الوطنية الحديثة.

والحق أنه ما كان يمكن لحقيقة من هذا النوع لِتَفُوت أحدا في العالم، من خارج أوروبا، ومنذ القرن التاسع عشر؛ خصوصا من النخب السياسية والفكرية التي أبدت مستويات متفاوتة من الانبهار بالنموذج الأوروبي في المدنية، فسعى بعضها إلى الاقتداء به ومحاكاته مصادفا نجاحا في ذلك (يابان الميجي)، فيما تعثر آخرون في إصابة مثل ذلك النجاح في هذا المضمار (مصر محمد علي). وفي الحالات التي وقع فيها استلهام النموذج هذا – في اليابان كما في البلاد العربية (مصر، تونس الباي، مغرب السلطانين محمد الرابع والحسن الأول) – ظل المشترَك المتكرر بينها هو حسبانها الإصلاح السياسي أم الإصلاحات جميعها والمدخل الأصوب إليها؛ وهو الحسبان الذي مبناه على الاعتقاد العميق بأن سر قوة النموذج الأوروبي سياسي، وأنه يكمن في نظام الدولة الوطنية. وهو، من غير شك، تقدير سليم من تلك النخب لمواطن قوة ذلك النموذج ولمبدأ جاذبيته لدى شعوب وبلدان عدة. وليس مستبعدا أن يكون حسن تقديرها ذاك تولد من واقع أنها سبقَ لها أن اصطدمت بالاستعمار وأدركتْ، على التحقيق، موارده السياسية الحقيقية التي مكنته من الظفر بغزو العالم وبَسْط سلطان السيطرة والنفوذ عليه.

وقد يقال اعتراضا، أو استدراكا نقديا، إن أوروبا شهدت على تاريخ مديد من تجارب الدولة فيها، ولم يكن نظام الدولة الوطنية أول عهدها بالدولة أو بالسياسة؛ وهذا قول صحيح، ولكنه يَذْهل عن الجوهري والأساس في المسألة. ليست العبرة في أن لأوروبا – شأن غيرها – تاريخا دولتيا زاخرا بنماذج مختلفة ومتعاقبة من الدول، بل هي في فرادة الدولة الوطنية وتَمايز نموذجها عن أنماط الدول السابقة، بما فيها ذات التاريخ السياسي العريق مثل الإمبراطورية الرومانية.

إنها – ومن دون سواها من السابقات – الدولة على الحقيقة: الدولة القائمة على مقتضى العقل والعقلانية، وعلى إرادة شعبها ومواطنيها؛ والدولة التي تعثر فيها السلطة على نظام مناسب من التوزيع يكفل توازنا فيها هو، في الوقت عينه، شرط لازم للاستقرار، ولاستتباب السلم المدنية، ولكفالة الحريات العامة والخاصة، ثم لترسيخ مبدأ حاكمية القانون. يتعلق الأمر هنا، إذن، بفرادة تميز بها نموذج هذه الدولة الحديثة؛ وهي الفرادة التي يجري عليها الكلام هنا.

نافذة:

بمثل ما هيأت الفتوحات الأوروبية الكبرى المومأ إليها الشروط والأسباب أمام نشوء نظام الدولة الوطنية الحديثة أتتْ نشأة هذه الأخيرة تقدم للمكتسبات والفتوحات تلك مدى رحبا للفشو والامتداد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى