شوف تشوف

الرئيسيةبورتريه

في رحيل محمد الأشهب

العابر بنعال من ريح

محمد الهرادي
نحن الآن في أوائل السبعينات من القرن الماضي، ويمكنك بسهولة أن تجد نخبة عاصمة المملكة الشريفة التي ما زالت تتنفس بمزاجية لامبالية هواء حالة الاستثناء، وهي تتجول أو تتموقع في شارع محمد الخامس: عبد الخالق الطريس يرشف قهوته خلف واجهة بيزيريا دي روما الزجاجية، متتبعا بعينيه الناعستين تفاصيل العابرات والعابرين القلائل، علال الفاسي ينزل متثاقلا من شارع غاندي رفقة المساري الشاب في اتجاه العلم، وغلاب ينتظرهما لمعرفة ما قال الفقيه باحنيني في وزارة ثقافة الأندلسي وكعب غزال، الوزير بنهيمة يتجول في الشارع مزهوا بربطة عنق جديدة، وذلك بعد أن خرج من البيت الوظيفي لمدير عام الفوسفاط محمد كريم العمراني المركون قبالة جامع السنة، وأصبح اليوم متحفا للفن الحديث، عبد الهادي بلخياط يسوق سيارته الرياضية المكشوفة ويلوح متفاخرا لعبد الوهاب أكومي الذي يعبر الشارع راجلا، أو يتبادل كلمات مع إدريس الجاي الذي يرافقه فريد بنمبارك، عبد الله العروي يشرب قهوته في تيرمينوس ويقرأ صحيفة (لا فيجي ماروكان)، شقيقة الصباحية البيضاوية المسماة (لو بوتي ماروكان)، بينما الخطيبي يدردش مع بعض أصحابه في مطعم الساروت القريب، وقتها يكون أحمد المجاطي مسترخيا في مقهى بياريتز قرب أسواق لافاييط، يشرب جرعة قهوته السوداء في الطاسة قبل أن ينهض لمواجهة أحابيل ليله الطويل، ويكون عبد الجبار السحيمي قد غادر مكتبه في العلم بشارع علال بنعبد الله الموازي ورتب موعدا مع الفيلالي، منظم الحفلات، أو مع الجيلالي الغرباوي الرسام، بينما يكون إدريس الخوري الذي قدم للتو من درب غلف مركونا في معتكفه ببار الفوكيتس، أو لدى محل (مولاي) الذي كان قد كلفه رئيس الكتاب محمد عزيز الحبابي بترتيبات كسكس دار الفكر..

في هذا الشارع الرئيسي للعاصمة، وفي تلك السويعات الملتبسة، الفاصلة بين الشك واليقين، كنت ترى شابا نحيلا يتجول على غير هدى في جنبات الشارع دون أن يعيره أحد أي اهتمام، اسم هذا الشاب محمد الأشهب، قدم حديثا من فاس ليجد حلمه في عاصمة الملك، ولذلك اشتغل صحفيا متعاونا بالعلم بتوصية من أستاذته خناثة بنونة، ولأنه دوما كان يبحث عن ما يشبع فضوله الفطري، فإنه يلج تلك اللحظة بوابة مقهى السفراء المقابلة لبناية بنك المغرب العتيد، وتدرك من خلال نظرة سريعة إلى ابتسامته التي لا تنطفئ، أو إلى عينيه الساخرتين المشاكستين، أنه سيتحدى عالم الرباط المحشو بالرجال الجوف، وأنه مسلح بإصرار وعناد موروثين من أرومته القبلية، وأنه سيصل إلى هدفه مهما كانت الوسيلة.

مسرح الهواة.. مشاهد لم تعمر طويلا
أتى محمد الأشهب من مسرح الهواة، وهو المصهر الذي تختبر فيه معادن وخطابات الشباب الموهوبين الباحثين عن أفق للتغيير، لا يشبه الأشهب صديقه محمد الكغاط ولا تيمود المتوغل في صوفيته المسرحية، في البداية اشتغل بتواضع كما هو مفترض في منطقة الظل، داعيا مهارته التعبيرية وقدرته على التواصل إلى صنع تفاصيل مشاهد لم تعمر طويلا، لم ينظر لتجربته المسرحية كما فعل عبد الكريم برشيد أو رفيقه الزروالي الذي اشترى إيركاط من الخردة وجاب بها البوادي والمدن الهامشية بمسرحه الفردي، ولا كتب نصه الرئيس كما فعل محمد الحبيب حين كتب (موت اسمه التمرد) ثم اختفى، وكان الأمر مستغربا وقتها حين غاب اسمه من قائمة المشاركين في عدد (آفاق) الخاص بالمسرح الذي أصدره عزيز الحبابي، وحرره حسن المنيعي بتنسيق مع الكاتب العام لاتحاد الكتاب العربي المساري، وربما أدرك الأشهب منذ سنوات شبابه الأولى أن المسرح الحقيقي يوجد خارج (المسرح) المسيج بأبعاده التقليدية، وكانت خطوة الانتقال إلى الرباط العاصمة مدخلا لتفتح شهيته لخوض غمار (مغامرة معقدة) بالمعنى الذي طرحه السينغالي حميدو خان في روايته التي تحمل نفس الاسم.
في (العلم) كان يتلقى تعويضا فيه مزيج من الرمزية والسريالية من يد مساعد المحاسب الحاج سليمان، الرجل غريب الأطوار الذي يقيس مقالات الكتاب والصحفيين بأداة الخياط وبائع الزليج: المتر. يلحظ البواب اللطيف الحاج عبد النبي، المعتاد على ارتداء الطربوش الوطني، علامات حيرته، فيتطلع لملاطفته بكلمة وابتسامة وينتهي بعدها الدور. كان رئيسه المباشر في (العلم) هو المحجوب الصفريوي، أما رئيسه الفعلى فهو عبد الجبار السحيمي، العراب مكتشف المواهب. يعرف عبد الجبار أن الأشهب يشتغل في الجريدة بلا مكتب، مرة يزاحم الصفريوي في مكتبه إذا احتاج لفسحة زمن لكتابة المطلوب، ومرة أخرى يحتال على عمر نجيب، مصري الجنسية، وابن مؤرخ الفلسفة الإسلامية وفرق الكلام الأستاذ محمد نجيب البهبيتي، لكن في غالب الأحيان يكتب الأشهب في الزحام، وعلى طاولات المقاهي والملاهي، وأينما كان موجودا بلا تحديد، وبسرعة قياسية. عبء ثقيل ولكنه ضروري. وهو في هذه الحالة، وإلى حد ما، وبقدرته الاستثنائية على الاسترسال في صبيب الكلمات الذي لا يتوقف، يشبه الصحفي المتميز المرحوم عمر الأنواري، هذا الرجل الأخير الذي بقي صامدا في عزلته بعد أن اجتهد وأعطى بعضا مما عنده من كلمات جميلة، وغادر حياتنا نحو الظلال على غفلة منا. لكن قبل عمر الأنواري الذي جاء متأخرا كان هناك صحفي مغربي آخر نادر، التحق هو أيضا بالعلم في بداياته، نتكلم هنا عن عبد القادر شبيه الذي اجتمعت فيه مزايا الانفتاح الثقافي واللطف والمهارة والذكاء الصحفي الذي هو عملة نادرة، وتلاقى طموح هذين الشابين اللذين تنسما أفقا آخر لعتبات جديدة، فقد كان مغرب آخر يتشكل أمام أعينهما، ويشعران أنه يدعوهما إليه .

المغرب الآخر
هذا المغرب الآخر انطلق منذ أواسط السبعينات. الهوة التي كانت تفصل بين من عارضوا أو امتنعوا عن التصويت على دستور 1962 وخسروا انتخابات السنة الموالية بعد حرب الجزائر وصعود أوفقير وزيرا للداخلية أوصلوا عربة المغرب المعطوبة إلى محطة المسلسل الديموقراطي المشكوك في جدواه وتوافقاته، رافق كل ذلك انفتاح سياسي مع عروض مغرية للمشاركة رمزيا في الحكم رافقت استرداد الأقاليم الجنوبية في 1975. في هذا السياق يحكي مصطفى السحيمي بعض تخريجات وخلاصات أفكار مفيدة في الكتاب البيوغرافي المخصص لأحمد رضا كديرة، والذي نشره تقربا منه ومن سطوة نفوذه، ومع ذلك فهو مفيد للملمة عناصر الصورة. أحيانا كانت الصحافة الحزبية المنفردة بجلد مشهد سياسي متحرك وصلب في آن، تتوسع بوتيرة سريعة وحاسمة بعد أن شرعنت معارضة الخارج الجذرية وجودها في الداخل، أحيانا تقارن هذه الصحافة رضا كديرة بشخصية الوزير باحماد (أحمد بنموسى)، الصدر الأعظم على عهد السلطانين الحسن الأول وعبد العزيز، والذي كان متحكما في الأمور وصارما في ولائه لمولاه إلى حد بعيد، وهي نفس المقارنة التي انتقلت أوتوماتيكيا إلى الوزير الصاعد إدريس البصري وأصبحت صفة له، مع أنها صفة قاصرة عن وصف آلية السلطة وتموقع رجالها في الهرمية التقليدية، حدث ذلك قبل أن تصفي ذكراه يد المنون ويقبر في النسيان ويضمس في أوراق الماضي، وقتها كانت يد السلطة فارغة على المستوى الإعلامي، وكان ربحا معنويا كبيرا لأزولاي أو الفيلالي أن يستقطبا إطارا ثقافيا من حجم نور الدين الصائل وقتها، أما على المستوى السياسي فقد كان يكفي استدعاء الحبيب المالكي أو المهدي العلوي لتولي منصب ما كي يتدفق السيل تبعا لذلك نحو إدماج خيرة الأطر المعارضة في وزارة الداخلية وفروعها المتشعبة، بل في مختلف مرافق الدولة المتوجسة الخائفة من ظلها، الباحثة عن مخرج وأمان واستقرار لذاتها هي، أما النقاش الحقيقي لإعادة ترتيب أوراق السياسة الداخلية فقد كان يمر في العادة عبر فلتر (المراكز) القوية في النقابات وأجنحة التنظيمات السياسية التابعة أو الشاردة، وأحيانا بين الأسماء الضالة عن بضاعتها الأيديولوجية، فلا تجد لها في النهاية غير حضن المخزن الذي يمنحها الأمان وبعض العطاء. وكان المخرج والمنتج المنفذ لكل هذه الفذلكة السائبة أستاذ جاء من كلية الحقوق وكتب أطروحة عن رجال السلطة والإدارة الترابية، وفعل العجائب والغرائب التي حولته إلى اسم في المساومات السياسية، وهذا الأستاذ يعرفه الجميع باسم إدريس البصري.

ملامح السيرة الأولى
قصة صعود وسقوط إدريس البصري معروفة، لكنها تحتاج إلى إعادة تقييم ونظر، كما هي محتاجة إلى بحث متأن في سرديات المشاركين في صوغ المرحلة وبأصوات من أسهموا في تأليهه. لكن في هذا التخبط القاتم لم يفقد محمد الأشهب ملامح سيرته الأولى ووفاءه لصداقاته مع الذين رافقوه وجايلوه من أمثال المسرحي أحمد العراقي، والرسام محمد البوكيلي الذي أسس دار نشر ومشروعا ثقافيا طموحا بالقنيطرة يحمل اسمه، كانوا جميعا يملؤون شقة العزاب الواقعة بحسان بصخبهم ومبارزاتهم الكلامية وحكاياتهم الممتعة، وفي نفس العمارة جاوروا إبراهيم الخطيب ومحمد بوخزار حين أقاما معا بنفس العمارة المهملة بعد أن قدما من كلية آداب فاس للاشتغال في التعليم أواخر الستينات، وفي نفس الوقت، كانت رفاقية الأشهب تسير على سكتها مع عبد القادر شبيه، وبالفعل، قربته هذه الصداقة أكثر من صحفي مراكشي آخر هو عبد الله الستوكي الذي كان يتحرك في تخوم بعيدة وقنوات أخرى، وضمن شبكة علاقات متعددة متنوعة بحكم تكوينه الفرنسي، إلى أن جاء شخص ما ذات يوم إلى محمد الأشهب وطلب منه لقاء المعطي بوعبيد، ذلك اليساري القديم المنشق عن عبد الله إبراهيم، وكانت الدولة محتاجة وقتها لتأسيس حزب جديد بديل لجبهة كديرة التي انفرط عقدها بقوة الأشياء بعد أن فاحت روائحها، حينذاك كتب محمد الأشهب في وقت قياسي أدبيات المؤتمر التأسيسي لهذا الحزب الوليد الذي عمدته القابلة باسم الاتحاد الدستوري، وكان وضع كلمة (الاتحاد) ضرورة حيوية في عقد الازدياد لخلق الالتباس المناسب بين اسم صاحبه (بوعبيد) واسم مولوده (الاتحاد).

رقابة ذاتية
سنوات بعد ذلك كان محمد الأشهب يكشف عن بعض تفاصيل هذه المرحلة، يتكلم مثل طفل مبتهج يلعب بقطع دومينو يضع فيها وزراء الحكومات المتعاقبة وبرلمانييها وقادتها الحزبيين في شبكة حكايات غريبة لا تتوقف، أموال تهدر ومواقف مضحكة وجهل مطبق وغباء سياسي وأخطاء قاتلة وخسارات كانت هي الحائط الذي يتكئ عليه المغاربة لتقرير مصيرهم وطريقة عيشهم في عالم متحول، لم يكتب الأشهب للأسف في سلسلة مقالاته الأخيرة بجريدة (الأخبار) إلا ما يليق بالنشر للعموم، ولو حدث أن كسر رقابته الذاتية التي سجن نفسه فيها وكشف عن المستور، وكما حدث مرارا بالفعل، لأثار من حوله الزوابع، ولأخرس لسانه عنوة، ولكنه كان ذكيا بما يكفي ليكون ضحية مبتور اللسان.
قادته هذه الانعطافة أو القفزة نحو الضفة الأخرى التي فاجأت أصدقاءه نحو الاحتماء تدريجيا تحت ظلال أحمد رضا كديرة أيام قربه ومجده، وكان أيضا قربه الحميم من ناديا برادلي وشقيقتها غيثة مدخلا لذلك، ومن هذا القرب المزدوج بين المستشار النصوح والصحفية التي تحررت من سجون إسرائيل بتدخل خارجي عالي المستوى، تمددت علاقته مباشرة نحو إدريس البصري، خصوصا بعد أن أصبح رئيسا لمكتب جريدة (الحياة) اللندنية بالرباط، كان الأشهب هو النقيض المطلق لوضع صحفي آخر له اعتباره هو خالد الجامعي الذي اشتهر وقتها برسالته المفتوحة إلى الوزير القوي، لكن (الحياة) ليست هي (لوبينيون) التي كان يديرها برادة (المحامي)، ولا تتمتع بنفس الانتشار، فقد صنفت الصحيفة اللندنية الممولة من السعودية مرارا بكونها أداة موثوقة للاستعلام لها مصداقية لدى الأجهزة الغربية، وخصوصا الأمريكية، ومن الضروري التحكم في قناة المعلومات السياسية والاقتصادية عن المغرب ونوعيتها وجرعاتها، وهذه الأخيرة كلف بتحريرها الصحفي محمد الشرقي لفائدة الصحيفة، وكان إدريس البصري يعرف ذلك بالتأكيد ويشجعه، بمثل معرفة أحد محرريها الكبار المقرب من مصادر القرار بحجم عبد الوهاب بدرخان.

نخب متعددة المشارب
في فيلا ناديا برادلي بالحي الراقي بالدار البيضاء حيث يوجد مساء وعلى الدوام محمد الأشهب، تلتقي نخبة متعددة المشارب والأهداف والنوايا. كان الحضور القوي لصوت رضا كديرة بالطبع، ممثلا في نادية وحوارييها من قادة الصف الثاني لنقابة الاتحاد المغربي للشغل ومن عائلة المحجوب بن الصديق، أحيانا كان اسم شهير من قيادة نقابة “السي دي تي” في عز أزمتها حين مقاضاة الأموي الذي استعار كلمة (المغناطيس) بعد ترجمة حوار له مع صحيفة إسبانية، وهو عادة يحضر لتبليغ رسالة، أو لاختبار مؤشرات موقوتة، يحضر أيضا بعض كتاب مجلة المنبر الليبرالي التي تملكها ربة المكان ويديرها الأشهب بشكل صوري وهو يكتب مقاله اليومي للحياة على ورق صقيل قبل أن يبعثه إلى لندن بالفاكس، أحيانا كان حضور محمد بنيحي صاحب (البلاغ) التي قيل إنها عوضت (المحرر) بعد إغلاقها يمنح الجلسة تميزا، يدير مفاوضات بالوكالة حول عودة المنفيين وأمور أخرى، أما حين يكون بالحضرة حول المائدة الدوارة المستديرة الملأى بالخيرات صاحب رواية (أكادير) محمد خير الدين فاعلم أنه سيترك نصا شعريا سيكتبه على عجل وعلى أي ورق يصادفه أمامه، وأنه سيأخذ تعويضه في الحال قبل أن ينشر في العدد القادم، ثلاثة أرباع الحاضرين في هذا المحفل عابرون مجهولو الهوية: شخصيات من أحزاب الإدارة الراشية تبحث عن لقاء مباشر مع حماة المكان، البصري أو كديرة، وآخرون أتوا بحسن نية أو ربما ببلاهة زائدة عن الحد ليرشحوا أنفسهم كوزراء في التعديل القادم، بينما آخرون لا يحتاجون سوى إلى تدويرة، وليذهب الباقي إلى الجحيم.

عداوات جديدة
في هذه المعمعة وخارجها اكتسب الأشهب عداوات جديدة، تتسع رقعتها كلما صعد إلى بلاتو التلفزيون لمناقشة نتائج انتخابات البرلمان، أو كلما كتب مقالا لاذعا ضد زعامات حزبية متكلسة أو معاندة، كان وقتها قد تجاوز الممكن حين اتصل بكاتب هذا المقال ذات يوم وعرض عليه اقتراح ناديا برادلي بإصدار الطبعة العربية لمجلة (لو ليبرال)، قيل له: لكن أين هم الليبراليون؟ لا يوجد ليبرالي واحد بمعنى الكلمة في المغرب للأسف.
كان الرهان وقتها في (المنبر الليبرالي) على إنعاش خطاب سياسي ثقافي متحرر من الموانع الذاتية، ويعبر عن نفسه مبدئيا خارج الإطارات السياسية التي تكبل الأسئلة الجريئة حول مجتمعنا المتعدد وحول مخاوفه وطموحاته، كل هذا يضاف إليه فسح مجال للتعبيرات الإبداعية الحرة، من هذا المبتغى الذي كان مؤجلا أسهمت أسماء عديدة متنورة في دعم هذا المشروع الذي كانت له حرية مطلقة في تنظيم ذاته خارج أية وصاية، وقرأنا في المجلة مقالات لمبدعين وكتاب منهم عبد القادر الشاوي وعثمان الشقرا ومحمد شكري وإبراهيم الخطيب ومحمد زفزاف وإدريس الخوري ورشيد نيني ومحمد بنيحي ومحمد ظريف ومحمد وقيدي ومحمد الشرقي إضافة إلى باحثين آخرين في العلوم الاجتماعية والإنسانية. كانت الكرات الطائشة تصل أحيانا إلى ركن الشبكة، وأحيانا أخرى يتسرب زيت المحرك بهدف تعطيل صدور المجلة أو جرها إلى منزلقات غير مأمونة، وكانت الضربة القاضية هي حين فكر طرف خارجي في تأسيس حزب يساند ولي العهد (هكذا) يتحلق حوله أسراب من اليسار المفكك إضافة إلى بعض التكنوقراط ونخب من الغاضبين والطامحين إلى مواقع في الأحزاب الكبرى. ربما كانت الفكرة بذرة جنينية لتجمع (كل الديموقراطيين) لكنها لم تتبلور بعد، وقتها أيضا أراد إدريس البصري ونحن في بداية التسعينات أن يكون وجهه على غلاف المجلة نكاية في عودة السرفاتي وجزء من المنفيين السياسيين، وكان الجواب هو إيقاف المجلة وإصدار كتيب عن نوبير الأموي أصدرته (الموجة) بإدارة عبد القادر الشاوي، قبل أن يسقط الأموي الذي كان سجينا في شباك البصري ذاته، ويعقد مؤتمر الكونفدرالية في العيون بتمويلات ما.

الأشهب.. الأرشيف المتحرك
محمد الأشهب خلال كل تلك الملابسات كان هو الأرشيف المتحرك على واجهات عدة، جلسة واحدة معه تساوي قراءة مصنفات عديدة عن تفاصيل الحياة السياسية والثقافية والفنية، لم يحتج يوما إلى مرجع يقرؤه ويسند به كلامه أو إلى وثيقة يتكئ عليها في الملمات، هو نفسه كان طرفا وشاهدا على كل شيء. كان لديه دماغ حافظ وقريحة يقظة متوثبة معطاء، أحيانا كنا نداعبه حين نقارنه بالفقيه محمد المنوني الذي يرتدي لوحده داخل كلية آداب الرباط جلباب الكاباردين وطربوش الكاسكروط الوطني، والذي إذا قرأ كتابا ما يستذكر محتواه بالكلمة وبأرقام الصفحات ومواقع الفقرات، ليس غوغل من له وحده طاقة تخزين المعلومات بهذا الشكل إذن، لكن محمدا الأشهب له أيضا تلك الخصال التي لا تجدها لدى غوغل ولا لدى الفقيه المنوني، وهو أنه يستطيع أن يجعلك تضحك من القلب على تفاهة بعض السياسيين المحتالين، ويجعلك تستمتع بكلماته الممتنعة النقية حين يسطر مقالا مهما كان موضوعه ومقتضاه، ويجعلك في النهاية تخجل من ابتسامه المطبوع الموجه لك، ومن كرمه الأصيل النابع من بداوته المغربية الأصيلة. وكما يقال في الختم: ليرحم الله موتانا أجمعين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى