شوف تشوف

الرأي

في ذكرى هيروشيما وناجازاكي

نحن الآن في غشت من عام 2016م في صيف لاهب حتى في مونتريال من كندا، ولكنه في عام 1945م كان إعلانا عن تحول نوعي في القوة. هنا مع مسح مدينتين من وجه البسيطة، وإرسال أكثر من ربع مليون من البشر في دقائق إلى مدافن ذرية، لم يبق السلاح سلاحا بل فناء متبادلا، وهو في الواقع إعلان من نوع مختلف أن زمن القوة انتهى، وأن استخدام السلاح انقضى، وأن المشاكل لا يمكن حلها بالقوة المسلحة، وبهذا كان انفجار السلاح الذري في الجزر اليابانية إعلانا غير مباشر أن مؤسسة الحرب ماتت. ولكن لماذا إذن يتقاتل الناس في أوكرانيا وسوريا والعراق واليمن؟ الجواب أن العالم الذي نعيش فيه ليس عالما واحدا بل عالمين؛ من يملك التقنيات وإنتاج السلاح الذري ومعرفة أثره الماسح للحياة من وجه الأرض، ومن يعيش أيام عنترة والشنفرى وتأبط شرا.
عالم مازال يعيش في العصور الوسطى بما فيها أنظمته السياسية، وبين ديموقراطيات حديثة يعيش فيها المواطن حرا إلى حد كبير، آمنا على نفسه عنده قوت يومه، ومؤسسات علمية، ومصارف مالية، وصحافة حرة إلى حد كبير، ووسائل تواصل اجتماعي، تطهر الوسط من الكذب السياسي.
كانت ملحمة صناعة السلاح الذري شيئا مهولا، ابتدأ بكسر المسلمة اليونانية عن الجزء الذي لا يتجزأ، بتعبير اليونان آتوم (Atom)، ومن الغريب أن ديموقريطس وصل إليه نظريا، بأن أصغر شيء في الوجود المادي هي الذرة، ولكن تطور الفيزياء الحديثة كسر المسلمة اليونانية على طاولة الألماني أوتو هان (Otto Hahn) ويومها لم يكد يصدق العالم ما وصل إليه، ولكن من التقط خطورة الفكرة لاحقا مثل (سيلارد) الهنغاري انقدحت في ذهنه وهو يعبر ساحة بيكادللي في لندن فكرة الانشطار الذري؟ قال: إذا كان قلب ذرة اليورانيوم الثقيل يحوي 92 بروتونا متراصة يمسكها 146 نترونا؛ فماذا لو قذفنا قلبها بنترون حيادي فتنفلق. الهام في الفكرة مقدار الطاقة المتحررة.
هنا يتدخل آينشتاين ليقول لنا عندي معادلة تمسك بطرفيها المادة والطاقة المتحررة منها؟ والسؤال كم؟ والجواب طاقة لم يحلم بها إنس ولا جان؟ مربع سرعة الضوء في تسعين مليار مرة!
بقي الآن التطبيق العملي لاستخراج الطاقة من قلب الذرة المكنون. لم يكن من السهل إقناع هتلر بهذه الكيمياء اليهودية، ومع ذلك حين سأل الجنرال ميلش عالم الذرة (هايزنبيرج) عن حجم هذه القنبلة السحرية التي بمقدورها مسح مدينة من وجه البسيطة؟ أشار بيده بتواضع: إنها بحجم رأس فاكهة الأناناس.
حسنا كم كيلو من اليورانيوم؟ الجواب لا نعرف بالضبط ولكن قد يتراوح بين 16 و60 كيلو، حتى تتحرر كامل الطاقة، في واحد من مليون من الثانية، ترتفع فيها درجة الحرارة إلى مليون درجة ما يعني هبوط الشمس بوهجها إلى وجه الأرض.
ولكن كيف الطريق إلى هذا الكهف السحري؟ هذا ماوافق عليه الرئيس الأمريكي (روزفلت) حين أقنعه العلماء أن هتلر إذا وصل إلى هذا السلاح، كان معناه أن المانيا فوق الجميع فعلا.
وبدأ السباق، وفي مدينتين (لوس آلاموس ـ وتينيسي) تعتمدان تقنيتين مختلفتين، للوصول إلى وضع اليد على هذا السلاح!
كان (إنريكو فيرمي) الإيطالي صاحب فكرة تصنيع السلاح باللعب في مكنون ذرة اليورانيوم 238، بسحب بروتونات وإضافة نترونات للقفز بالرقم إلى 239 فيدخل (عدم الاستقرار) على قلب الذرة للوصول إلى قنبلة البلوتونيوم تيمنا بسحر الكوكب بلوتو.
وخلال عمل دؤوب استغرق سنتين، بمال وصل إلى 2 مليار دولار ومقدار من الكهرباء يكفي تغذية مدينة متوسطة الحجم، تجمعت فيه كل الأدمغة العبقرية من علم الفيزياء من كل العلماء الهاربين من جحيم النازية رعبا ورغبة في تحطيمها، فتوصلوا إلى التجربة الأولى في 16 يوليو من عام 1945م، وتلقى الرئيس الأمريكي برقية بخمس كلمات: رسا الملاح الإيطالي في الأرض الجديدة.
وحين اهتزت الأرض، ولمعت الشمس في غير موعدها، لم يخطر في بال من قشع الظاهرة إلا أن الشمس سطعت مبكرة، أو أن عالم الجان هز المعمورة، ولما استيقظ الناس على خبر الحريق في أقصى الشرق، أدركوا سر الظاهرة، وعرفوا أن الشمس لم تشرق مرتين، بل كانت الشمس النووية هي التي لاحت للبشر بالفناء الكلي.
بعدها أدرك السياسيون أن العلماء وضعوهم على ظهر كوكب جديد من المعرفة، بإحداثيات جديدة، مازالوا حتى اليوم محتارين في التكيف معها (نموذج ترامب المتهور) فقد تغير العالم، وتأكد قول الرسل في السلام، والأنبياء في الأخوة الإنسانية، وأن الحرب نجاسة، وأن السلاح قذارة.
من أعجب ما جاء به السلاح الذري أن السلام ولد من رحم الشر على غير موعد، تصديقا لقول الصالحين عبر التاريخ.
الرئيس الأمريكي (أوباما) زار هيروشيما خاشعا متواضعا واعتذر عما حدث بعد مرور سبعين عاما، أما بلدية هيروشيما فغيرت العبارة فوق المكان الأثري المتبقي من الدمار من جملة لن ندعهم يكررون الشر، إلى جملة لن ندع الشر يتكرر! اعترافا منهم بأن الشر حمله المتحاربون جميعا ومن الطرفين من اليانكي والساموراي.
حتى نبني الثقافة السلمية لا بد من بناء القاعدة العلمية، فالثقافة السلمية هي دخول إيجابي ومشاركة فعالة في أحداث العالم، وليست استسلاماً أو انسحاباً من المواجهات المصيرية، لذا يجب أن نفهم العلاقة الجدلية بين العلم والسلم في منظومة رباعية من الأفكار: أن العلم قاد إلى السلم، وأن العالم يعيش فراقاً وانفصاماً بين العلم والقيم، وأن العالم بدأ يتعلم اللغة الجديدة مرغماً وبمعاناة، وأن العالم الإسلامي لم يدرك طبيعة هذا التحول الجديد».
فأما السلم فقد وصل إليه العالم من خلال التطور العلمي والاستراتيجية النووية العالمية وتوازن الرعب المتبادل، وأما شيزوفرينيا (فصام) العلم والقيم، فهي تباين العقلية القديمة والتقنية الجديدة. فما زالت عقليات السياسيين زائغة بين صفحات كتاب (ميكافيللي) الذي كتب في القرن الخامس عشر الميلادي، ونظرات العسكريين المشوشة من أثر نظرية الحرب التي دشنها الضابط البروسي (كالاوسفيتز) في القرن التاسع عشر التي تفيد أن الحرب هي استمرار السياسة بوسائل أخرى، وأما اللغة الجديدة فقد بدأ العالم بالنطق بها بأكثر من شكل بعد أن أدرك أنه الخيار الوحيد أمامه ولكن على الرغم من إدراك الشريحة العقلية العليا في العالم لهذا التحول النوعي الجديد، وبدء السير في هذا المنحى، فإن الساحة الفكرية عندنا ما زالت تعيش عقلية الأسطورة والخوارق، وتتغذى من فكر وجو الفتوحات التي تعبق بعطر شعر الخوارج وأدبياتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى