شوف تشوف

الرأي

في ذكرى موت مي سكاف (1-2)

بقلم: خالص جلبي

 

 

مع كتابة هذه الأسطر تحتفل الملائكة بتقبل روح عظيمة، هي مي سكاف، المناضلة السورية التي وافتها المنية عن عمر 49 عاما، وهي قمة الحياة. المرأة ليست رجلا ولا مسلمة، ولكنها تذكر بقصة المكافحات من أجل الحرية في كل دين وملة. مع هذا فقد تردد الفقهاء في فتح باب الجنة لها؛ لأنهم يملكون مفاتيح الجنة. والرب يقول: «لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذن لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا».

لقد كتبت في ما سبق في تشريح معنى الشهادة وسوف أكررها لأهميتها، ومن سطورها سيتوضح أين مكان هذه القديسة.

ليس هناك كلمة تهز الوجدان مثل الشهيد، ولا يوجد كلمة أسيء استخدامها مثل كلمة الشهيد، ولا يوجد كلمة غامضة مثل الشهيد، ولا يوجد كلمة مضللة مثل كلمة الشهيد، وفي القرآن جاءت مفردات هذه الكلمة 82 مرة، ولم تكن مرة واحدة في ما يريده ويكررها الناس.

وفي الحقبة الناصرية (جمال عبد الناصر والوحدة العربية بين مصر وسوريا) ما زلت أتذكر نفسي، وكنت يومها طالبا في المرحلة المتوسطة، وكانت لا تمر ثلاثة أيام؛ إلا وخرجنا نهتف بحياة شهيد من الشهداء، منهم الشيوعيون، وانتهاء بصانعي الانقلابات!

وفي يوم كانت المظاهرة للهتاف بحياة (الشهيد) (باتريس لومومبا) وكان الناس يتهامسون من يكون هذا الرجل؟ وهذا ليس انتقاصا لقدره، فقد رأيت عنه برنامجا في قناة «الديسكفري» فتحت عيني على حقيقة الرجل لأول مرة خارج الدجل الناصري وصيحات (الصحاف) القديم، أحمد سعيد، في «صوت العرب».

وفي يومٍ مررت على قبر مجرم (عبد الكريم الجندي) لمع نجمه كجلاد ورئيس مخابرات في سوريا أيام البعث الأولى، وكان الرجل يحب استعمال نعله في التعذيب (الشاروخ)، فقرأت فوق قبره «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون». وكان المجرم المذكور يحب ضرب كرام الناس بنعله على وجوههم كما ذكرت. ولم ينج أحد من يده بمن فيهن النساء.

وفي يوم وقع تحت يده رجل دين مسيحي؛ فقال له: أعلم أن الفاتيكان سيتدخل لإنقاذك، ولكنك ستمضي عندي يومان، هما في عمر الزمن سنتان، ثم أمر بحبسه في دورة مياه طافحة.

ثم مات الرجل قتلا أو انتحارا بيد جلاد أدهى منه وأمر، ثم مات الرجلان إلى الأبد، كما كانت الجماهير المغفلة تزعق بحياتهما إلى الأبد، فهما الآن في دار الحق يختصمان.

وفي 22 يوليوز من عام 2003م انتهت حياة قصي وعدي (السبطين!) قتلا، كما قتل الكثير من الناس؛ فذاقا من نفس الكأس، واتبعوا في هذه لعنة، ويوم القيامة هم من المقبوحين.

وفي الأردن اجتمع الناس لتلقي العزاء على سيدي شباب أهل الجنة السبطين، عدي وقصي.

ولا يستبعد أن تمتلئ كتب التاريخ بقصة (شهادة) البطلين وهما يقارعان (العلوج) الأمريكيين، كما اعتدنا على الكذب في كتب التاريخ التي تدرس للطلبة المنكوبين.

وفي يوم انتشرت الموضة في العالم العربي، فمنهم من سمى ابنه (ستالين) وآخر ابنته (جيفارا) وثالث (سيد قطب)، والأولاد يحملون أوزارا فوق ظهورهم من أسماء لا ينتسبون إليها إن لم يكن عكسها وغير مسؤولين عنها.

وعندما قتل (إرنيستو تشي غيفارا)، الطبيب الأرجنتيني، في غابات بوليفيا، اعتبره الثوريون العرب سيد الشهداء مثل حمزة بن عبد المطلب.

وعندما يفجر الفلسطيني نفسه في حافلة فيقتل ويقتل يعتبر عند مفتي الديار في بلد ثوري، أنها (شهادة في سبيل الله) لا يقترب منها شهداء القادسية واليرموك.

أما اليهود فيسمون الفاعل إرهابيا وقاتل نفسه وانتحاريا.

وما يحكم على عمل ما ليس الفتاوى والنصوص، بل العواقب. وقل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى.

وعندما يتصارع فريقان فيقدمان (قرابين) بشرية، يعتبر القتيل في عين أهله شهيدا. وفي أعين خصومه مجرما.

والفرق بين (الجريمة) و(الجهاد) شعرة، وبين (الزنا) و(الاغتصاب) و(الزواج) أقل من شعرة؛ فكلها ممارسة لعمل جنسي، ولكن الأول يقوم على (السرية) والثاني على (الإكراه)، والثالث على (الرضا والقبول والإشهار).

وعندما جاهد (الخوارج) لم يكن عملهم جهادا، أما هم فسموا أنفسهم الشراة، أي من باعوا أنفسهم في سبيل الله لقضية لم تكن ناجحة.

وإذا أراد الجراح استئصال زائدة دودية في سوق الخضار، فإنه يعد  قصابا ولو كان سيد الجراحين.

فهذه الفروق لا يستوعبها الشباب المتحمس، وهم نصف معذورين، ولكن أئمة الفكر المنحرف هم الذين يسقون عقول الشباب بهذه السموم.

وليس هناك من أمر أكثر إثارة من (الجهاد) و(الاستشهاد)، كما لا يوجد موضوع أكثر خطرا وضبابية منهما.

وفي يوم كان أحدهم يكلمني، فقال ألا تقرأ قوله تعالى: «فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين»؟ فقلت له ألا تقرأ قوله تعالى: «ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة»؟، وقوله تعالى: «والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا»؟

والقرآن حينما يقرأه أحدنا لا يجد في نهايته فهرساً للموضوعات مثل القتال والشهادة متى؟ وكيف؟ وأين؟ ومن؟ بل يجد آيات متناثرة مثل النجوم في قبة القرآن.

وإذا كنا في نجوم القطب نصل بينها بخط؛ فنعرف الشمال من الجنوب، ونهتدي بها في ظلمات البر والبحر، كذلك الحال في آيات القرآن.

ورؤية فراغية بنيوية من هذا النوع مفيدة في فهم آيات القرآن.

والمشكلة مضاعفة في معالجة نظام الفكر.

فالعقلية النقلية هنا تواجه العقلية النقدية. وهي مشكلة أعترف أنها ليست سهلة الحل، ولكن لا بد من خوض غمارها واقتحام لججها.

وبن لادن اعتبر أن تفجير أبراج نيويورك عين الجهاد وقمة الشهادة وضرب الكفار في دار الحرب، حيث يستباح كل شيء، في الوقت الذي اعتبرته أمريكا جريمة نكراء وانتحاريين مجرمين.

وكما يقول (نعوم تشومسكي)، الناقد الأمريكي، إن قرصانا ألقي القبض عليه في زمن الإسكندر فبدأ في توبيخه كيف يزعج البحر؟ قال القرصان: أنا أنهب بسفينة صغيرة فأسمى قرصانا، أما أنت فتنهب شعوبا بأساطيل فتسمى إمبراطورا!

وعندما انتشرت مفاهيم (الجاهلية) من فكر (سيد قطب) في ستينات القرن العشرين ومن ذيولها فكرة (العزلة الشعورية)، مما دفع البعض إلى اعتبار أن احترام (إشارات المرور) هو احترام الجاهلية، وأن خرق أنظمة المرور هو عين التقوى؛ لأنه تمزيق شبكة المجتمع الجاهلي، لمسلم يعيش في مجتمع جاهلي (عضويا) ويحاربه فكريا وعمليا.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى