في النوائب: الرواية أوثق من التاريخ
مالك التريكي
أدى الطاعون الذي اجتاح إنجلترا عام 1665 إلى إصابة الناس بالذعر الشديد ففزعوا إلى الكنائس يصلون ويتضرعون إلى الله بالدعاء والاستغفار، يقينا منهم أن الطاعون عقاب إلهي على استفحال المعاصي والذنوب. وكان هذا الإقبال على الصلاة في الكنائس أحد مظاهر الانتهاك العام لأوامر الحجر.
فقد أتى الحجر بعكس المقصود وأفضى إلى تعميم الفوضى لأن الناس ما قبلوا به وما كانوا مقتنعين بضرورته.. وتملّك الخوف من العدوى السجناء الذين كان كثير منهم يظنون أنهم أصحاء، لأن أعراض المرض لم تظهر عليهم بعد، فتجرؤوا على خلع أبواب السجون. وبما أن الجوع كان متفشيا، فقد عمدوا إلى نهب المساكن والمحال الشاغرة وهرب كثير منهم إلى الأرياف، حيث زادوا في انتشار العدوى من حيث لا يدرون.
هذا ما سجله دانيال ديفو في «يوميات عام الطاعون» قبل أن يروي كيف شهد دفن أحد الضحايا الذين كانوا يهلكون بمعدل عشرة آلاف ضحية في الأسبوع: «تمكنت من دخول مدفن الكنيسة بفضل معرفتي القديمة بالقيّم. قلت له: لقد ظل هاجس الدخول يلح علي، فلربما يكون في المشهد من الدروس ما هو ليس بعديم الفائدة. فأجابني الرجل الطيب: لا عليك، إذا كان هذا ما نويت فلتدخل على بركة الله. ولتكن على ثقة أنه سيكون لك في ذلك موعظة لعلها خير ما أنت سامع في حياتك. وأضاف قائلا: إنه لمشهد ناطق بالعبر، مشهد ينبعث منه صوت عال ينادينا بأجمعنا إلى توبة نصوح. ثم إذا به يفتح الباب ويقول: تفضل بالدخول».
ما هو مكمن الأهمية في هذه اليوميات التي صدرت عام 1722؟ أولا، أنها شهادة عن حدث تاريخي لا يوجد في اللغة الإنجليزية، إلى غاية زمن الكورونا هذا، ما هو أشيق منها وأنبض. ثانيا، أن فيها من الدقة ولها من الموثوقية ما يجعلها تضاهي محاضر البرلمان (المشهورة بمحاضر هانسارد). ولهذا ظلت اليوميات مرجعا تاريخيا معتمدا، حيث كان خبير الأمراض المعدية في القرن 18 الدكتور ريتشارد ميد يأخذ وقائعها مأخذ الحقائق، واستمر الأمر حتى 1919 عندما نشرت دراسة جادة بغرض إثبات صحة الاعتقاد بأن اليوميات سجل تاريخي لوقائع الطاعون. هذا رغم أن ديفو قد كان في الخامسة عند وقوع الطاعون وأنه ألف كتابه بعد ذلك بخمسين سنة. صحيح أنه رجع إلى المصادر الأصلية في ما يتعلق بسجلات الوفيات والتواريخ الرسمية، إلا أنه اعتمد في تأليف معظم الكتاب على تجنيحات الخيال. ولكن بما أن ديفو استند في الأساس على ذكريات الشهود الذين نجوا من الطاعون، فإنه أثبت موهبة فائقة في إخراج السرد الخيالي مخرج التأريخ الواقعي.
ولهذا فإن الرواية قد اضطلعت في توثيق الماضي بالدور الذي تقاعس عنه التاريخ. إذ إن من غرائب طاعون 1665، الذي أسفر عن هلاك مائة ألف نسمة، أنه لم يكد يلقى أي اهتمام لدى المؤرخين. فقد كان المؤرخ غليبرت بورنت شاهدا على الطاعون، ولكنه لم يأت على ذكره في كتاباته إلا في خمسة سطور يتيمة. أما الفيلسوف والمؤرخ الفذ ديفيد هيوم فقد تجاهله تماما.
في مثل هذا الزمن المثقل بأوخم الأنباء تبرز بوضوح أتمّ القيمة الأدبية والتاريخية لنصوص من جنس يوميات ديفو، إذ أذكر أن أثرها فيّ قد كان محدودا لما أقبلت عليها قبل حوالي ثلاثة عقود. قال لي الناقد الأدبي السوري خلدون الشمعة آنذاك إنها كانت في عداد قراءات ألبير كامو الكثيرة أثناء الإعداد لكتابة روايته الوهرانية الشهيرة، فقلت في نفسي: هذه إذن صلة إضافية بيننا، نحن عرب المتوسط، وبين هذا الكاتب الإنجليزي. فالكل يعلم أن دانيال ديفو كان عارفا بابن طفيل وأنه تأثر في كتابة رواية «روبنسون كروزو« بقصة «حي ابن يقظان» التي ترجمت إلى العبرية عام 1349، وكان الكاتب النهضوي بيكو دو لا ميراندولا أول من ترجمها من النسخة العبرية إلى اللاتينية.
كما أن إدوارد بوكوك ترجمها عام 1671 من الأصل العربي إلى اللاتينية، وبعد عام كانت النسخة اللاتينية أساسا لترجمة هولندية.
ومنذئذ عرفت قصة حي بن يقظان في أوروبا بعنوان «الفيلسوف المعلم نفسه»، وظلت لمدة معتبرة هي أكثر النصوص العربية انتشارا، بعد القرآن الكريم و«ألف ليلة وليلة»، لدى النخب الأوروبية القارئة.