شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

في الأدب العربي العجائبي

إعداد وتقديم: سعيد الباز
اختص السرد العربي بخاصية الميل إلى نوع من الكتابة ذات المنحى العجائبي والغرائبي. ولقد بلغ هذا الاهتمام حد التأثير على الآداب العالمية بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا بشهادة كبار الكتاب في العالم. فالمكتبة العربية تزخر بعدة أعمال أدبية، من هذا النوع الأدبي، لا تعد فقط نموذجية، بل تصل إلى درجة الاستلهام والاستيحاء. يكفي أن نذكر في هذا المجال «ألف ليلة وليلة» و«كليلة ودمنة»، رغم أصولهما الأجنبية بحسب بعض الدارسين، دون أن نغفل أيضا «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري وعلاقتها الوطيدة بـ«الكوميديا الإلهية» للإيطالي أليغيري دانتي، إضافة إلى المقامات والأدب الجغرافي وأدب الرحلات وأدب الرسائل وما امتزج بها من سرد للخوارق والعجائب… ناهيك عن السير الشعبية من سيرة «سيف بن ذي يزن» وسيرة «عنترة» إلى «السيرة الهلالية»…

ابن طفيل.. «حي بن يقظان»
فكرة قصة حي بن يقظان متداولة منذ زمن بعيد خاصة لدى الفلاسفة وبعض المتصوفة، حيث اعتُمدت إطارا رمزيا لطرح آرائهم الفلسفية والفكرية مثل قدرة الإنسان من خلال توظيف العقل والنظر للوصول إلى الحقيقة. تناولها ابن سينا وابن النفيس والمتصوف صاحب مذهب الإشراق السهروردي المقتول، إلا أن «حي بن يقظان» لابن طفيل (1100م-1185م) حازت على شهرة أكبر وتأثير أوسع على العديد من الفلاسفة والأدباء الأوربيين على الخصوص لما تضمنته من أفكار سابقة لعصره، على غرار اكتشاف النار لدى الإنسان الأول واستعماله للأدوات والآلات لحماية نفسه…

ثم أخذ الماء في الجزْرِ عن التابوت الذي فيه الطفل، وبقي التابوت في ذلك الموضع، وعلت الرمال بهبوب الرياح، وتراكمت بعد ذلك، حتى سدت باب الأجمة على التابوت، وردمت مدخل الماء إلى تلك الأجمة. فكان المد لا ينتهي إليها. وكانت مسامير التابوت قد قلقت، وألواحه قد اضطربت، عند رمي الماء إياه في تلك الأجمة. فلما اشتد الجوع بذلك الطفل، بكى واستغاث وعالج الحركة… فوقع صوته في أذن ظبية فقدت طلاها، خرج من كناسه، فحمله العقاب. فلما سمعت الصوت ظنته ولدها، فتتبعت الصوت وهي تتخيل طلاها، حتى وصلت إلى التابوت، ففحصت عنه بأظلافها، وهو ينوء ويئن من داخله، حتى طار عن التابوت لوح من أعلاه، فحنت الظبية، وحنت عليه… وألقمته حلمتها، وأروته لبنا سائغا… وما زالت تتعهده وتربيه، وتدفع عنه الأذى… ألف الطفل تلك الظبية، حتى كان بحيث إذا أبطأت عنه، اشتد بكاؤه فطارت إليه. ولم يكن بتلك الجزيرة شيء من السباع العادية، فتربى الطفل ونما، واغتذى بلبن تلك الظبية، إلى أن تم له حولان، وتدرج في المشي وأثغر، فكان يتبع تلك الظبية، وكانت هي ترفق به وترحمه وتحمله إلى مواضع فيها شجر مثمر، فكانت تطعنه ما تساقط من ثمراتها الحلوة النضيجة… فما زال الطفل مع الظباء على تلك الحال، يحكي نغمتها بصوته، حتى لا يكاد يفرق بينهما. وكذلك، يحكي جميع ما يسمعه من أصوات الطير، وأنواع سائر الحيوان محاكاة شديدة، لقوة انفعاله لما يريده… وأكثر ما كانت محاكاته، لأصوات الظباء في الاستصراخ والاستئلاف والاستدعاء والاستدفاع، إذ للحيوانات في هذه الأحوال المختلفة، أصوات مختلفة.

واتخذ من أغصان الشجر عصيا، سوى أطرافها وعدل متنها، وكان يهش بها على الوحوش المنازعة له، فيحمل على الضعيف منها، ويقاوم القوي منها، فنبل بذلك قدره عند نفسه بعض نبالة، ورأى أن ليده فضلا كثيرا على أيديها، إذ أمكن له بها ستر عورته، واتخاذ العصي التي يدافع بها عن حوزته، ما استغنى به عما أراده من الذَنَبِ، والسلاح الطبيعي.

واتفق في بعض الأحيان، أن انقدحت نار في أجمة على سبيل المحاكة (الاحتكاك). فلما بصر بها، رأى منظرا هاله، وخَلْقاً لم يعتده من قبل… فوقف يتعجب منها مليا، وما زال يدنو منها شيئا فشيئا، فرأى ما للنار من الضوء الثاقب، والفعل الغالب، حتى لا تعلق بشيء إلا أتت عليه وأحالته إلى نفسها. فحمله العجب بها، وبما ركب الله في طباعه من الجرأة والقوة، على أن يمد يده إليها، وأراد أن يأخذ منها شيئا. فلما باشرها أحرقت يده، فلم يستطع القبض عليها، فاهتدى إلى أن يأخذ قبسا لم تستول النار على جميعه، فأخذ بطرفه السليم، والنار في طرفه الآخر، فتأتى له ذلك، وحمله إلى موضعه الذي كان يأوي إليه… وكان قد خلا في جحر استحسنه للسكنى قبل ذلك. ثم ما زال يمد تلك النار بالحشيش والحطب الجزل، ويتعهدها ليلا ونهارا، استحسانا لها وتعجبا منها. وكان يزيد أُنْسُه بها ليلا، لأنها كانت تقوم له مقام الشمس في الضياء والدفء، فعظم بها ولوعه، واعتقد أنها أفضل الأشياء التي لديه… وكان دائما يراها تتحرك إلى جهة الفوق، وتطلب العلو، فغلب على ظنه أنها من جملة الجواهر السماوية التي كان يشاهدها. وكان يختبر قوتها في جميع الأشياء، بأن يلقيها فيها. فيراها مستولية عليها، إما بسرعة، وإما ببطء، بحسب قوة استعداد الجسم الذي كان يلقيه للاحتراق أو ضعفه. وكان من جملة ما ألقى فيها على سبيل الاختبار لقوتها، شيء من أصناف الحيوانات البحرية- كان قد ألقاه البحر إلى ساحله-فلما أنضجت ذلك الحيوان… تحركت شهوته إليه، فأكل منه شيئا، فاستطابه. فاعتاد بذلك أكل اللحم، فصرف الحيلة في صيد البر والبحر حتى مهر في ذلك. وزادت محبته للنار، إذ تأتى له بها من وجوه الاغتذاء الطيب، شيء لم يأت له قبل ذلك.

«منامات الوهراني ومقاماته ورسائله»
يعتبر الشيخ الوهراني من الكتاب المغمورين الذين ظلت كتاباتهم هامشية في المكتبة العربية رغم شهادة علماء عصرهم بمكانتهم العلمية. كانت مقاماته في مصاف مقامات بديع الزمان الهمذاني والحريري، لكنه تميز عنهما بمناماته التي هي عبارة عن رؤى وأحلام ينقل فيها حواراته في العالم الآخر من جن وأبالسة… كما أبدع في كتابة الرسائل باسم الحيوان أو الجوامع والصوامع، من أشهرها رسالة باسم بغلته. لكن الطابع الغالب على كتابته روح الهزل والسخرية من الواقع والنقد الاجتماعي والأخلاقي، وقد جمعت في كتاب واحد تحت عنوان «منامات الوهراني ومقاماته ورسائله».
ولد الشيخ ركن الدين محمد بن محمد بن محرز الوهراني، على الأرجح، في عهد الدولة المرابطية في بداية القرن السادس الهجري، بمدينة وهران أيام حكم الدولة المُرابطية وشهد سقوط هذه الدولة واستيلاء الموحدين على الحكم. لا نعرف أي شيء عن أسباب هجرته إلى القيروان وصقيلية ثم مصر وبعدها العراق حتى استقراره في النهاية في دمشق ونواحيها حيث توفي سنة (575 هجرية). إن كتاباته في مجملها تجنح إلى الخيال الغرائبي العجائبي لكنها في عمقها ساخرة ومنتقدة كبار علماء عصره من فقهاء وأدباء وقضاة، كما كشف عما يجري في الأوساط الدينية من تكسب بالدين وتلاعب بموارد الأوقاف وغيرها والمتصوفة ورجال الدين الذين قال عنهم: «هربوا من كد الصنائع والأعمال إلى الزوايا والمساجد والمشاهد بحجة العبادة والانقطاع فلا يزال أحدهم يأكل وينام حتى يموت… إنهم كالخروع في البستان يشرب الماء ويضيق المكان».
بغلة الوهراني
المملوكة ريحانة بغلة الوهراني تقبل الأرض بين يدي المولى عز الدين حسام أمير المؤمنين نجاه الله من حر نار السعير، وعطر بذكره قوافل العير، ورزقه من القرط والتبن والشعير ما وسق مائة ألف بعير، واستجاب فيه صالح الأدعية من الجم الغفير من الخيل والبغال والحمير، وتنهي كل ما تقاسيه من مواصلة الصيام وسوء القيام، والتعب في الليل والدواب نيام، قد أشرفت مملوكته على التلف وصاحبها لا يحتمل الكلف ولا يوقن بالخلف، ولا يحل به البلاء العظيم إلا في وقت حاجتي إلى القضيم، لأنه في بيته مثل المسك والعبير، فشعيره أبعد من الشعرى العبور، لا وصول إليه ولا عبور، وقرطه أعز من قرط مارية، لا يخرجه بيع ولا هبة ولا عارية، والتبن أحب إليه من الابن، والجلبان أعز من دهن البان، والقضيم بمنزلة الدر النظيم، والفصة أجمل من سبائك الفضة، وأما الفول فمن دونه ألف باب مقفول، فما يهون عليه أن يعلف الدواب إلا بعيون الآداب، والفقه اللباب والسؤال والجواب، وما عند الله من الثواب، ومعلوم يا سيدي أن البهائم لا توصف بالحلوم، ولا تعيش بسماع العلوم، ولا تطرب إلى شعر أبي تمام، ولا تعرف الحارث بن همام ولاسيما البغال، التي تشتغل في جميع الأشغال، شبكة من القصيل أحب إليها من كتاب التحصيل، وقفة من الدريس أشهى إليها من فقه محمد بن إدريس، لو أكل البغل كتاب المقامات مات، فإن لم يجد إلا كتاب الرضاع ضاع ولو قيل له أنت هالك إن لم تأكل موطأ مالك، ما قبل ذلك، وكذا الجمل لا يتغذى بشرح أبيات الجمل، وحزمة من الكلاء أحب إليه من شعر أبي العلاء، وليس عنده طيب شعر أبي الطيب، وأما الخيل فلا تطرب إلا لسماع الكيل، وإذا أكلت كتاب الذيل ماتت في النهار قبل الليل، والويل لها ثم الويل، ولا تستغني الأكاديش عن الحشيش، بكل ما في الحماسة من شعر أبي الحريش، وإذا أطعمت الحمار شعر ابن عمار حل به الدمار، وأصبح منفوخاً كالطبل على باب الإسطبل، وبعد هذا كله قد راح صاحبهما إلى العلاف وعرض عليه مسائل الخلاف وطلب من بيته خمس قفاف فقام إليه بالخفاف، فخاطبه بالتقعير وفسر عليه آية العير وطلب منه حصة كذا شعير، فحمل على عياله ألف بعير، فانصرف الشيخ منكسر القلب مغتاظاً من الثلب، وهو أنجس من ابن بنت الكلب، فالتفت إلى المسكينة وقد سلبه الغيظ ثوب السكينة، وقال لها إن شئت أن تكدي فكدي، لا ذقت شعيراً ما دمت عندي، فبقيت المملوكة حائرة لا قائمة ولا سائرة، فقال لها العلاف لا تجزعي من حباله ولا تلتفتي على سباله، ولا تنظري إلى نفقته ولا يكون عندك أخس من عنفقته، هذا الأمير عز الدين سيف المجاهدين يده أندى من الغمام وعزيمته أمضى من الحسام ووجهه أبهى من البدر ليلة التمام، يرثي للمحروب ويفرج عن المكروب وهو نبي بني أيوب، لا يرد قائلا ولا يخيب سائلا، فلما سمعت المملوكة هذا الكلام جذبت الزمام ورفست الغلام وقطعت اللجام وشقت الزحام حتى طرحت خدها على الأقدام، ورأيك العالي والسلام.

ابن شُهيد الأندلسي.. رسالة «التوابع والزوابع»
ابن شُهيد الأندلسي (382ه-426ه) شاعر وأديب أندلسي اعتبره الكثير من المؤرخين جاحظ عصره. نال شهرة واسعة بفضل كتاباته النثرية الهزلية، كما عرف بغزارة ثقافته وأسلوبه السهل والممتنع، خاصة في رسالته «التوابع والزوابع» التي تخيل فيها رحلة إلى عالم الجن أي التوابع وعالم الشياطين أي الزوابع. فجالس فيها شعراءها ونقادها من جن وشياطين وحيوانات في مواقف طريفة، ألهمت دون شك غيره من كتاب الرسائل ومن بينهم، بحسب بعض الدارسين، أبو العلاء المعري في «رسالة الغفران».
الإوزة الأديبة
وكانت في البركة بقربنا إوزة بيضاء، في مثل جثمان النعامة… لم أر أخف من رأسها حركة… فصاحت بالبغلة: لقد حكمتم بالهوى، ورضيتم من حاكمكم بغير الرضا. فقلت لزهير: ما شأنها؟ قال: هي تابعة شيخ من مَشْيَخَتِكُمْ، تسمى العاقلة، وتكنى أم خفيف، وهي ذات حظ من الأدب، فاستعد لها. فقلت: أيتها الإوزة الجميلة، العريضة الطويلة، أًيَحْسُنُ بجمال حدقتيك، واعتدال منكبيك، واستقامة جناحيك، وطول جيدك، وصِغَرِ رأسك، مقابلة الضيف بمثل هذا الكلام، وتلقي الطارئ الغريب بشبه هذا المقال؟ وأنا الذي همت بالإوز صبابة، واحتملت في الكلَفِ بها عض المقالة، أنا الذي استرجعتها إلى الوطن المألوف… فاتخذها السادة بأرضنا واستهلك عليها الظرفاء منا، ورُضِيَتْ بدلا من العصافير، ومتكلمات الزرازير، ونُسِيَتْ لذة الحمام، ونقار الديُوك… فدخلها العُجْبُ من كلامي، ثم ترفعتْ وقد اعترتها خفة شديدة في مائها، فمرة سابحة، ومرة طائرة، تنغمسُ هنا وتخرج هناك قد تقبب جناحاها، وانتصب ذُناباها، وهي تُطَربُ تطريب السرور، وهذا الفعل معروف من الإوز عند الفرح والمرح. ثم سكنتْ وأقامت عنقها، وعرضت صدرها، وعمِلَتْ بمجدافَيْها، واستقبلتنا جاثية كصدر المركب، فقالت: أيها الغار المغرور، كيف تحكُم في الفروع وأنت لا تُحْكِمُ الأصول؟ ما الذي تحسن؟ قلت ارتجالُ شِعْرٍ، واقْتِضَابُ خطبةٍ… قالت ليس عن هذا أسألك. قلت: ولا بغير هذا أجاوبُكِ. قالت: حكم الجواب أن يقع على أصل السؤال، وأنا إنما أردتُ بذلك إحسان النحو والغرِيب اللذين هما أصل الكلام، ومادة البيان. قلت: لا جواب عندي غير ما سمعتِ. قالت: أُقْسِمُ أن هذا منك غيرُ داخلٍ في باب الجَدَلِ. قلت: وبالجَدَل تطْلُبِيننا وقد عَقَدْنَا سَلْمَهُ، وكُفِينا حرْبَهُ، وإن ما رمَيْتُكِ به لأنْفَذُ سهامه، وأحَد حِرابه، وهو من تعاليم الله عز وجل، عندنا في الجدل في محكم تنزيله. قالت: أُقسم أن الله ما علمك الجدل في كتابه. قلت: محمول عنك أم خفيف، لا يلزم الإوز حفظ أدب القرآن، قال الله عز وجل، في محكم كتابه حاكيا عن نبيه إبراهيم عليه السلام: «ربي الذي يحيي ويميتُ، قال: أنا أحْيي وأميتُ» فكان لهذا الكلام من الكافر جواب، وعلى وجوبه مقال، لكن النبي صلى الله عليه وسلم، لما لاحتْ له الواضحة القاطعة، رماه بها، وأضرب عن الكلام الأول، قال: «فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأْتِ بها من المغرب، فبُهِتَ الذي كفر». وأنا لا أحسن غير ارتجال شِعْرٍ، واقتضاب خطبةٍ، على حكم المقترح والنصبة. فاهتزت من جانبها، وحال الماء من عينيها، وهمت بالطيران، ثم اعتراها ما يعتري الإوز من الألفة وحسن الرجعة، فقدمت عنقها ورأسها إلينا تمشي نحونا رويدا، وتنطق نطقا مُتداركا خفيا، وهو فعل الإوز إذا أنِسَتْ واستراضتْ وتدللت، على أني أحب الإوز وأستظرفُ حركاتِها وما يعْرِضُ من سخافاتها. ثم تكلمتُ بها مُبَسْبِسا، ولها مؤنسا، حتى خالطتْنا وقد عَقَدْنَا سَلْمَه وكُفِينَا حرْبَهَا. فقلت: يا أم خفيفٍ، بالذي جعل غذاءكِ ماء، وحشا رأسك هواء، ألا أيما أفضل: الأدب أم العقل؟ قالت: بل العقل. قلتُ: فهل تعرفين في الخلائق أحمقَ من إوَزة، ودعيني من مَثَلهم في الحُبارى؟ قالت: لا. قلت: فتطلبي عقلَ التجربة، إذ لا سبيلَ لكِ إلى عقل الطبيعة، فإذا أحرزت منه نصيبا، وبُؤْتِ منه بحظ، فحينئذ ناظري في الأدب. فانصرفتْ وانصرفنا.

أبو حامد الغرناطي.. «تحفة الألباب ونخبة الإعجاب»
أبو حامد الغرناطي (473-565) رحالة أندلسي جاب الكثير من الأقطار البعيدة في المجر وروسيا الحالية والمناطق المجاورة لنهر الفولغا… لم ينل اعتبارا كبيرا لدى القراء المعاصرين بسبب اهتمامه الواضح بالعجائب والغرائب التي لا يقبلها العقل. لكن المستشرقين الروس والبلغار والمجريين أولوا عناية كبيرة بكتابته ترجمة ودراسة باعتبارها أولى كتابات بلدانهم.
السودان
بلادهم مما يلي المغرب الأعلى المتصل بطنجة ممتدة على بحر الظلمات وقد أسلم من ملوكهم فيما يقال ملوك خمسة قبائل، أقربهم غانة، ينبت في رمالهم التبر وهو كثير عندهم يحمل التجار إليهم حجارة الملح على الجمال من الملح المعدني، فيخرجون من بلدة يقال لها سجلماسة، آخر بلاد المغرب الأعلى، فيمشون في رمال كالبحار، ويكون معهم الأدلاء يهتدون بالنجوم وبالجبال في القفار، ويحملون معهم الزاد لستة شهور. فإذا وصلوا إلى غانة باعوا الملح وزنا بوزن الذهب، وربما باعوه وزنا بوزنين أو أكثر على قدر كثرة التجار وقلتهم. وأهل غانة أحسن السودان سيرة وأجملهم صورا سبط الشعور، فيهم عقول وفهم، ويحجون إلى مكة، وأما قناوة وقوقو وملي وتكرور وغدامس فقوم لهم بأس، وليس بأراضيهم بركة ولا خير في أرضهم، ولا دين لهم ولا عقل، وأشرهم قوقو… يرمون بنبل مسموم بدماء حيات صفر لا تلبث ساعة واحدة حتى يسقط لحم من أصابه ذلك السهم عن عظمه، ولو كان فيلا أو غيره من الحيوانات، والأفاعي وجميع أصناف الحيات عندهم كالسمك يأكلونها، لا يبالون بسموم الأفاعي ولا الثعابين إلا بالحية الصفراء التي في بلدهم، فإنهم يتقونها ويأخذون دمها لسهامهم. وقسيهم صغار قصار، رأيتهم في بلاد المغرب، ورأيت قسيهم، وأوتارهم من لحاء الأشجار الذي في بلادهم، ونبلهم قصار، كل سهم شبر، ونصالهم شوك شجر كالحديد في القوة قد شدوه بلحاء شجر… وهم شر نوع في السودان ينتفع بهم في الخدمة والعمل إلا القوقو، فلا خير فيهم إلا في الحرب…
الصين والهند
… وأما بلاد الصين، فهي كبيرة، وملوكها أهل عدل وإنصاف وهم أكثر من أهل الهند أضعافا مضاعفة، وفي أرضهم نعم كثيرة، ولهم أنواع من الصنائع لا يهتدي إليها غيرهم، كالفخار الصيني والديباج، وغير ذلك. وهم يعبدون الأصنام كأهل الهند، إلا أن أهل الهند لا يأكلون الحيوان، ولا ما يخرج من الحيوان، كالعسل واللبن، ويحرمون على المسلمين ذبح البقر، ويبيحون لهم ما سوى ذلك. وإذا مرض أحد منهم أعطى للقصاب مالا بقدر ما يرضيه، ويقولون له أعتق الحيوان من الذبح أياما معدودة على قدر ما يرضيه. وإذا مات بينهم غريب، وله أحمال من الأموال، لا يتعرضون لتركته ولا لشيء من ماله وأولاده ونسائه، ويحترمون التجار من المسلمين غاية الاحترام، ولا يؤخذ منهم عشور في بيع أو شراء، ولا مكس فيا ليت ملوك المسلمين اقتدوا بهذه السياسة الحسنة، فهم كانوا أحق بها…
تمساح نيل مصر
وفي نيل مصر حيوان يعرف بالتمساح كبير، يكون طول جسده ستة أذرع وأقل وأكثر، وذنبه مثل ذلك وظهره وبطنه كالسلحفاة، ويداه ورجلاه قصار على صورة الضب وفي فمه ثمانون نابا، أربعون في الفك الأعلى، وأربعون في الفك الأسفل، يتحرك فكه الأعلى وفكه الأسفل، عظمه متصل بصدره، وليس له دبر، وله فرج ينسل ولا يتغوط، وهو شر من كل سبع في الماء، وإذا شبع وامتلأت معدته، خرج إلى بعض الجزائر واستقبل الشمس، وفتح فاه، فيدخل في معدته أنواع من العصافير… في رؤوسها عظام كالمناقير فيأكلون في معدته، فإذا شبعت خرجت ودخل غيرها، حتى لا يبقى شيء، وربما أطبق فمه على بعضها فيطعن في معدته برؤوسها التي فيها العظام، حتى يفتح فمه فيخرجون فسبحان الله العظيم، ما أكثر عجائبه، وهو كثير في نيل مصر…

فلسفة وفلاسفة عنصريون – د. حميد لشهب، النمسا
نلاحظ حاليا نهضة حقيقية للأنوار عند العديد من مفكري أجنحة الوسط والمحافظين في الغرب، ممن رجعوا إلى الحركات الفكرية للقرنين السابع عشر والثامن عشر. ويُعد هذا الرجوع جوابا عن القوميين الغربيين وأجنحة اليمين واتجاه النسبية وإلى الأيديولوجيا اليسارية المؤمنة بالتعدد.
يؤكد مثل هؤلاء المفكرين بأن تاريخ الأنوار يمشي بطريقة مستقيمة ودون انعراجات نحو التقدم، دون أي نقد لا ظاهر ولا مضمر للويلات التي جاء بها أيضا مثل الاستعمار والعنصرية والعبودية والأبرتهايد. ذلك أن الغالبية العظمى من مثل هؤلاء المفكرين يقبلون الاستعمار ولا يرون حرجا في العنصرية. وبهذا يتم قطع الأنوار عن جذورها الثقافية والتاريخية الحقيقية، وبفهمها كخط مستقيم للتقدم والرفاهية يتم تشويه وجهها الحقيقي، الذي يتكون في الحقيقة من وجهين: وجه خير وآخر سيئ/شرير. ومن بين الثنائيات الكثيرة لهذا الوجه هناك النداء للحرية الفردية والليبرالية في الأوطان الأوروبية، وفي نفس الوقت ممارسة الاستعمار والاسترقاق في المستعمرات خارج أوروبا. وبهذا نلمس الوجه الحقيقي للأنوار الغربية، ليس لأنها مرتبطة في الأساس بمركزية أوروبية واضحة، بل لأنها إقصائية وإقليمية، أي محدودة ثقافيا وجغرافيا، على الرغم من ادعائها بأنها كونية. ولابد أن تفهم هذه الأخيرة، طبقا لما سبق، كاستعمار، بما أن شعار الأوروبي الغربي كان هو «إيصال الآخرين» للتقدم الصناعي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي إلخ.
إن مُصطلح العرق كما نفهمه اليوم -أي كتصنيف بيولوجي يُحول الفرق الفيزيقي إلى علاقة هيمنة- هو منتوج مباشر للأنوار. وظهرت العنصرية، باعتبارها نظاما اجتماعيا سياسيا مؤسسا على الهرمية الدائمة، كمحاولة للقضاء على التناقض العميق بين إشعاع الأنوار والإبقاء على العبودية. ومن مسؤولية كل من يتغنى بالأنوار ويروج لها ألا يغض الطرف عن تركيبتها الحقيقية ولا محاولة تعليل وجهها اللاإنساني.
من البديهيات الساطعة الوضوح الغياب التام، ولربما المقصود، لتخصيص فلاسفة الأنوار والعصر الحديث دراسات جدية لموضوع الاسترقاق والتمييز العنصري، في زمن عرف «تحولا» كبيرا في محاولات «عقلنة» السلوك والواقع والابتعاد أكثر من إنسانية أكثر إنسانية. وتصح هذه الملاحظة على فلاسفة غربيين معاصرين لا يُستهان بعددهم. ومن بين أسباب هذا الغياب هو كون التطرق للرق لم يكن يتناسب مع ما كان الأوروبي يعتقده عن العلم الحديث، بل استعمل المرء غطاء العلم والفلسفة لتبرير الاسترقاق. تم العمل على تبرير التمييز العنصري «علميا» لتثبيته سياسيا. قفز المرء على نظرية التسلسل الأحادي للبشرية، القائل بأن كل البشر ينحدرون من آدم وحواء، ليؤكد بمبررات هاوية بأن هناك بشرا – وبسبب ظروفهم البيئية والاجتماعية- انحطوا في إنسانيتهم وتخلفوا في كل المجالات. والأخطر من هذا هو ظهور فكرة تعدد أصول البشرية، بمعنى أن البشر لا ينحدرون من نفس الأصل: وفي كتابه «العقد العرقي»، يؤكد تشارلز ميلز أن البيض لا يعترفون إلا بالبيض مثلهم، ويصنفون كل الأعراق الأخرى على أنها غير «بيضاء»، غير كاملية في إنسانيتها، بالمقارنة مع البيض الكاملين. وبالتالي، يرى في هذا المنظور المبرر الذي اختاره البيض لاسترقاق الآخرين.
فُهمت الحياة من طرف الكثير من فلاسفة التنوير كصراع أجناس متحضرة ضد أجناس متخلفة، مفترضين بذلك حتمية التخلف «البنيوي» لثقافات الشعوب غير الأوروبية، وبالتالي اختزال الإنسان إلى بعد مادي واحد يتم التعامل معه بلغة الأشياء.
لا جدال إذن في أن للعنصرية جذورا عميقة في الفكر والثقافة الغربيين. ويوضح هذا بما فيه الكفاية ازدواجية الخطاب الثقافي الغربي، وبالخصوص الإرث التنويري منه. وعلى الرغم من أن المرء يعلل الموقف الإيجابي للكثير من الفلاسفة والمفكرين الغربيين بكونهم أبناء عصرهم، وبأن العنصرية كانت أمرا يُمارس قانونيا ومقبولة من طرف عامة الناس، فإن هذا الطرح تبريري أكثر منه بُرهاني، لأن هناك مفكرين آخرين رفضوا العنصرية رفضا قاطعا وبحزم في نفس الفترة التاريخية. هناك لا محالة ما يُمكن تسميته وجوها فلسفية حاولت عقلنة العبودية والعنصرية بأدوات فكرية تنويرية وحديثة ومعاصرة. وما يؤكد هذا الطرح هو أن العقلية العنصرية قابعة في الفكر الغربي عامة، المؤسس والمقتنع بهرمية الإنسانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى