في اختفاء الدولة وظهورها
هناك من يتحدث اليوم عن عودة الدولة في المغرب كما لو أنه كشف سرًا من الأسرار الربانية.
جميعهم يطنبون في الحديث عن عودة مظفرة للدولة بمناسبة هذه الجائحة، التي رفعت مستوى التحدي عاليا جدا في وجه جميع دول وحكومات العالم، وكأنهم يتحدثون عن ظهور المهدي المنتظر.
لهؤلاء أود أن أقول: تتحدثون عن عودة الدولة في المغرب كما لو أن الدولة كانت نائمة أو غائبة والآن ظهرت وانتبهت.
عندما كان العالم العربي يغرق في أوحال الفوضى الخلاقة التي صنعوها وسموها في مختبراتهم الجيواستراتيجية “ربيعا عربيا”، كيف يا ترى خرج المغرب من هذا المستنقع بسلام في وقت انهارت حوله أنظمة مثل القش وتحولت إلى دول فاشلة وسيق قادتها نحو السجون أو المقابر؟
أليس لأن الدولة المغربية كانت سابقة للأحداث، ملمة بتفاصيل اللعبة، عارفة بمآلات وتطورات السياقات؟
عندما ضرب الإرهاب دولًا تعد من أقوى الدول وأكثرها تقدمًا في العالم لمن لجأت هذه الدول الجريحة في كبريائها لطلب المساعدة للخروج من هذه الدوامة الدامية التي دخلتها؟ أليس إلى الدولة المغربية؟
وقبل هذا وذاك، عندما كانت الأنظمة العسكرية تطيح بالملكيات في الدول العربية وتتوج نفسها حاكمة باسم المعسكر الشيوعي تحت ستار جمهوريات القش، هل سقطت الدولة المغربية في هذا الفخ؟
هل نسيتم كم من محاولة انقلابية فاشلة استهدفت النظام الملكي بالمغرب، كم من جنرال كان يجب أن ينتهي واقفا أمام كتيبة إعدام صبيحة العيد وأن يخترق الرصاص بزته العسكرية لكي لا تسقط الدولة بين أيدي عسكريين مغامرين يحركهم سياسيون ولاؤهم للنجمة الحمراء وللحرية التي يجب أن تكون يدك ملطخة بالدماء لكي تدق بابها؟
هذه الدولة عاشت الانقلابات والمؤامرات الداخلية والخارجية، وخاضت الحروب بجيوشها في الصحراء دفاعا عن وحدتها، وحاربت في سيناء والجولان دفاعًا عن فلسطين، وحاربت قبل ذلك مع الحلفاء لصد الديكتاتوريات الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية.
تتحدثون يا سادة عن دولة عمرها أكثر من 12 قرنا وليس عن شبه دولة رسم حدودها جوابو آفاق إنجليز حول بئر نفط، أو عن جمهورية تخيلها مقيم عام فرنسي وأطلق عليها اسما وضمها لمقاطعات بلاده قبل أن يمنحها بعدما قضى منها وطره ما يشبه استقلالا.
لذلك فهذه الدولة التي تتخيلون أنها كانت غائبة وعادت فجأة كانت دائما حاضرة، سوى أنكم لم تكونوا ترون منها سوى جزئها الظاهر الذي يرتبط بمصالحكم وامتيازاتكم وبوضعكم الاعتباري داخلها.
ومن كثرة ما خذلتم الدولة بجبنكم وبهدلتم مؤسساتها بتهافتكم وتركتموها وحيدة تواجه خصومها من أبناء جلدتكم المسلحين بحقدهم الدفين عليها مدعومين بكل ترسانات المؤسسات الدولية الحقوقية التي وضعتها مختلف الإمبرياليات تحت تصرفهم، فقد تراءى لكم أن الدولة انكمشت وخافت وتراجعت نحو العمق، مكانها الطبيعي، فيما هي في الحقيقة تحصن نفسها وتستفيد من أخطائها وتقوي من قدراتها التفاوضية التي جعلتها طيلة قرون تحافظ على استمراريتها رغم تغير الحقب والظروف والأشخاص والمؤامرات.
هذه الدولة التي لطالما اتهمها الجميع بشتى التهم، الإسلاميون ظلوا ينعتونها بـ”العميقة” التي تشتغل ضدهم في الخفاء بعفاريتها وتماسيحها وبقية حيواناتها البرمائية التي تعيش في الماء وفي اليابسة.
اليمينيون ظلوا ينظرون إليها كبقرة حلوب خلقت من أجلهم وأجل أبنائهم إلى يوم الدين، لذلك فهم ملتصقون بأثدائها مثل جراء.
اليساريون ظلوا ينعتونها بالرجعية والشمولية ويطالبون بتفكيكها وإعادة بنائها من جديد، وقد جربوا ذلك طوال خمسين سنة فانتهوا هم أنفسهم مفككين إلى ألف حزب وفصيل فيما الدولة بقيت متراصة محافظة على دوران أذرعها الجبارة التي تطحن كل من يريد أن يلعب معها لعبة رمي البراغي بين مفاصلها الفولاذية.
وليس صدفة أن الدولة المغربية حافظت على اسمها القديم الذي هو المخزن، والذي يعني الجهة المكلفة بحفظ وتخزين وضمان التموين. ففي الحقب الماضية كانت شرعية الحاكم تقاس بمدى قدرته على توفير الأكل للرعايا. وبدون مخزن ليس هناك تموين، ومن هنا نشأ المخزن الذي هو أصل وجود الدولة وضامن استمرارها.
وفكرة المخزن ليست غريبة على المغاربة، ففي كل بيت هناك مكان نسميه المخيزن وهو تصغير للمخزن الكبير، وفيه تضع العائلة مدخراتها الغذائية من شعير وعسل وزيت ولحم مقدد وغيره.
فلكي يحكم رب البيت ويسود داخل أسرته الصغيرة عليه أن يوفر مدخرات للمخيزن تحسبًا للأيام الصعبة، وكذلك الشأن بالنسبة للحاكم الذي يشرف على المخزن الكبير.
اليوم عندما ضربت الجائحة البلد وأجبرت مئات الآلاف من العمال المياومين البسطاء على البقاء في بيوتهم من وزع عليهم المواد الغذائية؟ أليس المخزن من صنع ذلك؟
من صرف لهم مساعدة شهرية لكي يقضوا بها حاجياتهم الأساسية طيلة ثلاثة أشهر؟ أليس المخزن؟
من يتكلف مجانًا بعلاج المصابين بالفيروس وتغذيتهم أثناء نقلهم وإيوائهم بالمستشفيات؟ أليس المخزن؟
لذلك فالجميع اليوم يضع يديه خلف ظهره ويقف منتظرا من الدولة أن تجد له حلًا. أصحاب الشركات الكبرى والصغرى والمتوسطة والقطاع غير المهيكل، الصناع والفندقيون والمصدرون وأصحاب المهن الحرة والموظفون… الجميع ينتظر أن تمد له الدولة يدها لكي تنتشله من المستنقع.
والدولة في الواقع لا تصنع شيئًا آخر سوى التفكير في حلول لكل هؤلاء الناس، لأن هذه وظيفتها.
والذين يعتقدون أن الدولة عادت اليوم عليهم أن يراجعوا ما قاله الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله في كتاب ذاكرة ملك عندما سأله الصحافي سؤالا حول القدرات النفطية للجار الجزائري وهل هذه القدرات لا تشكل مصدر إزعاج له، ماذا قال الملك الحكيم؟
قال له التالي :
“ما يهمني ليس النفط الذي تتوفر عليه الجزائر بل أوجه استعماله، وفي الوقت الذي يستخرجون فيه البترول فأنا أشيد السدود. وإنني أعرف أن بعض العسكريين الجزائريين سيقولون شامتين “انظروا إليه يزرع الطماطم فيما نحن نزرع أنابيب البترول”. لهؤلاء أقول أتمنى لكم حظًا سعيدًا في اليوم الذي سيكون فيه عليكم أكل شطائر لحم مصنوعة من البترول”.
ها نحن نقف اليوم على حكمة وتبصر وبعد نظر الملك الحسن الثاني، ففي الوقت الذي كان فيه جنرالات الجزائر يستعملون عائدات النفط لشراء العتاد لتسليح البوليساريو والمعارضة اليسارية المقيمة عندهم لضرب وحدة المغرب، كانت الدولة المغربية تشيد السدود لحماية الأمن الغذائي المستقبلي للمملكة، وها نحن نرى كيف وجه ابنه الملك محمد السادس الدولة قبل سنة نحو بناء ثلاثة سدود مائية كبرى في الشمال تنضاف إلى 10 سدود كبيرة و60 سدا متوسطا وصغيرا تم إنجازها بالإضافة إلى رصد 115 مليار درهم لتطبيق مخطط مائي يمتد من 2020 إلى 2050.
كل هذا الإنفاق على بناء السدود لماذا؟
لأن الماء هو الحياة، ليس للإنسان فقط بل حتى بالنسبة للدول. واليوم أكثر من أي وقت مضى، حيث الدول تنكمش على نفسها وتغلق حدودها، تظهر أهمية الماء والفوسفاط والزراعة والفلاحة والصناعات الغذائية المرتبطة بهما.
كثيرون هاجموا المخططات الفلاحية التي انخرط فيها المغرب، مثلما هاجموا قبلها مخططات السدود، واعتبروا أن مستقبل المغرب هو الانخراط في الحداثة والخروج من جلباب المجتمع الفلاحي.
ها هي اليوم الأحداث تؤكد أن الفلاحة، والبحوث العلمية والهندسية المرتبطة بها، هي الأصل. يمكن أن يكون لديك بترول وغاز ومعادن ومفاعلات نووية، لكن هل ستضعها في صحون مواطنيك عندما سيداهمهم الجوع؟
هذا هو سؤال الحاضر والمستقبل.