«فنانو المقابر»
كان الراحل الطيب الصديقي يتميز بسخرية لاذعة وبقدرة هائلة على أن يقول للمخطئ أخطأت وللمصيب أصبت دون أن يلقي بالا لردود الفعل الناجمة عن صراحته وميله الطبيعي إلى «تنقيط» ذكاء مخاطبيه، لذلك لم يكن الصديقي نديما مطلوبا في الصالونات المخملية، حيث يسود النفاق الاجتماعي والمجاملات ووعود الليل التي يمحوها النهار، بل كان يفضل الانزواء في بيته لكن بابه ظل مفتوحا في وجه زواره من كل الأصناف والميولات والأقطار. وما أن تسربت أولى الأخبار عن مرضه حتى خلا صالونه، الذي كان بحق صالونا أدبيا وفنيا، من الزوار إلا من خلان أوفياء يمكن عدهم على أصابع اليد الواحدة. وكلما ازداد مرضه استفحالا كان الصديقي يرفض بشدة أن تنشر الصحافة أخبار انتكاسة صحته حتى لا يعتقد أحد بأنه يتوسل دعما أو مساندة من أصدقائه القدامى أو الجدد. فماذا لو عاين الصديقي آلاف المشيعين لجثمانه الذين داست أحذيتهم قبور الموتى وازعجوا نومهم الأبدي من فرط الاستهتار بالقيم والازدحام والفوضى. وماذا كان له أن يقول وهو يتفرج على «المشيعين» يلتقطون صور «السيلفي» أو يتسابق النجوم منهم على المكروفونات والكاميرات من أجل الإدلاء بشهادتهم «التاريخية» عن الراحل وذكرياتهم التي لا تمحي معه، فيما أغلبهم لا يرتبط بأي علاقة بالفقيد لا من قريب أو بعيد.
كل ما في الأمر أن حضور مراسيم دفن المشاهير قد تحول إلى موضة لدى الفضوليين واشباه الفنانين من أجل «التبندير بلا حيا بلا حشما» أمام كاميرات التلفزيون والتقاط صور مع من حضر من «نجوم» الفن والسياسة والرياضة.
لقد اكتشف الفنانون أنفسهم ممن شيعوا جثمان الصديقي أن هذه المناسبات الحزينة والمقابرهي كل ما أصبح يجمعهم بعد أن تفرقت بهم السبل وتعمقت القطيعة بين أجيالهم وعجزت النقابات المهنية عن لم شملهم إن لم تكن ساهمت في تشتيت صفوفهم وزرع الأحقاد والحزازات بينهم، وهو ما يعيد إلى الأذهان واقع أحد الأحزاب التي تعرف تطاحنا بين قيادتها وأعضائها، فساد بينهم التنافر إلى أن قال أحدهم »لم يعد يجمع بيننا من شيء سوى المقابر»، حيث يلتقي كل الفرقاء من أجل دفن رمز من رموز الحزب ثم يتفرق شملهم مباشرة بعد مغادرة المقبرة.
ما كان الطيب الصديقي يقبل بالتزاحم حول قبره بهذه الكثافة بعد أن عاش أيامه الأخيرة مهمشا ومنسيا إلا من أقرب المقربين. فكما كان الراحل يرفض النفاق الاجتماعي قيد حياته، فإنه لم يكن ليقبل به بعد وفاته مادام أنه لم يكن من ذلك الصنف من البشر الذي يبني حياته على مقولة «شوف وسكت».