يونس جنوحي
رغم برودة الجو، لازال السياح مصرين على التجول بملابس خفيفة في الشوارع الضيقة للمدينة القديمة بطنجة. سواء في الطريق المرتفعة في اتجاه القصبة، أو المنخفضات التي تُفضي إلى المنازل والإقامات المطلة على البحر المتوسط، نواحي متحف المدينة، غير بعيد عن إقامات لشخصيات تاريخية صنعت مجد طنجة في مجال الأدب والعلوم الشرعية، وانتهى بعضها في ملكية أثرياء من جنسيات أوربية ومن أمريكا اللاتينية، فضلوا الإقامة على ضفاف المتوسط.
باحثون عن مغرب مُنقرض
الأجواء صاخبة، والممرات الضيقة المتشعبة في قلب المدينة القديمة لا تزداد إلا ازدحاما. سائحان من جنسية إسبانية يتناقشان بصوت مرتفع عن اختيار نُزل لقضاء الليلة، وفوق ظهريهما حقيبتان رياضيتان. بدا واضحا أن دليلهما السياحي الذي كان لا يزال طفلا في مقتبل العمر فقد الأمل في إقناعهما بالاستمرار في الجولة التي انطلقت من أمام سينما الريف، وكان مخططا لها أن تمتد ربما إلى تخوم المدينة القديمة وصعودا في اتجاه القصبة، حيث المقاهي القديمة المخصصة للسياح. أنهيا النقاش مع الشاب على درج مقهى «طنجيس» الشهير، والذي يعتبر واحدا من أقدم مقاهي مدينة طنجة وأكثرها شهرة، وأيضا استراحة للعابرين في اتجاه القصبة.
خلف المقهى تماما، وفي محيطه أيضا، توجد سلسلة من الفنادق ذات الطراز الأوربي القديم، تكابد اليوم، بعد قرن تقريبا من الوجود، للبقاء صامدة في وجه الزمن لاستقبال السياح.
«نُزل» أو «بنسيون»، كلها تبقى فنادق في نظر سياح يبحثون عن ادخار المصاريف، ويفضلون التوجه صوب المدينة القديمة لحجز فنادق رخيصة لقضاء الليلة، بدل التوجه صوب الكورنيش حيث الأضواء والفنادق المصنفة. الكلام هنا لمحمد سباطا، وهو أحد المشتغلين في الاستقبال بنزل صغير تعود ملكيته سابقا لسيدة إسبانية اشترته في سبعينيات القرن الماضي من مالك إسباني ورثه عن والده سنة 1917. يقول: «اشتغلت في هذا النزل لأزيد من 30 سنة، قضيت كل لياليها في استقبال السياح، وهم إسبان في الغالب وأحيانا يأتي بعض الألمان، أو مواطنو أوربا الشرقية، ويحجزون ليلة أو ليلتين قبل أن يواصلوا رحلتهم أو يعودوا أدراجهم إلى أوربا. أعرف خمسين نُزلا من هذا النوع في طنجة. لا أدري تحديدا إن كانت كلها لا تزال رهن إشارة السياح، إلا أني متأكد أن الجيل الذي بدأتُ معه هذه المهنة أوشك على الانقراض، والكثيرون فضلوا البحث عن بديل، وتركوا تسيير هذه الفنادق الموروثة وراء ظهورهم».
كان الرذاذ يتطاير من فمه وهو يرثي حال النُزل الصغير الذي يعمل به: «في السابق كان هذا الفندق الصغير الذي تراه واحدا من أكثر البنايات جمالا في المدينة، لكن كما ترى، بحكم موقعه وسط المنازل والأزقة، فإنه تحول إلى مجرد عمارة مهملة بعد أن تخلى مُلاكه عن تجديده واختلفوا في تقسيمه أو بيعه لمستثمر حتى يُجدده».
نُزل كاثرينا..
ذكر عدد من الكتاب الأوربيين، والأمريكيين أيضا، فنادق كثيرة في طنجة كانت مشهورة بخدماتها الرفيعة في عشرينيات القرن الماضي. لكن أثناء بحثنا عن أثرها لم نجد في الحقيقة ما يعكس القيمة التاريخية لهذه الأماكن. رغم أنها كانت مسرحا لأحداث مهمة، واستقرت بها شخصيات ألفت كتبا في فضاء هذه الفنادق، وحققت مبيعات مهمة قبل أكثر من 80 سنة.
لنأخذ على سبيل المثال نُزل «كاثرينا» الذي جاء في أوصافه، في مذكرات المغامرة البريطانية الشهيرة «آميليا بيرير»، أنه يقع في مرتفع يطل على البحر المتوسط صعودا من فندق «إكسيلسيور». وهو اليوم الذي يطل على شارع محمد السادس، و«مارينا» الجديدة التي ترسو اليخوت أمامها. كان نُزل «كاثرينا» يطل مباشرة على البحر، وبُني أساسا فوق الصخرة التي كانت تشكل خلال عشرينيات القرن الماضي حدود طنجة الدولية.
هذا النُزل لم يعد موجودا اليوم، رغم أن بعض الفنادق المجاورة له لا تزال صامدة، مثل نُزل «الريف» وفندق «إكسيلسيور». كتبت «آميليا» في مذكراتها A winter in Morocco، أي «شتاء في المغرب» سنة 1873، حيث أشارت فيها إلى مكان النزل والقصة وراء شرائه واختيار صاحبته «كاثرينا» الاستقرار النهائي في طنجة بعد وفاة زوجها البريطاني، أن الفندق كان مقرا لبعض موظفي القنصلية الأمريكية وأيضا موظفي المفوضية البريطانية في المغرب. حيث كان هؤلاء الموظفون يلتقون كل مساء في مقهى الفندق الذي كان يطل على البحر، ليتحدثوا في التطورات السياسية، ويقرؤوا الجرائد.
كان في الفندق عمال مغاربة اشتغلوا لصالح كاثرينا التي كانت تشغل أختها الصغرى في الاستقبال. تحدثت «آميليا» عن العقدة الغريبة التي تعاني منها كاثرينا، والتي تتمثل في تخوفها الدائم من الضيوف الرجال، والحصار الذي تعاني منه رغم أنها أجنبية ومتفتحة، في الأيام التي يكون فيها كل الضيوف رجالا، حتى أنها لا تقوى على النوم وحدها في غرفتها الخاصة إذا كانت الغرف القريبة منها محجوزة بالكامل لضيوف كلهم رجال. كاثرينا كانت توزع المهام على الخدم المغاربة بدقة. مثلا كانت مهمة «سالم» أن يوفر الماء الساخن للضيوف فيما كانت مهمة باشة، (وهو اسم مغربي قديم جدا) الأساسية، أن تعد الحساء الساخن الذي يسبق وجبة العشاء. وكان المشكل يكمن في أنهما لا يلتزمان أبدا بالتوقيت الدقيق أثناء تقديمها، ويتأخران في كل مرة أكثر من اللازم، حسب ما جاء في المذكرات، ويبقى الضيوف في انتظار مفتوح إلى أن ينتهيا من إعداد المهام الموكلة إليهما.
مؤسف حقا أن يكون نُزل في طنجة، وصل إلى العالمية من خلال مذكرات مغامرة وكاتبة بريطانية شهيرة تركت بصمتها في سوق الكتب ببريطانيا، وألا يبقى له أي أثر اليوم، وأن تُبنى مكانه منازل وعمارات تطمس تاريخ المكان تماما.
فندق الإيطاليين
كانت التمثيلية الدبلوماسية الإيطالية تعزز موقعها في طنجة لتنافس وجود الإنجليز بالمدينة. واليوم، لا يعلم الطنجاويون تحديدا الأماكن التي كان الإيطاليون يجلسون فيها بل ويفتحون فيها أول مطعم إيطالي ليس فقط في طنجة وإنما في القارة الإفريقية. تقول بعض وثائق الأرشيف البريطاني في طنجة إن إيطاليا فتحت أول مطعم إيطالي بها في الطابق الأرضي لفندق كان يحمل اسم «إيطاليا» وكان يقصده القنصل الإيطالي في طنجة وبعض الشخصيات الدبلوماسية لإحياء الاحتفالات الرسمية سنة 1905.
رغم أننا حاولنا في هذا الربورتاج الوصول إلى المكان الذي كان يشغله هذا الفندق، إلا أن أمر تأكيد مكان وجوده سابقا أصبح مستحيلا في ظل وجود عمارات سكنية على الطراز البريطاني يعود تاريخ بنائها إلى 1910 و1920، يقال إنها أقيمت على أنقاض بنايات أخرى صدر قرار هدمها إما بسبب مغادرة أصحابها لمدينة طنجة أو إفلاسها مبكرا، لتعرف أشغالا غيرت ملامحها إلى الأبد.
في أرشيف صور مدينة طنجة، توجد صور تؤرخ لفنادق لم يعد لها وجود اليوم، وبُنيت منذ ثلاثينيات القرن الماضي، مكانها فنادق أخرى، وعمارات سكنية يعاني سكانها اليوم مع السلطات لتنفيذ قرار إفراغها رغم أن بعض الخبراء أصدروا خبرة رسمية بجودة بعض تلك البنايات وصلاحيتها للاستغلال لخمسين سنة أخرى أو أكثر، مثل ما وقع في منطقة فندق الشجرة، أو العمارات المحاذية لسور القصبة.
يقول الباحث في تاريخ العمران محمد غيسان، في حديث إلى «الأخبار»، إن تراث المباني لطنجة الدولية لا يمكن تلخيصه في بنايات انقرضت أو أخرى في وضع هشاشة، وإنما تجب الإحاطة به من زاوية حمايته من الضياع والاحتفاظ به مع ضمان عدم طمس هويته التاريخية.
من ينفض الغبار عن الطاولة؟
في أزقة ضيقة بقلب المدينة القديمة لطنجة، حيث الطريق الملتوية تُفضي إلى القصبة وإلى قبر الرحالة الشهير ابن بطوطة الذي يأتي سياح من العالم كله لرؤية ضريحه، تتفرق منازل كثيرة، يبدو واضحا أن سكانها يبذلون جهدا كبيرا لإبقائها صامدة في وجه الزمن. الأطفال الصغار ينطّون بين جنباتها، بينما الباعة الذين فتحوا محلاتهم في قلب بعض تلك المنازل، ينظرون إلى المارة بغير اكتراث، حيث لا تحتاج إلى كثير من الجهد لتستنتج علامات الأزمة والركود التجاري.
تصميم الفنادق الصغيرة بالكاد يكون متشابها. أغلبها تضع مكاتب خشبية مهترئة في الاستقبال المتصل أساسا بدرج نحو الطابق العلوي حيث تتوزع الغرف، بشرفات حديدية صدئة تطل إما على البحر المتوسط، وإما على الزقاق حيث الطريق الضيق المزدحم بالعابرين، الذين لا يعلم أغلبهم أي تاريخ تجمعه هذه البنايات المنسية.
«الكونتينونتال».. الصامد أمام المتوسط
فندق الكونتينونتال المطل على المرسى القديم، الذي تحول اليوم إلى «مارينا» جديدة وكورنيش لا تهدأ الحركة به ليل نهار، بعد أن كان أول ما تقع عليه أنظار القادمين إلى المغرب من بوابة طنجة نحو القارة الإفريقية، لا يزال صامدا أمام رياح المتوسط. بُني هذا الفندق سنة 1870. نعم قبل قرن ونصف. المثير في قصة هذا الفندق الذي يبقى اليوم متحفا يضم صورا أثرية موزعة على غرفه وممراته المفضية إلى الفضاء المطل على البحر، أنه لا يزال يفتح أبوابه أمام ضيوفه بعد سلسلة من الإصلاحات جعلته يصمد كل هذه المدة أمام مد الزمن. لم يتم المساس بجوهر تصميم الفندق ولا معالمه الأصلية. واختلف الكثيرون حول عدد الشخصيات المهمة التي مرت بغرفه. لكن الأكيد أن رئيس الوزراء البريطاني ونستن تشرشل كان أبرزهم، بالإضافة إلى أن الفندق كان أيضا مسرحا لتصوير عدد من الأعمال السينمائية العالمية.
يبقى هذا الفندق أكبر دليل على أن فنادق طنجة، الصغيرة والكبيرة، تحمل تاريخا كبيرا غاب معظمه، وسقط من الذاكرة.
لن نعدد هنا عدد الفنادق القديمة بطنجة، ليس فقط لأن الحيز لا يسمح، ولكن لأن عملية إحصائها شبيهة بإحصاء السكان القدامى للمدينة، والذين تفرق أغلبهم إما بين مقابرها المنسية أو عادوا من حيث أتوا.
لا توجد معطيات كافية عن عدد الفنادق والنُّزل القديمة بمدينة طنجة. تأثرت بالسباق بين الحكومات، حيث ألغيت فنادق بمغادرة تمثيليات دبلوماسية للمغرب، مثل ما وقع مع مغادرة المفوض الألماني في طنجة خلال سنة 1909، حيث تحولت عدد من المنازل التي كان يقيم بها الألمان إلى ملكية بريطانيين وإسبان على الخصوص، وغيروا أسماء النزل والمقاهي التي كان يتردد عليها أو يُشرف عليها الملاك السابقون. ومع حصول المغرب على الاستقلال، وبداية نهاية «طنجة الدولية»، تحولت ملكية أغلب تلك النزل والفنادق إلى مغاربة بينما احتفظ بعض الملاك الأجانب بعقاراتهم، لكن الإهمال طالها رغم ذلك.