بقلم: خالص جلبي
الحديث (40) فلسفة المال بين الزهد والفحش أو بين القلة والثراء وانعكاسه على الذرية من الأبناء والأحفاد
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قَال: «قلتُ: يا رسول الله، أنا ذو مال، ولا يرثني إِلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بِثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: أفأتصدق بِشطره؟ قَال: لا، قلت: أفأتصدق بثلثه؟ قَال: الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس»، متفق عليه.
أنا شخصيا قد أنعم الله علي، ومع ذلك أحسب ميزانيتي مع كل نفقة، فلا أجزع ولا أطمع. وسياسة اقتصادية مثلى تريح الإنسان في حياته ولذريته من بعده، كما جاء في الحديث أن علينا أن نريح أولادنا من بعدنا، فلا نتركهم فقراء، كما علينا تدريبهم على حسن الإنفاق والاعتدال في كل شيء. في هذا كان المالي الأمريكي المشهور «جون روكفلر»، في بداية حياته، يصاب بالأرق عند خسارة 150 دولارا، فلا يعرف طعم النوم، وبدأ اليوناني «أوناسيس» حظه في الحياة برأسمال 50 دولارا فقط، وكان الكاتب المشهور «ديل كارنيجي» يشتغل في الحقول مقابل سنتات، كما وصف ذلك في كتابه «دع القلق وابدأ الحياة»، وينام في غرفة درجة حرارتها أحيانا 30 تحت الصفر في الشتاء، ويحافظ على «كوية» البنطال بوضعه بين المراتب. وبدأ «ويل ديورانت»، الأستاذ المغمور، أول تجربة كتابة له، فتجرأت إحدى دار النشر لتنزل إلى الأسواق كتابا أخذ اسم «قصة الفلسفةTHE STORY OF PHILOSOPHY »، وبدأ المفكر المغربي «عابد الجابري» حياته كما رسمها في كلمات محددة في كتابه «حفريات في الذاكرة»، هل يجب أن أنفخ جيبي أو رأسي؟ وأول كلمة نزلت من القرآن كانت «اقرأ» في سورة تضمنت حقائق اجتماعية أساسية، منها أن الغنى مقترن بالطغيان «كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى». وقص ابن خلدون في مقدمته قصة عجيبة عن حديث دار بين بهرام بن بهرام والموبذان، رئيس الكهنة، عن علاقة مفصلية ومتلازمة مملوءة شؤما، في أن الظلم مؤذن بخراب العمران، عندما يفسد توزيع المال في المجتمع.
ملء الجيوب أم شحن العقول؟
أما «جون روكفلر» فقد وضع يده على المليون الأولى وعمره 30 عاما، وأما «أوناسيس» فقد تطور أمره فملك أسطولا من السفن، تمخر عباب المحيطات، مشحونة بالذهب الأسود «البترول»، وتزوج «جاكلين كينيدي»، زوجة رئيس أمريكا الأسبق جون كينيدي. كما حصل مع الأميرة ديانا التي قضت نحبها برفقة مليونير، بعد تركها زوجها السابق الأمير شارلز. وأما «ديل كارنيجي» فقد ترجم كتابه إلى حوالي ثلاثين لغة في العالم، وطبع منه فقط في اللغة العربية ما يزيد على عشرين طبعة، وهو يراهن القارئ أن يلقي الكتاب بعد الصفحات الثلاثين الأولى، إذا لم يجد ما يفيد ويجذب. وأما «ويل ديورانت» فقد أصبح المؤرخ اللامع، فترجم كتابه إلى ثلاث عشرة لغة حية، وغدا مليونيرا من كتابه الأول، مما أعطاه فكرة التفرغ بجانب لوس أنجلوس في الحقول الخضراء، وبيت متواضع وطعام معتدل، مع زوجة متعاونة مشجعة «أرئيل التي أخذت اسمها بجانب اسمه»، وأن يعكف على إنجاز مؤلفه الموسوم بـ«قصة الحضارة» في 42 مجلدا، في جهد استغرق 50 عاما، بعشرات الرحلات إلى العالم، وقراءة خمسة آلاف مرجع لإنجاز مجلد واحد فقط. وأما الجابري فقد اختار طريق رحم العلوم الفلسفية، فعكف على إنجاز مشروع كامل للعمل الفكري النهضوي، في كتابات من أمثال «بنية العقل العربي» و«تكوين العقل العربي» و«مدخل إلى فلسفة العلوم» وسواها، ولكنه لم يصبح مليونيرا، ولا أظن أنه كان حريصا قيد حياته على هذا التفوق.
مصير الثروات وأصحابها
أصبح «أوناسيس» غنيا في مستوى «خاشقجي» السابق ويزيد، كما كانت تنقل مجلة «الحوادث» أخبارهما سابقا، بحيث إن نفقاتهما اليومية كانت تزيد على 50 مليون دولار، يتنقلان على يخوت ومعارج عليها يظهران وزخرفا، ولبيوتهما سُقفا من فضة، يديران صفقات دولية سوية ومشبوهة، المهم تدفق المال بغير حساب. وأما روكفلر فقد أصبح مالك أكبر شركة احتكارية في العالم، «ستاندرد أويل». في حين الأميرة البريطانية التي لقيت حتفها في سيارة «مرسيدس» فخمة مع عشيقها الجديد، فقد اهتز لموتها عرش المحطات الفضائية.
هستيريا القطيع وسحر العواطف
الذي حدث مع موت ديانا أن غسلت دموع المراهقين جنازتها، واستحال مكان موتها إلى جبل من الزهور، في شهادة عن معنى جبروت العواطف، وقوة الدعاية الإعلامية، وهستيريا القطيع، كما أشارت إلى ذلك وزيرة الثقافة الأمريكية «إيلين شوالتر ELAINE SHOWALTER».
كان هتلر يرفع يديه ويزعق، فتجيب الجموع المجنونة بسحر الخطاب، ويهتف المراهقون: نحن أفضل من كل الناس على وجه البسيطة، نحن المميزون فوق الجميع «ألمانيا فوق الجميع DEUTSCHLAND UEBER ALL»، وردد اليهود: نحن أبناء الله وأحباؤه. ومع كل كارثة 1967 م التي ما زال العرب يدفعون فواتيرها حتى هذه الساعة، فقد زحفت ملايين في جنازة عبد الناصر وانتحر البعض في بيروت. وأما كفن الخميني في طهران، فقد مزق البعض طرفا منه في تعبير عن الاحتفاظ بالمقدس. وحول جيش «غرازياني» ليبيا إلى معسكر اعتقال كامل، بأمر من الدوتشي «موسوليني». في رحلة عجيبة كما تقول مجلة «دير الشبيغل» الألمانية عن العقل الإنساني، باتجاه الأسطورة واللامعقول وانتصار سحر العواطف على كل العقلانية.
جبروت قارون
في مشهد الاستعراض الساحر الذي خرج به قارون على قومه، تمنى الجميع أن يكون لهم مثل هذه الأموال قبل أن يخسف الله به وبداره الأرض. الذي انتبه إلى هذا الوهم الكبير من ملك «العلم»، ولم يذكر القرآن هذه القصة عبثا، فقد جرت المقادير بأصحاب الثروات بالمخطط نفسه من اللعنة والانحطاط والدمار.
أما جون روكفلر فقد أصبح عجوزا محطما وهو في سن الثالثة والخمسين، وأما أوناسيس فقد مات ابنه الوحيد محطما في طائرة أمام عينيه، وتركته جاكلين، وورثته ابنته التي ماتت في سن الشباب مريضة بالسكري والقهر، ولم تعرف طعم السعادة قط، وبقي المال للحفيدة المريضة بالسكري أيضا. وأما خاشقجي فقد توفي سنة 2017، تاركا المجال لأسماء جديدة تلمع هذه الأيام، والتي لن يكون مصيرها بأفضل ممن سبق.
الذي نجا هو من اتعظ فـ«روكفلر» عندما شعر بالموت يطوقه، اتخذ قرارا صارما بتغيير حياته جملة وتفصيلا. نصحه الأطباء ثلاث نصائح تقيد بها حتى آخر نفس من عمره: قم من الطعام ولو لم تشبع ـ تجنب القلق ـ استرخ والتصق بالطبيعة وتعلم منها. لم يمت روكفلر بعدها وهو في سن 53، بل عاش حتى بلغ 98 سنة، وعندما وصله نبأ المحكمة بتغريمه بضعة ملايين من الدولارات، خاف المحامي على صحته، ولكن «روكفلر» طمأنه قائلا: اطمئن فيمكن أن أنام هذه الليلة ملء جفوني! الذي حدث بعد ذلك أن روكفلر بدأ يلقي بالملايين في المشاريع الخيرية، فبنى جامعة شيكاغو، وقام بحملة تطعيم ضد الحمى الشوكية، كانت تقضي يومها على كل أربعة من خمسة مصابين، وأنشأ المعاهد العلمية التي برع في العمل فيها الجراح المرموق والفيلسوف «ألكسيس كاريل»، صاحب الكتاب المشهور «الإنسان ذلك المجهول»، ودعم جامعة للسود والكنائس. المهم كان يطير إلى كل هيعة، فحيثما يحتاج من يساعد يهرع إليه بملايينه، فثبت أن الإنفاق خير دواء للروح، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.
المال والطغيان
عندما بدأ القرآن يدشن بناء مجتمع جديد، كانت الكلمة الأولى هي «القراءة»، ومنها تشع مجموعة من المعاني: القراءة تعني الكرامة «اقرأ وربك الأكرم»، وكل مجتمع يقرأ يزداد كرامة. ثبت هذا في التاريخ، وهو دليل على ارتفاع مستوى كوريا، وبقاء غانا حيث هي تراوح مكانها بفضل التعليم وانتشار القراءة، فبين عامي 1960 و1995 ارتفع دخل الكوري إلى 13 ضعفا، وبقي الدخل السنوي للفرد الغاني في حدود 320 دولارا.
القلم يعني الكتابة «الذي علم بالقلم»، وهذا يعني الانتقال من مجتمع المشافهة إلى مجتمع الكتابة. بكل أسف لم يتطور هذا الشيء في العالم العربي حتى الآن، بعد مرور أربعة عشر قرنا فما زلنا أقرب إلى مجتمع المشافهة.
العلم يعني كماً تراكميا، كما نوعيا ناميا «علم الإنسان ما لم يعلم»، العلم قوة، العلم تحرر، علينا معرفة الحق والحق يحررنا، أنا الفهم لي القوة.
ومع هذه القضايا التأسيسية الكبرى يبرز المال جنبا الى جنب مع الطغيان،
«إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى». ليس المال «شرا»، بل هو «خير»، «وإنه لحب الخير لشديد»، ولكن «توظيفه» هو الذي يولد هذه اللعنة. فوجب الانتباه إلى توظيف ووظيفة المال بعدة وسائل، ليس آخرها تدخل الدولة في ذلك «من الزكاة والصدقة والإنفاق، ومبدأ من أين لك هذا؟ وتفتيت الثروة بنظام الميراث إلخ».
إن فهم جدلية المال يعني المزيد من الغوص الفلسفي، في محاولة العثور على صياغة العدل في الكون.
العدل الكوني
كما يتشكل ضوء الشمس من طيف من الألوان يبلغ سبعة، تشكل قاعدته «ثلاثة» ألوان هي الأحمر والأزرق والأصفر، كذلك فإن جميع ما نتذوقه يتم التعرف عليه بواسطة نتوءات حليمات اللسان، بواسطة قاعدة «سداسية» من المذاقات. وفي الأنف توجد محطات خاصة لاستقبال الغازات، يتم التعرف عليها كيميائيا بواسطة شيفرة «سباعية» من نماذج الروائح. كذلك بني الكون المادي على الهندسة الرشيقة نفسها، فتم تكوينه درجة درجة وخطوة خطوة، من أبسط العناصر الممثل في الهيدروجين، وانتهاء بأثقلها فصيلة اليورانيوم المشعة من العناصر النادرة، في توازن محكم وعدل وثيق، فجوهر العدل الوجودي هو التوازن بين عناصره في أي مستوى، وكل عنصر آخر ليس أكثر من إضافة بروتون جديد، فإذا تخيلنا العناصر سلما شاهقا مكونا من أكثر من مائة درجة، كان عنصر الهيدروجين الدرجة الأولى فيه، واليورانيوم الدرجة الأخيرة، وبين الدرجتين تتوالى العناصر على شكل سلم موسيقي بديع، لا يطغى عنصر على آخر، ولا يعتدي معدن على جاره.
نافذة:
كل مجتمع يقرأ يزداد كرامة ثبت هذا في التاريخ وهو دليل على ارتفاع مستوى كوريا وبقاء غانا حيث هي تراوح مكانها بفضل التعليم وانتشار القراءة