شوف تشوف

الرأي

فلسفة الشر والخير في العالم (2)

بقلم: خالص جلبي

نعرف اليوم أن درجة التجمد صفر هي نزول متواضع لدرجة الحرارة، واستطاع كالفن أن يصل إلى تحديد درجة البرودة القصوى نزولا حتى 273,15 تحت الصفر درجة تجمد الماء. أما ارتفاع الحرارة فلا يمكن تحديده، وهي على سطح الشمس 6000 درجة، وفي باطنها بضعة ملايين.
وما انطبق في الفيزياء ينطبق على الكيمياء والساكن والمتحرك، فالحموضة لا تزيد عن درجة تركيز أيونات الهيدروجين في الوسط. والإلكترون يطير في غمامة حول قلب النواة بسرعة تقترب من سرعة الضوء. «وترى الجبال تحسبها جامدة، وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء».
ويمكن نقل هذا القانون إلى عالم الفكر، حينما تقسم الأشياء إلى صواب وخطأ وخير وشر. فكما توزعت درجة الحرارة على شكل طيف وليس على شكل استقطاب حدي، وأن الانتقال من الحار إلى البارد وبالعكس، هو انتقال في (الدرجة) وليس في (الحقيقة)، فيمكن فهم الوجود على هذه الصورة. والشر ليس قيمة موضوعية، كما يرى عالم النفس (هادفيلد) في كتابه «علم النفس والأخلاق»، بل (وظيفة خاطئة). والوظيفة (الشريرة) «هي استعمال اندفاع (خيّر)، في وقت خاطئ، في مكان خاطئ، نحو غاية خاطئة».
ويذهب القرآن إلى عدم اعتبار الشر شرا، بل قد يكون خيرا لا تحسبوه شرا لكم، بل هو خير لكم. كما أن الكثيرين من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. كما أن المنافقين حينما يخاطبون أنهم يفسدون في الأرض، يقولون إنما نحن (مصلحون)، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. وكلمة (لا يشعرون)، حقيقة اكتشفها علم النفس التحليلي وسماها (اللاشعور Subconscious).
وفي الفلسفة حيرت مشكلة الشر العقول ومعنى بناء هذا الكون المليء بالظلم وعدم الاكتمال، ولكنها مسألة يمكن فهمها ضمن (بانوراما) كونية، وليس ضمن فكرة (الثنائية). فالشر ليس شرا كما يقول الفيلسوف الرواقي (إبيكتيتوس 55- 135 م)، الذي كان لا يرى في العالم شرا مطلقا، بل درجة في الخير حسب علاقتنا به بما فيه الموت. فهذه الحياة مائدة عامرة دعانا الله إليها، فإذا انتهت وجب أن نشكر صاحب الوليمة وننصرف شاكرين حامدين لا باكين نادبين.
وهذه الفكرة تتصل بنظرة (البوذية) عن مفهوم (الصيرورة)، وأن الحياة حركة فوق جسر، ومن أراد الوقوف على الجسر وقف ضد تدفق مجرى الحياة وعانى. واستيعاب الصيرورة هو الذي يخلص من المعاناة. فيجب الاستسلام إلى السياق الكوني، إن أردنا الوصول إلى السعادة الشاملة بدون نقص الممتدة بدون انقطاع (النيرفانا).
وقد نجح الفقهاء في استيعاب هذه المنظومة على أساس الطيف وليس الاستقطاب، وتوليد أحكامهم وفق حركة ضمن طيف في خمس محطات تواترية بين أقصى الحرام، مرورا بالمكروه ثم المباح، وصولا إلى المستحب وانتهاء بالواجب. وهي حركة جدا موفقة أكثر من جعل الأحكام تتذبذب على نحو ثنائي بين الحلال والحرام، كما تتصدر العناوين بعض الكتب «الحلال والحرام في الإسلام».
والكهرباء هي حركة بين السالب والموجب وليست قرارا عند قطب، «فبأي آلاء ربكما تكذبان». ولا تسبح النفس في حركة فعالة أكثر من السباحة، بين قطبي الأمل واليأس. ولا أدعى لتمثيل هذه الفكرة من رجل مطارد من جماعة تريد القبض عليه، فأفضل ركض له هو وقوعه تحت تأثير نفسي بين الطمع بالنجاة والخوف من الوقوع في أيديهم. وتتوقف حركته طردا مع الاقتراب من أحد قطبي اليأس والأمن، وهما محطتان ذكرهما القرآن أنه «لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون». وأن (لا يأمن) أهل القرى أن يأتيهم «بأسنا بياتا وهم نائمون». فالتحرر من قطبي (الأمن) و(اليأس)، هو الذي يفجر الحركة من أفضل ينابيعها طاقة. والاقتراب من أحد القطبين، يعدم الحركة تدريجيا. فإذا استولى أحد الشعورين كفت الحركة عن التولد، فهي رياضيات نفسية.
وفي تحليل سياسي قام به (مالك بن نبي) في عالم الأفكار، ذهب إلى أن الضلال السياسي سببه الوقوع في ذهان (الاستحالة) و(السهولة)، والأشياء في طبيعتها ليست كذلك، بل تسبح في طيف من الممكن والصعب والمستحيل.
والاستحالة تعني أن لا فائدة من بذل الجهد، ولكن الكثير مما نظنه مستحيلا هو صعب لا أكثر، وهو يتطلب بذل الجهد المكافئ. كما أن بعض الأمور المستحيلة تتحول إلى ممكنة مع الزمن، كما في نقل الصوت والصورة بالقوة الكهرطيسية. وحين نقع في رهان الزهد بالموجود والحلم بالمستحيل، نرسل عقولنا معطلة إلى إجازة مفتوحة.
وموقف العرب من إسرائيل هو من هذا القبيل، فإما كانت إسرائيل (دويلة عصابات)، وإما (التنين النووي) يقذف بشرر كالقصر، كأنه جمالة صفر ويل يومئذ للمكذبين، وهي ليست ذلك ولا تلك.
وكذلك الحال مع الديناصور الأمريكي. ويمكن فهم الزلزال الأمريكي خارج منظومة زرادشت، بين (أهرمان)، إله الشر، و(أهرمزدا)، إله الخير، للخلاص من الأوهام العقلية الأربعة لتحرير الإنسان، كما قرر فرانسيس بيكون: أوهام الكهف والقبيلة والمسرح والسوق.
يجب النظر إلى الاحتلال الأمريكي للمنطقة من جانب أنه استعمار بغيض، ومن جانب أنه خير حطم أصنام النمرود. وبين أن تستغِل أو أن تُستغَل شعرة. والفرق بين الزنا والاغتصاب والزواج أقل من شعرة، فهي ممارسة جنسية على كافة الأحوال، ولكن تمارس بين السرية والرضا والإكراه.
وكان سقراط ينظر إلى ذباب الخيل أنه يهيجها فيطرد عنها الخمول. ورأى المؤرخ البريطاني (توينبي) مصيبة إسرائيل أنها رحمة للعرب، كي تخلق عندهم تحدي النهوض. ولا تتحول الدودة إلى فراشة بدون معاناة تمزيق السجف فتطير، ولا تتم ولادة بدون كرب ودماء، ولا أطهر من النار لتنقية المعدن من الشوائب، ولقد خلقنا الإنسان في كبد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى