فلسفة الحرب بوجوهها الثمانية عشر
بقلم: خالص جلبي
ولكن صبرا فهذه ليست القصة ولا كامل الجرعة، فلابد من تملي الصورة جيدا ورؤية التاريخ الإنساني في ضوء جديد … والسؤال الكبير والمحير والذي اجتهد الفلاسفة والمفكرون في تحليله هو لماذا الحرب؟ كيف يقتل الإنسان أخاه الإنسان؟ كيف نشأت الحرب وتطورت؟ أين نشأت وما هي ظروف تكوينها الجنينية؟ وما هي جذور العنف والحرب عموما؟ ثم إلى أين وصلت اليوم؟ وما هو مصيرها في المستقبل؟
إن الحرب هي التجلي الأعظم لإلغاء الإنسان أخيه الإنسان، فعندما يختلف اثنان هناك طريقان لا ثالث لهما لحل المشكلة القائمة بينهما، إما محاولة التفاهم، بحيث يغير الآخر موقفه من تلقاء نفسه وبقناعته الخاصة، وإما باستخدام أساليب (الإكراه) للآخر بصور شتى لا تنتهي. فالعنف يبدأ من الكلمة وينتهي بالرصاصة، وأشكال السلوك العنيفة لا تنتهي من رفع الصوت وحدة النظر والتوتر والانفعال والتآمر والكراهية والغضب والحقد والخبث والضرب والأذية، وتتوج في النهاية بالإلغاء الكامل والتصفية الجسدية. فالحرب هي الصورة النهائية والتجلي الختامي لحذف الآخر الذي لا نعترف بوجوده، نحذفه من الوجود بالسكين والمسدس والقذيفة والسلاح النووي والكيميائي، فهذه هي فلسفة الحرب وجذر العدوان.
الحرب قديمة قدم الإنسان والحضارة، وتشكلت كخطأ (كروموسومي) مع بداية تشكل المجتمع الإنساني، فمع الحضارة ولدت الدولة ونشأت المؤسسة العسكرية الذكورية، ومع ولادة التخصصات في المجتمع وتطور التقانة نبتت العلوم العسكرية والتكنولوجيا الحربية، وبتعانق هذا الثالوث المشؤوم (المؤسسة + العلوم + التكنولوجيا) ولدت الحرب من رحم العنف؛ صغيرة ضعيفة لتكبر وتنمو بأشد من السرطان والغيلان، بل إن مجتمعات بكاملها تحولت لفترة طويلة أو قصيرة إلى مجتمعات عسكرية بالكامل، كما حدث مع مجتمع (إسبرطة) القديم والذي أصبح مضرب المثل في السوء، مقابل مجتمع (أثينا)، مركز العلم والفلسفة والفنون. ومع تطور آلة الحرب وعلوم استخدامها، وضخامة المؤسسة العسكرية واستفحالها وتغول الدولة، تفجرت الحروب والصدامات كتحصيل حاصل وكنتيجة حتمية، وكلها تحت ستار (الدفاع) عن النفس المشروع، أو أن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع. وبآلية الاستعداد المزدوج للدفاع يتشكل برميل البارود الذي لا يحتاج إلى أكثر من عود ثقاب كي ينفجر، فكانت الحرب كما وصفها (غاستون بوتول) بنت الحضارة وقاتلتها، في الوقت نفسه فالحروب قررت مصير العديد من الدول والإمبراطوريات، فارتفعت لتسقط بعد حين وبالآلية ذاتها.
ومرت دورات الحرب لتفرز أسلحة جديدة تنفع، سواء في الصدم أو الوقاية أو الحركة، وهكذا طور الآشوريون العربة الحربية، واستخدم هانيبال الفيلة، وطور الإسكندر نظام الفالانكس ببراعة، واستخدم الرومان نظام اللجيون بدقة وتفوق، وفتح الأتراك القسطنطينية بالمدفع الجبار، وحول كل من جنكيز خان وهتلر جيوشهما إلى فرق محمولة، سواء بالخيالة أو البانزر (الدبابات). ومع دخول النيران سقطت القلاع والحصون، وبتطوير المدفع الرشاش هزم الإنجليز دولة التعايشي خليفة المهدي في السودان. كما حصد الرشاش أرواح ما يزيد على ستين ألفا من خيرة الجنود البريطانيين في الحرب العالمية الأولى، وفي 12 ساعة فقط (معركة السوم)، ثم حصل التحول النوعي عندما انتشر الفطر النووي فوق سماء هيروشيما، معلنا وصول الإنسان إلى سقف القوة، ممتلكا هذه المرة سلاحا ليس كباقي الأسلحة، فهذه المرة وضع يده ودفعة واحدة على الوقود النووي وأصبح مصير الجنس البشري برمته مهددا بالفناء، فمع تطوير الجيل الثاني من السلاح النووي (القنابل الحرارية النووية الالتحامية من عيار الميجاطن)، أصبح بالإمكان مسح عاصمة دولة عظمى تضم 20 مليون نسمة. وتحويل سطح الأرض في النهاية إلى ما يشبه سطح القمر بدون شجر أو مدر، وتحويل الكرة الأرضية إلى جمهورية من الأعشاب والصراصير والعقارب ربما.
تعتبر الحرب، حسب تعريف المعهد الفرنسي لعلم الحرب، كارثة ذات ثمانية عشر وجها فهي: ((هيمنة وتأكيد مبدأ المانوية، وعدم الاعتراف بالغير، بل وإنكار وجوده واندلاع العنف، وغياب الحق، والمخاطرة بحياة الإنسان، وتدمير الثروات المتنوعة، وتكريس جميع النشاطات للمجابهات الدموية، وأفضلية اللامعقول على المعقول، والمطلق على النسبي، في إطار عقلي شمولي، ومبدأ الغاية تبرر الوسيلة، والفوضى واشتداد الأزمات، والدم والعرق والدموع واللقاء الحتمي مع الموت، وانقطاع أحمق يبرهن على فشل العقل والقلب)).
مع كل صورة «التنين» ذي الألسنة النارية الثمانية عشر هذه كما تتكلم الأساطير، فإن الإنسان يخطط لها ويبرمج، ويسعى إليها ويحفد، يتدرب ويستعد، فالثكنات العسكرية كلها للتدريب على قتل الإنسان أخيه الإنسان، والأسلحة المرهفة الثاقبة والمفجرة قد أعدت بعناية فائقة لنسف الإنسان وتقطيعه.
لعل أخطر مرضين أصيب بهما الجنس البشري هما
(الرق) و(الحرب)، فالحرب كانت تفرز الرقيق، والرق كان (الآلة القديمة)، فعضلات الإنسان كانت هي الآلة المستخدمة في حرث الأرض وحصد المحاصيل وتربية الحيوان والنقل وما شابه، وبدخول الإنسان عالم الصناعة كان إلغاء الرق محصلة طبيعية، فلو لم يلغ الرق قانونا لألغته الآلة عمليا، فاختراع الإنسان الآلة وفر الجهد البشري، فكان تحرير الرق تابعا لهذا التطور النوعي. وبهذه الآلية نفسها يزحف الإنسان ببطء إلى إلغاء المرض الثاني (الحرب)، وكل توابعها وتأثيراتها على الإدارة والعلوم والفنون. وهذا التطور الجديد يحتاج بالتالي إلى فكر جديد، فلم تعد أوعية الفكر وأساليبها العتيقة مناسبة للعصر النووي، فلابد من استراتيجية فكرية مناسبة للتطور العلمي الجديد.