فلسفة الجراحة
خالص جلبي
أنا شخصيا قسم مني كاتب وهو الأكثر، وقسم مني طبيب جراح وهو الأقل، ولست بالجراح الخائب؛ بل قفزت ثلاث مراحل وأكثر من الطب العام إلى الجراحة، ثم الجراحة التخصصية في جراحة الأوعية الدموية، وفي النهاية كنت في كثير من وقتي مع مرضى الفشل الكلوي، نعمل لهم من العمليات مثنى وثلاث ورباع، بين الفستولا والقسطرة والجرافت (زرع الشرايين الصناعية) وآخر من شكله أزواج. ولأن أربعة عقود في قاعات العمليات وسهر المناوبات الليلية ليست سلاما حتى مطلع الفجر، بل دماء وتوترا وهي أكثر من كافية لتعطيني فكرة عن معنى الجراحة وفلسفتها، لذا آثرت أن أتحف قارئي بخبرتي في عالم الجراحة والجراحين وقاعات العمليات وسهر الليالي، لعله يرضى.
الجراحة ليست مقصا وسكينا، أو خياطة ورتقا؛ فهذه يبرع فيها القصاب (الجزار) والخياط أكثر من الجراح، ولكنها فهم لتشريح الجسم، وإدراك لفيزيولوجيا الأعضاء، ودقة مفرطة في التعامل مع الأنسجة، وإنقاذ لحياة إنسان، وتحرير له من ألم ممض وعضو فاسد.
الجراحة أناقة في العمل، بأنامل فنان، يرسم لوحة على الجسد، بريشة من مبضع، يترك بصمته الخالدة عليها بالندبة الجراحية، علامة واسمة على درجة الأداء.
الجراحة هي جدلية بين النظرية والممارسة. الجراحة نمو عبر حلقة متماسكة صاعدة، بين طرفين متفاعلين من (المعلومات) و(التطبيق). معلومات متدفقة بانتظام وبتسارع لا يعرف الراحة، ومواجهة حالات لا تتراكب على بعضها، ولا تتفق معالمها ووجوها الإمراضية؛ فكل مريض عالم قائم بذاته، وكيان مستقل بوحدة سريرية، تحمل الألغاز والأسرار والتحدي المبطن، كما يقول المثل البريطاني إنها ليست حالة معممة، بل هي وضع خاص لكل مريض ( MATTER OF CASE … NOT MATTRE OF ILLNESS).
الجراحة مسؤولية وتوتر، وجو معركة، وجبهة تقذف بالحمم بين الحين والآخر؛ فتترك الجراح منهك القوى مصفر اللون. عدوه النزف المرعب والمرض الخبيث، لا يستجيب إلا بالمنازلة والمقارعة بالمشرط! بقايا المعركة أشلاء الأعضاء المبتورة، والدماء الملطخة لقاعات العمليات وملابس الجراحين. لاغرابة إن كانت أخلاق معظم الجراحين صعبة وأعصابهم متوترة!
في الجراحة المريض يمنحنا حياته لنمو خبراتنا. الجراحة تدريب وزيادة خبرة، يأخذها الجراح من مريض يمنحه إياها من أغلى ما يملك: حياته، قد يمنحك أحد قلما تخط به، وآخر يثق بك فيعطيك مالا تجرب به حظك وتنمي به ثروتك. لكن المريض يعطينا حياته نكون بها تجربتنا ومن موته نأخذه العظة؛ فنسعى إلى أن لا يموت الآخرون (من خلال فن التشريح المرضي، ودراسة سبب الوفاة في جثة ودعت الحياة). خبرات الجراحين ترويها جثث البرادات، والموتى من الذكريات، وقصص القبور، أو بشكل لا يقل درامية يرويها عضو مبتور، وعرج لا يستقيم، وعضو يعمل بقسم من طاقته، أو بالمقابل جريح تم إنقاذه من لجة الموت، وألم ممض تم التحرر منه، وشكوى مزمنة تم الوصول إلى علتها الخفية فتوارت بالحجاب، تعتذر للمريض، وتتسربل أمام الجراح.
بكل أسف الكثير من الأطباء يضعون أمامهم خماسية (من حرف العين) ليست بالحميدة، ولكنها الواقع المعاش: (عروس، عزبة، عربة، عيادة، عمارة)!
الطب يشكل في البدء إغراء للطالب المتفوق من مركز اجتماعي وشهرة لامعة ودخل وفير، أو بتعبير الأستاذ اللامع الدكتور (زهير السباعي) خماسية حرف (العين) مشتقة من العامية المصرية (العربية، أي السيارة، والعزبة والعيادة والعروس والعمارة)، ليكتشف في الأخير أنه نفق للتخصص، يعمل بقوة شفط ثقب أسود جديد؛ يتحول في نهايتها إلى مهنة تعتمد اليدين، والغرق في لجة الاختصاص، والاستهلاك المهني؛ فلا يتميز عن مهني آخر، وقد يتحول على حد تعبير المفكر (إبراهيم البليهي) فلا نفرق بين طبيب وسائق شاحنة؟ ويبدأ يتصرف في جو مهني تنافسي يعتمد آليات السوق.
كل المهن تتعامل خارج الإنسان. الطب هي المهنة الوحيدة التي تعالج جسم الإنسان ونفسه. الأطباء ملح المجتمع، فإذا فسد الملح فبماذا يملح؟
الطبيب والحكيم والساحر
تحدَّث الكثير عن أخلاقيات الطب، ووضعوا لها قواعد منذ قسم أبقراط. أنا أرى أن دخول كلية الطب يجب أن يخضع لقواعد خاصة به، لا تعتمد فقط ارتفاع رقم العلامات، كما أن مواد الطب يجب أن تدخلها مادة (حكمة الطب وفلسفته وتاريخه) وليس التشريح وعلم النسيج والفيزيولوجيا. الطبيب كان يسمى حكيما، وقبله كان يؤدي دور ساحر القرية.
كنت في زيارة لبعض الأطباء، فقمت برسم معالم لبعض الأفكار الجوهرية في الجراحة وفلسفتها، فأعجبني جمال الأفكار؛ ثم هي خلاصة تجارب أكثر من ربع قرن في الجراحة؛ تولدت والتمعت أمام عيني من سهر الليالي، والحالات العجيبة، وأوضاع التحدي، ونتائج العمليات؛ فهي قبضة من يوميات الجراحين؛ فأحببت نقلها إلى القارئ؛ ليرى هذا الجانب الخفي المستور في عالم الجراحة، كما أنها قواعد هامة قد يستفيد منها المبتدئ، ويتعلم منها الجاهل، ويتذكرها الممارس؛ فيضعها نصب عينيه ويعرف قيمتها، كما لا تخلو من طرافة لمن لا يعرف يوميات الجراحين. هذا ما سوف أعرضه تحت عنوان القواعد العشر للجراحة في مقالتي المقبلة.