بشير البكر
بات اليمين المتطرف بفرنسا القوة الثانية، وفق دورتي الانتخابات الرئاسية لعامي 2017 و2022، ويمكن من خلال النتائج التي حصلت عليها مارين لوبان، مرشحة هذا التيار، ملاحظة القفزات التي تحققت، حيث زاد رصيدها في صناديق الاقتراع، في مواجهة منافسها إيمانويل ماكرون، ثماني درجات لتحصل على 41 في المائة من الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم، ما يشكل قرابة 13 مليونا، أي نسبة 20 في المائة من مجموع السكان، وهذا رقم كبير يوجه رسائل خطيرة، إذا عرفنا أن فرنسا بلد يعيش السياسة، ويتنفسها ويعكسها في كل تفاصيل حياته.
حين وصل الوالد جان ماري لوبان إلى البرلمان الفرنسي للمرة الأولى في 1986، أثار انتخابه صدمة كبيرة لقيت ارتداداتها على المستويات السياسية والثقافية والإعلامية. وكانت ردود الفعل في أغلبها تستنكر ولادة هذا النبت الغريب، الذي ظهر فجأة في حديقة فرنسا الخلفية، وما كان له لينبُت في بلد الإخاء والعدالة والمساواة في ظروف طبيعية. ولذا لم يتم النظر إليه علامة على بداية تغير في تعاطي المجتمع الفرنسي مع السياسة، بل جرى تفسيره من منظور نظرية المؤامرة. واعتبر بعضهم أن الرئيس الاشتراكي الفرنسي، فرانسوا ميتران، شجع ظهور اليمين المتطرف كي يضعف اليمين التقليدي.
شكلت نتائج الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الأخيرة ما يشبه الهزة السياسية العنيفة، بسبب النهاية المأساوية التي آلت إليها الأحزاب التقليدية الكبرى، التي قادت الحياة السياسية بعد الحرب العالمية الثانية، وهي اليمين التقليدي الجمهوري والاشتراكي والشيوعيون. ولم يحقق المرشحون الثلاثة لهذه الأحزاب مجتمعة نسبة 10 في المائة من أصوات الناخبين. والملاحظ أن اليمين واليسار المتطرفين في تنام سريع يعادل سرعة انهيار القوى التقليدية، وهذا أمر له انعكاسات خطيرة في بلد ديكارت والعقلانية، الذي بات يشهد غياب قوى سياسية تشكل نقطة ثقل وتوازن، تتمثل من خلالها الطبقات والفئات الاجتماعية الوازنة. هذا إذا اعتبرنا القوى الثلاث التي ولدت من صناديق الاقتراع ليست متجذرة في نسيج المجتمع الفرنسي، ويمكن لها أن تتراجع تبعا للتطورات الداخلية والخارجية، إلا أن قوة اليمين المتطرف ذات تأثير ضار على فرنسا في الداخل والخارج، فالبلد الذي وصل إلى مستوى متقدم من التعددية لجهة تحدر نحو 10 في المائة من مواطنيه من أعراق وديانات مختلفة عربية وإفريقية وآسيوية، لا يمكن له أن يعود إلى الوراء.
صعود اليمين المتطرف من شأنه أن يسمم الحياة العامة في البلد، وينتج بيئة جديدة تستشري فيها ثقافة الكراهية، ما يولد استقطابات حادة، اجتماعية وثقافية وسياسية وحتى دينية، تتجاوز حدود فرنسا إلى علاقاتها مع بعض البلدان العربية والإسلامية، التي تشكل خزان الهجرة إلى هذا البلد منذ الحرب العالمية الثانية، ما أدى إلى نشوء جاليات وأجيال جديدة شريكة في المواطنة بكل ما يترتب عليها من حقوق وواجبات. وبالتالي، تتسم المرحلة المقبلة بالصعوبة، وبات الصعود المنفلت لليمين المتطرف يهدد بفتح صفحة سوداء بفرنسا. ومن المؤسف أن الدولة والمؤسسات المعنية لم تتحرك، من أجل الحد من انتشار اليمين المتطرف، الذي يعتاش على ثقافة الكراهية، ومن دورة انتخابية إلى أخرى يزداد الموقف تدهورا، ولا أحد من المسؤولين يتعامل معه، أو يحاول أن يحد من شطط بعض وسائل الإعلام، حيث باتت بعض القنوات التلفزية منابر ثابتة لهذا التيار الشعبوي، ومنها قنوات تلفزية معروفة.