ماريا معلوف
يلحظ المتابع السياسي أن إدارة بايدن هي التي تدير الصراع مع موسكو، منذ إقدام روسيا على الاعتداء ومحاولة فرض إرادتها على أوكرانيا بالقوة العسكرية، وتطلب ذلك إنشاء حلف غربي قوي تقوده واشنطن مع الدول الأوروبية، لمواجهة التمدد الروسي بالقارة الأوروبية عبر بوابة أوكرانيا. وكان الدعم العسكري والمالي العنوان الأكبر لدعم الحلف لأوكرانيا، لاستنزاف روسيا وعدم تحقيق أهدافها، بل وهزيمتها في نهاية المطاف.
في مقابل ذلك، كان لاستمرار العدوان الروسي تداعيات مختلفة على أمريكا وأوروبا، وخاصة في مجال الطاقة بشقيها الغاز والنفط، وإن كانت الآثار أكبر على أوروبا.
الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، انتقد ازدواجية معايير أمريكا، في تحديدها أسعار الغاز المسال الذي تصدره إلى الاتحاد الأوروبي لتعويض الفاقد الروسي منه، قائلا في مؤتمر صحفي عقب قمة الاتحاد الأوروبي ببروكسيل: «الغاز الأمريكي أرخص بثلاث إلى أربع مرات في السوق المحلية، من السعر الذي يشتري به الأوروبيون.. هذه معايير مُزدوجة».
وكان وزير الاقتصاد الألماني، روبرت هابيكن، أعرب في وقت سابق عن استيائه من حقيقة أن تصرفات بعض «الدول الصديقة»، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، أدت إلى زيادة أسعار الغاز الطبيعي المسال. الأمر الذي يؤكد امتعاض العديد من الدول الأوروبية من ارتفاع أسعار الغاز وأثره على اقتصاداتها والنمو الاقتصادي، الذي يجب أن يكون أعلى من معدلات نمو السكان فيها.
وقد شهد العالم مظاهرات في عدة دول أوروبية تطالب بخفض أسعار الغاز والنفط، ورأينا الاختناقات والازدحام بفرنسا أمام وداخل محطات البنزين، بسبب تراجع كميات الطاقة، هذا فضلا عن ارتفاع أسعار استجرار الغاز والكهرباء إلى المنازل والمحلات بفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية، وثمة دعوات في ألمانيا لتقنين استخدام الكهرباء لمدد معينة، وقد تتسع الدعوات في الدول الأوروبية مع استمرار العدوان الروسي على أوكرانيا، والارتفاع المتدرج لأسعار الغاز والنفط.
وبكل تأكيد فإن تصريحات الرئيس الأوكراني وغيره من القادة الأوروبيين حول ازدواجية المعايير في بيع الغاز الأمريكي إلى دولهم بثلاثة أضعاف ما يباع بالسوق الأمريكية، إنما هي صرخة لوقف الاستنزاف الاقتصادي، الذي تشهده الدول الأوروبية مع استمرار الحرب بأوكرانيا وتداعياتها الاقتصادية الخطيرة، التي قد تودي بحكومات أوروبية عديدة وفي المقدمة منها الحكومة الفرنسية، وسيكون الخاسر الأكبر من ازدواجية المعايير في شراء الغاز الأمريكي بأسعار مرتفعة الشعوب الأوروبية، في حين سترتفع العوائد الأمريكية من الغاز والطاقة.
العديد من الدول الأوروبية واجهت أضرارا وتحديات بسبب تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، في مقدمتها تباطؤ النمو الاقتصادي، فقد خفَّض «بنك باركليز» من توقعاته لمعدل نمو الناتج المحلي للقارة الأوروبية إلى 3.5 في المائة بعد الحرب، مقارنة بـ4.1 في المائة قبلها، وتوقع بنك «جي بي مورغان» معدل نمو لا يتجاوز 3.2 في المائة كحد أعلى. الأمر الذي يتحسسه المواطن الأمريكي، خاصة مع ارتفاع أسعار الغاز واستخداماته المختلفة، وعدم وجود آلية بين الدول الأوروبية وأمريكا لاستيراد الغاز الأمريكي بأسعاره الموازية في السوق الأمريكية.
وهناك عامل ضاغط على أوروبا، إذ تأثرت العلاقات التجارية الأوروبية مع روسيا، حيث يعتبر الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لروسيا، وتشكل موسكو خامس أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي، وأثرت العقوبات الغربية المفروضة على روسيا بشكل كبير في العلاقات التجارية بين موسكو والاتحاد الأوروبي، خاصة بعد قرار الدول الصناعية السبع الكبرى إلغاء وضع «الدولة الأولى بالرعاية» الممنوحة لروسيا، بموجب قواعد منظمة التجارة العالمية.
إضافة إلى ذلك، هناك تهديد للاستثمارات والأصول الأوروبية بروسيا وتعرضها لخطر المصادرة أو التأميم بسبب الحرب والعقوبات الغربية، حيث يصل رصيد استثمارات بلدان الاتحاد الأوروبي بالسوق الروسية إلى 311 مليار أورو، كما تصل قيمة الاستثمارات الروسية بدول الاتحاد الأوروبي إلى نحو 136 مليار أورو.
كما أن هناك حوالي 60 مليار أورو مستحقة لبنوك الاتحاد الأوروبي على كيانات روسية يمكن تجميدها، وقد يتعرض أيضا حاملو السندات السيادية الأوكرانية من أوروبا (نحو 23 مليار دولار) لمخاطر عدم القدرة على السداد، وأهم من ذلك تهديد أمن الطاقة الأوروبي، حيث تُعد روسيا أكبر مورد للطاقة للاتحاد الأوروبي، فحوالي 40 في المائة من واردات الاتحاد من الغاز الطبيعي، ونحو 33 في المائة من وارداتها من النفط، مصدرهما روسيا.
كما هناك تهديد للأمن الغذائي بأوروبا الغربية، حيث تعد روسيا أكبر مصدر للقمح في العالم، وتوفر كل من روسيا وأوكرانيا معا أكثر من ثلث صادرات الحبوب العالمية.
وفي ضوء تطورات الأزمة، ارتفعت أسعار المواد الأساسية بما في ذلك السلع الزراعية، خاصة القمح والذرة بنسب وصلت إلى 60 في المائة.
ويبدو أنه لا توجد إدارة حقيقية لأزمة ارتفاع أسعار الطاقة بأوروبا، وخاصة الغاز، الأمر الذي توضح من ازدواجية المعايير من خلال بيع الغاز الأمريكي إلى الدول الأوروبية بثلاثة أضعاف سعره في السوق المحلية الأمريكية، ولم تفلح المناشدات الأوروبية برفع شعار «أمريكا وازدواجية المعايير»، سيما وأن أمريكا هي سيدة الموقف وتقود الحلف العسكري مع أوروبا الغربية «الناتو»، في زمن التوترات العسكرية وفوبيا العدوان الروسي المستمر على أوكرانيا.
نافذة:
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون انتقد ازدواجية معايير أمريكا في تحديدها أسعار الغاز المسال الذي تصدره إلى الاتحاد الأوروبي لتعويض الفاقد الروسي منه