بعد مرور أزيد من قرنين من الزمن على صدور رواية «فرانكنشتاين» للكاتبة الإنجليزية ماري شيلي، تعود الحياة لتسري في أوصال شخوص هذه القصة الكلاسيكية المرعبة، والتي صنفت كأول رواية تتطرق لجنس الخيال العلمي في الأدب العالمي. لقد أصبحنا نصادف، في الشارع العام أو على مواقع التواصل الاجتماعي، وحوشا آدمية مخيفة ودمى مشوهة تبث الرعب في قلوبنا، حيث تطاردنا جحافل من الزومبي ذات الشفاه المتورمة والعيون المشدودة والفك المستطيل.
أينما ولينا وجوهنا نجد أشكالا عشوائية ما أنزل الله بها من سلطان. لقد تحققت نبوءة ماري شيلي وتحول كل جراح تجميل على وجه الكوكب إلى «فيكتور فرانكشتاين بروماكس»، إذ أصبحت عيادات الجراحة التجميلية بمثابة مختبرات تنتج لنا نسخا مشوهة ومتطابقة من نساء مستعدات لدفع عشرات الآلاف من الدولارات لمطاردة حلم الشباب الدائم. فهل يمنحهن مشرط الطبيب إكسير الحياة؟
جولة خفيفة في دهاليز «انستغرام» المظلمة تثبت لنا أن مشرط طبيب التجميل يكسر الحياة ويهشم العظام ويمحو معالم «الخليقة د الله»، ليزرع مكانها أوراما بلاستيكية مثيرة للغثيان. لقد أصبح من الصعب بل من المستحيل على متصفح التطبيقات الاستعراضية، أو المتابع للمسلسلات والأفلام التلفزيونية، أن يعثر على وجه أنثوي طبيعي تزينه التجاعيد الخفيفة، وتعتلي محياه خطوط الابتسامة أو الدهشة أو الحزن. لقد أصبحت حركات وتقاسيم الوجه الإنساني نادرة في زمن «الكمامر» الجامدة والجباه المشلولة.
إن المتابع للدراما العربية، مثلا، يلاحظ كيف تحولت جميلات الشاشة من نساء فاتنات بملامح مميزة إلى دمى سيليكونية وكائنات فيلرية متشابهة، وبملامح متكررة، وكأن فرانكشتاين يملك آلة نسخ رديئة صينية الصنع، يقوم من خلالها بطبع وجوه هؤلاء النسوة بشكل عشوائي مثير للقرف. لقد أحسست بالشفقة والغضب وأنا أطالع، أخيرا، وجه فنانة سورية كانت، في الماضي القريب، رمزا للجمال الطبيعي الطاغي. لم أتمكن من التعرف على سلافة معمار، التي تقوم ببطولة أحد المسلسلات الهابطة (يبدو أن انحدار المستوى الفني يتماشى طردا مع تركيز حقن الفيلر). لقد تشوه وجه هذه الممثلة تماما، إذ يخيل لك، وأنت تتأمل تقاسيم وجهها، أنك تنظر إلى وحش آدمي سينقض عليك في أي لحظة.
في هذا السياق، تفجرت «مضاربة» بين الصحافية المصرية ريهام سعيد وطبيب التجميل اللبناني «نادر فرانكنشتاين صعب». هذا الأخير يواجه تهما ثقيلة، أبرزها ارتكاب خطأ طبي أدى إلى تشويه وجه الإعلامية المصرية التي أطلت علينا، الأسبوع الماضي، بمظهر مرعب، تبدو فيه بملامح مشوهة تماما. فما سر هوس النساء بعمليات التشويه؟ ولماذا تخاطر المرأة بحياتها من أجل الحصول على وجه كرتوني جامد؟
قد تبدو الإجابة عن هذا السؤال كليشيهية ومتجاوزة، لكنها تظل صحيحة وإلى حد كبير. ابحث عن الباطرياركا، لتجد تفسيرا لسر ملاحقة الأنثى لوهم الشباب والجمال. إذ لا يمكننا، بأي حال من الأحوال، تبرئة النظام الذكوري من جريمة التشييء الجنسي للنساء، أو التمييز ضدهن على أساس السن. لقد وضع المجتمع الذكوري الحديث، الذي يستمد معاييره الجمالية من المركزية الغربية، شروطا تعجيزية للنساء، خاصة الشهيرات منهن، لتحقيق النجاح المهني في مجالات التمثيل والموضة والإعلام.
وكمثال على ذلك، كانت معايير الجمال قاسية جدا خلال تسعينيات القرن الماضي، وإلى حدود بداية الألفية، حيث شهدنا عصر النحافة الشديدة كرمز من رموز الجمال، لدرجة أن مصطلح Heroin chic أصبح متداولا بكثرة في صفوف عارضات الأزياء العالميات. وهو مصطلح خطير استعمل لوصف شحوبة البشرة والهالات السوداء والمظهر المريض للعارضات، وهي علامات تدل في الغالب على تعاطي مخدر الهيروين، الذي يمنح هؤلاء الفتيات-القاصرات غالبا- مظهرا نحيلا يتماشى مع مقياس الجمال المتعارف عليه آنذاك.
إن الثقافة الذكورية السامة، التي روج لها كبار المصممين والمخرجين والمدراء التنفيذيين لهوليود، جعلت من النساء سجينات لجميع أنواع الإدمان، سواء كان إدمان المخدرات أو اضطرابات الأكل أو هوس عمليات التجميل. فلماذا ينجذب الرجل جنسيا لأنثى بجسم هزيل وبشرة ناعمة ووجه طفولي؟ هذا سؤال أتفادى الإجابة عنه..
لم يقف هوس التشويه عند الجراحة التجميلية، بل تخطى ذلك إلى تعاطي عقاقير طبية خطيرة تساعد، مثلا، على إنقاص الوزن بشكل فعال وسريع. إذ تم، أخيرا، تداول اسم لعقار يدعى «أوزمبيك». وهو دواء ابتكر خصيصا لعلاج داء السكري من النوع الثاني، غير أن الأطباء لاحظوا أن فقدان الوزن هو أحد الأعراض الجانبية لاستعمال أوزمبيك، لينتشر الخبر كالنار في شحوم المشاهير والعامة على حد سواء، حيث انطلق السباق نحو تحصيل أكبر عدد من حقن العقار السحري، الأمر الذي أدى إلى نفاد كمياته من السوق الأمريكية والكندية، وحرمان مرضى السكري من علاجهم.
فهل يجوز لنا تصنيف هذا النوع من الإدمان الشديد على العمليات الجراحية، أو هوس الجمال والنحافة، بالمرض العقلي؟ إذ من المعلوم أن إيذاء الجسد، عبر الضرب والجرح والتشويه، يعد مرضا نفسيا يستوجب العلاج.
ختاما، لا يسعنا إلا أن نحمد الله على نعمة الزلط ونحن نشاهد الوجوه الفرانكنشتانية للمشاهير و«المرفحين».