غيثة.. ابنة قاضي الرباط التي تزوجها المهدي بن بركة في عرس جماعي
بناء على توصية من صهر الجد، الذي كانت تربطه علاقة قرابة بسيدة تدعى السعدية مولين، تقرر أن يتقدم جد المهدي بن بركة لخطبة فتاتين هما غيثة وحبيبة للمهدي وعبد القادر، ولأن والده أحمد كان يعرف ابنتي السعدية مولين ويعرف والدهما القاضي الفقيه أحمد بناني، فإن الخطبة لم تتجاوز بضع دقائق. وفي سنة 1949 تم الزواج وفق الطقوس التقليدية بقراءة الفاتحة ومباركة القران.
قبل والد العروسين العرض، رغم أن المهدي كان حديث الخروج من السجن، ورغم ما عرف عنه من تمرد، سيما وأنه طلب القرب من أسرة لها جذور في القضاء، الذي شكل بالنسبة للمهدي إلى جانب البوليس السياسي خصما عنيدا.. بل إن الفقيه وافق على الزيجتين دون أن يركز على معيار الوجاهة والأصول الرباطية وهما شرطان أساسيان في عملية تسهيل الارتباط.. لكن المهدي وشقيقه قبلا بدورهما الزواج من «يافعتين» توقفتا عند عتبة الشهادة الابتدائية.
وافق القاضي على الارتباط بأسرة بن بركة، لكنه طلب تأجيل حفل الزفاف لأن غيثة كانت تبلغ من العمر 16 سنة وحبيبة لا تكبرها إلا بسنة واحدة، لكن المهدي علم بعزم صديقين في الحركة الوطنية إقامة زفاف مشترك فقرر الانضمام إليهما، خاصة وأن الأمر يتعلق برفيقيه أحمد بركاش وعمر بنعبد الجليل. وافق الجميع على إقامة حفل موسع في بيت كبير، وفي اليوم الموالي قرر الأزواج قضاء شهر العسل في مدينة إفران، «وهي العادة التي لم تكن شائعة بكثرة في المغرب»، على حد قول البشير نجل المهدي في أكثر من حوار صحفي.
مباشرة بعد العودة من إفران، قرر الجد الانتقال من الرباط إلى تمارة، حيث استأجر منزلا كان يقيم فيه والد المهدي ووالدته وشقيقته، إضافة إلى الزوجين المهدي وعبد القادر وزوجتيهما، في ما يشبه التجمع العائلي الذي سرعان ما تعزز بمولود في كنف المهدي اسمه البشير، بعد مرور عام على عقد القران.
عاشت غيثة في بيت علم وورع، فإلى جانب انشغال والدها بالتبحر في علوم الفقه والشريعة، فإن عمها كان من الموالين لزعيم انتفاضة الريف عبد الكريم الخطابي، بل إنه يعد من عناصر خلية نظم «نشيد الريف» الذي اعتبره أتباع الزعيم نشيدا وطنيا، وهو ما مكن زوجة المهدي من اكتساب ثقافة عامة عميقة وإلمام بالشأن الوطني رغم ارتدائها زيا تقليديا يغطي كامل جسدها.
حين تزوجت غيثة دعاها زوجها للقطع مع الجلباب والنقاب والحايك، مقابل ارتداء لباس عصري على الطريقة الأوربية، وهو ما قبلته على مضض، حيث بدأت تتبنى تدريجيا سلوك المرأة العصرية مستلهمة النموذج الفرنسي، بل إنها بدأت تذهب للشاطئ مع أختها وتصاحب زوجها إلى حفلات الاستقبال الدبلوماسية في الرباط. وهو التحول الذي قبله والدها الفقيه أحمد، الذي لم يتدخل في الموضوع واعتبره شأنا داخليا يهم غيثة والمهدي دون سواهما. قال أحد الفقهاء للقاضي بناني «إن ابنتي قاضي الرباط تتجولان متبرجات، فكان جوابه: هما مع زوجيهما وتنصاعان لما يريدانه منهما».
عانت غيثة مع زوجها وقدر لها أن تستبدل رغد العيش في دار القاضي، بجحيم المطاردات البوليسية والاعتقالات، وهي في كنف زوج لا يتذكر بيته إلا إذا داهمه النوم، حتى تحول بيت الزوجية إلى مجرد مرقد. رافقت غيثة وابنها البشير زوجها في كثير من المحطات الصعبة، بل إنها خضعت رفقته للإقامة الجبرية لمدة ثلاثة شهور حين استبعد إلى منطقة تالسينت في عمق الراشيدية، «كانت الأوقات الوحيدة من حياتها التي كان زوجها لها وحدها».
لكن المحنة الكبرى لغيثة بدأت منذ أن قرر المهدي اللجوء السياسي إلى الجزائر، وما تلا ذلك من أحداث، خاصة موقفه من حرب الرمال، حين انتقد تدخل الجيش الملكي، وقضية «مولاي بوعزة» قبل أن ينتهي مسلسل المطاردة بتصفية زوجها في فرنسا سنة 1965، وهو ما حتم على أسرة المعارض المغربي اللجوء إلى فرنسا التي اختفى فيها في ظروف غامضة.
قضت أسرة المهدي حالة اعتقال أخرى في المهجر، قبل أن تعود غيثة إلى أرض الوطن رفقة ابنها البشير وعدد آخر من أفراد الأسرة. وكان في استقبال أرملة الراحل مسؤولون حكوميون أبرزهم وزير العدل السابق، لكن المقام في الدار البيضاء لم يدم طويلا حيث عادت غيثة ومن معها إلى باريس، بعدما تبين لها أن العودة لم تبعث الحياة في المساعي الرامية إلى معرفة ما حدث لزوجها.
مباشرة بعد وصول غيثة وأبنائها إلى المغرب، تقاطر رؤساء الأحزاب السياسية، من قبيل حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي وحزب الطليعة، «جاؤوا إلى بيت خالتي زهراء وزوجها عبد الواحد بنونة، حيث أقمنا، ليسلموا على عائلة المهدي ويرحبوا بها إلا مسؤولا واحدا تخلف عن الحضور، وهو عبد الرحمن اليوسفي، وما زاد الطين بلة هو أن اليوسفي أقام حفل شاي لتوديع إدريس البصري في نفس الأسبوع الذي عدنا فيه إلى المغرب»، يقول البشير.
وحسب محمد الطائع، في كتابه «عبد الرحمان اليوسفي والتناوب الديمقراطي المجهض»، فإن أرملة المهدي رفضت مقترحا لليوسفي بإقامة حفل على شرف الأسرة العائدة بعد أزيد من ربع قرن من المنفى، كما رفض البشير هدية ملكية عبارة عن مسكن وضعه الملك محمد السادس رهن إشارة الأسرة المكلومة.