شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

غزة ليست حماس

 

 

 

حازم صاغية

 

في الدفاع عن أهل غزة، وفي إدانة العقاب الجماعي الذي تعرضهم له الوحشية الإسرائيلية، رددنا جميعا حجة تقول: غزة ليست «حماس». والحجة صائبة جدا، مصدرها جملة من الفوارق التي يؤدي تجاهلها إلى تدمير كل حضارة وثقافة وحس بالإنسانية: فالمدني غير المقاتل، والطفل غير الراشد… فوق هذا يُستدل على الفارق بين «حماس» و«غزة» في كثير من مواقف الغزاويين السياسية وفي أعمال اعتراضية سبق أن أبدوها على الطريقة التي حكمتهم بموجبها «حماس»، فنمّت عن قلة اكتراثها بحياتهم. لكن إسرائيل إياها، بأعمالها الهمجية، وبالمدى الزمني المتطاول الذي تستغرقه، أوحت بوجود وحدة بين «حماس» وأهل غزة، أقله في التعرض لمحنة واحدة مصدرها نيران واحدة.

وهذا ليس غريبا عن سلوك الدولة العبرية في عقابه الجماعي الذي لا يوفر المشافي والأطفال ذاهبا في الجريمة أبعد مما يُتَخيل. وكل عقاب جماعي، والحال هذه، يصدر عن مقدمة إيديولوجية واعية أو غير واعية. فإنزال الألم الأعمى بالآخرين يفترض في هؤلاء الآخرين وحدة مرصوصة، وبالتالي فما يستحقه المقاتل منهم يستحقه المدني ولو كان طفلا. والصهيونية، ككل حركة قومية متطرفة، ترى إلى العالم بوصفه «نحن» مطلقة و«هُم» مطلقين، ترسم البشر كتلا تجتمع وتنقسم تبعا لدين أو ثقافة أو إثنية بعينها.

لكنْ إلى ذلك ينبغي أن نقول لأنفسنا إن غزة ليست «حماس»، فلا نكتفي بترداد تلك العبارة أمام الآخرين. وعلينا أن نقولها واثقين منها ومما يترتب عليها، وليس كمجرد مساجلة حربية ودعائية تحاول الالتفاف على أفعال إسرائيل وأقوالها.

فـ«حماس» يمكن أن تؤذي غزة عسكريا، وهو ما فعلته مرارا وتفعله، وبدورها فغزة يمكن أن تؤذي «حماس» سياسيا، إذا ما سنحت لها فرصة انتخابية أو تعبيرية كي تفعل. لكن التعنيف الإسرائيلي يكتم صوت غزة المعذبة، بحيث تطغى عليه أصوات تؤكد أنها و«حماس» شيء واحد، والتوحيد والدمج مدخل لزعم التمثيل ونفي الاختلاف.

بيد أن ما هو دارج اليوم لا يقتصر على مساواة «حماس» بغزة، ومساواة غزة بـ«محور المقاومة»، بل يسود نهج يخلط كل شيء بكل شيء آخر. هكذا يُجَرّ من قبورهم تشي غيفارا وروزا لوكسمبورغ وحسن البنا وآية الله الخميني وأسامة بن لادن (المُعاد اكتشافه بطلا تيكتوكيا) وصدام حسين وجمال عبد الناصر وسواهم، ليتم إجلاسهم جميعا في حضن أبي عبيدة – «الناطق باسم الأمة»، وفق يافطة تبايعُه عُلقت في شارع بيروتي. وإذ يتعانق كوميون باريس و«دولة الخلافة» والرسالة الخالدة للبعث، يحتفي ما بعد الدولة – الأمة الذي يستعجل التاريخ طلبا لمساواة مطلقة وفورية بين البشر أعراقا وأجناسا وثقافات، بما قبل الدولة – الأمة بعالمه الإمبراطوري الذي يمجد حدودا لا تقبل العبور بين الأجناس والجماعات والمراتب، كما بين «الحرائر» و«الإماء». وهو «حلف» لا يخفف من غرابته إلا افتراض قيامه على خليط من الشفقة والجهل والتوهم.

فأي قيمة للفارق بين فكرة وأخرى، بل أي قيمة للأفكار ذاتها، حين تنتهي بنا الدروب كلها إلى أبي عبيدة، وهذا من دون أن يبدي حاملو تلك الأفكار الكثيرة نأمة تمايز واحدة عن «ضمير الأمة» الملثم؟ وإذا كان ما يبرر ذلك أن أبا عبيدة هو الذي يشغل ميدان الصراع اليوم، فقد سبقه إلى ذاك الميدان نفسه قادة من المذكورين أعلاه لم يتركوا لمن بايعهم إلا تجرع البؤس والكوارث.

وضرر «الحلف» هذا لا يقتصر على ضعف التجانس وعلى وقوفه فوق أرض تتصارع سهولها وجبالها. إذ هو، بسبب من ضعف تجانسه، يحتاج إلى أوضاع كارثية مستدامة من أجل إبقائه على قيد الحياة. وفي هذه الغضون تنجر عنه نتائج عكسية تضاعف تحميل المدنيين الأبرياء كلفة أفعال المقاتلين. وفي البلدان العربية والإسلامية، ولكنْ خصوصا في البلدان الغربية، قد تنفجر الكتلة الفضفاضة هذه مخلفة من النتائج ما يسيء إلى غزة وأهلها وحقوقها، وإلى «صورة» العرب والمسلمين و«صورة» عقلهم أيضا.

وبينما اليمين الأوروبي الكاره للأجانب يتربص، ومعه تتربص إسرائيل، يعزز المخاوفَ المشروعة ميل جارف يتعدى إلصاق غزة بـ«حماس»، وإلصاق الأفكار جميعا ببعضها وبأبي عبيدة، إلى إلصاق واحدنا بالآخر. فكما لو أننا في سجن، حيث السجين لا يتمتع بأية فردية تميزه عن سجين آخر، نتجه راهنا لأن نقول قولا واحدا ونفعل فعلا واحدا ولا نتحدث إلا لمن يقول قولنا من ألفه إلى يائه، ثم نسمي ذلك نقاشا أو حوارا. والويل لمن لا يتضامن بالطريقة التي يراد له فيها أن يتضامن، أكان في الجامعة أم على شاشة التلفزيون أم في أي مكان آخر.

إلا أن آخرين سيستمرون، مع هذا، في إصرارهم على التضامن بطريقتهم، يتضامنون مع غزة ضد إسرائيل، ومع غزة ضد «حماس».

 

نافذة:

التعنيف الإسرائيلي يكتم صوت غزة المعذبة بحيث تطغى عليه أصوات تؤكد أنها و«حماس» شيء واحد والتوحيد والدمج مدخل لزعم التمثيل ونفي الاختلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى