غرائب البرلمان..أقوى محطات مجلسي النواب والمستشارين وقصص برلمانيين فوق العادة
«كانت أصابع الاتهام توجه إلى المستشار الملكي، الذي كان مديرا لديوان الملك الراحل الحسن الثاني، ووزيرا، وزعيما لـ«الفديك». التهمة كانت هي التحكم في رقاب عدد كبير من الوزراء والأعيان، الذين كانوا يتولون مناصب كبرى في الدولة، أو يمثلون الأمة في البرلمان. النتيجة كانت وجود قوى متضاربة داخل البرلمان، تصارعت لأجيال من أجل لا شيء تقريبا..»
هكذا تأسس البرلمان وهؤلاء خططوا للسيطرة عليه من البداية
نحن اليوم على مشارف رسم ملامح البرلمان المغربي المقبل. ليست هذه المرة الأولى التي يمر فيها المغرب بمرحلة مماثلة. لكن الآمال المعلقة على هذه الدورة، تبقى أكبر من أي أمل آخر عقده المغاربة على ممثلي الأمة، باعتبار الظرفية التاريخية التي تمر منها البلاد، وباعتبار التحديات التي تحيط بنا، حسب موقعنا في الخريطة أيضا.
البرلمان، تلك البناية القائمة في مركز الرباط، الحاملة لألف قصة وقصة، لم يكن تأسيسها ليمر مرور الكرام في تاريخ المملكة، خصوصا وأن الظرفية التي تأسس فيها البرلمان ارتبطت برهان دخول المغرب مرحلة جديدة في مجال هندسة الحكم وتسيير البلاد.
المناخ العام الذي تأسس فيه البرلمان المغربي، شهد سجالا عرف عنفا في بعض جوانبه، بخصوص تقاسم السلطة والاتهامات التي وُجهت إلى المعارضة وقدماء المقاومة والتي تلخصت في إبعاد القصر عن الحياة السياسية، رغم إشراف الملك الحسن الثاني على إطلاق تأسيس المؤسسات الدستورية، والبداية كانت في انتخابات بداية الستينات التي أصبحت شهيرة، على إثر الانتقادات الكثيرة التي وجهتها المعارضة وقتها إلى الملك الراحل والتي تتعلق بتحكم أحمد رضا اكديرة، الذي كان يلقب علانية بـ«صديق» الملك، في مظاهر الحياة السياسية ورغبته الكبيرة في إزاحة المنافسين والهيمنة على نتائج الانتخابات وتشكيل البرلمان أيضا.
وعلى ذكر تشكيل البرلمان، فإننا حاولنا إعادة التمحيص في مواقف المؤرخ الكبير عبد الكريم الفيلالي، بالرغم من أن دراسته لتاريخ المغرب لم تتسم بالحياد، وحاول من خلالها صب غضبه على من سماهم «المفسدين» و«الوصوليين» الذين كانوا ينحدرون من عائلات ثرية عرفت إما بقربها من القصر لقرون، أو عائلات أخرى من الأعيان الذين كان أغلبهم متورطا في علاقات مع فرنسا، أيام كان أبناء الشعب يحملون السلاح في وجه الوجود الفرنسي في المغرب. وهذا الأمر لوحده أوقد غضبا كبيرا في صدور قدماء المقاومة، والمعارضين الذين كانوا يتوقون أكثر من أي وقت مضى لممارسة الحياة السياسية ضدا في هؤلاء، الذين اتُهموا بأنهم «سيطروا» على المشهد.
من بعيد، كان المشهد يبدو مختلطا. دعونا ندقق في واقعة تم تداولها في صالونات الرباط، أيام كان العسكريون المغاربة يشتغلون في الداخلية. وتعود الواقعة إلى الأشهر الأولى التي تلت الاستفتاء على الدستور. إذ إن أحد الأعيان الذين كانوا يترددون على الفيلا الفخمة التي كان يقطنها أحد المقربين من رضا اكديرة شخصيا، جاء ذات يوم على متن سيارة فرنسية الصنع، اشتراها للتو، وعين سائقا خاصا ليتولى مهمة قيادتها، بما أن صاحبها كان عاجزا تماما عن تعلم السياقة.
عندما وصلت السيارة إلى الرباط، قادمة إليها من معقل الرجل النافذ، الواقع في منطقة قروية نواحي الأطلس، أثارت انتباه كل الذين كانوا يمرون قرب الإقامة الفخمة في حي السويسي في الرباط، غير بعيد عن الإقامة الخاصة للملك الراحل الحسن الثاني والأمير مولاي عبد الله أيضا. السيارة أثارت انتباه المارة، لأنها كانت تحمل آثار الطريق الوعرة التي قطعتها من معقل صاحبها إلى الرباط. وعندما دخل إلى الفيلا، حيث كان بعض العسكريين والوزراء ينتظرون مأدبة غداء غير عادية، حاول بعضهم أن يمازحه بحضور المحجوبي أحرضان، وقال له إن سيارته فخمة ومتينة ولكنها وُضعت بين يدي الرجل غير المناسب، وهنا اشتعل غضبه ليرد على الضيف بأنه الرجل المناسب وقريبا سيصبح نائبا من نواب الأمة، بحسب ما وعده به رضا اكديرة شخصيا، ولم يكن وقتها يفصل المغرب عن الانتخابات البرلمانية إلا أسابيع قليلة. اسم اكديرة الذي أثير في الصالون حوّل المأدبة إلى لقاء متوتر يشوبه الحذر، مخافة أن تُنقل أي كلمة إلى مسمعه، ويُنهي الحياة السياسية لصاحبها إلى الأبد.
تحققت النبوءة وأصبح صاحب السيارة برلمانيا منذ الستينات، وبقي محتفظا بمقعده البرلماني عن المنطقة نفسها، محتفظا بصداقته مع إدريس البصري، وبقيت المنطقة التي يترشح باسمها متربة، غارقة في الوحل، إلى أن توفي في ثمانينات القرن الماضي ليغادر الكرسي إلى الأبد.
لماذا بدأ الحسن الثاني بالبرلمان عندما غضب على المؤسسات؟
لم يفهم الكثيرون كيف أن الملك الراحل الحسن الثاني بدأ غضبته بحل البرلمان، عندما قال قولته الشهيرة بأنه لم يعد صالحا لتسيير أمور البلاد، وهو ما لم يقو أحد وقتها على اعتباره إهانة للجالسين فيه، رغم أنه كان من بينهم سياسيون عرفوا بمواقفهم الوطنية.
تكرر الأمر أيضا عندما حلت الأزمة الشهيرة، بين عبد الرحيم بوعبيد والملك الحسن الثاني، بسبب موقف الأخير من الاستفتاء مطلع الثمانينات، وهكذا كان بوعبيد قد سُجن، لأن الملك الحسن الثاني اعتبر أن موقف بوعبيد ليس سليما، ورأى فيه تهديدا للوحدة الترابية بالمنظور الذي كان يراه الملك. وقتها اعتبر الكثيرون أن البرلمان كان قد تلقى ضربة موجعة، على اعتبار أن عبد الرحيم بوعبيد كان برلمانيا. وعاش البرلمانيون انتكاسة كبيرة بسجن عبد الرحيم بوعبيد، حتى أن برلمانيي الأحزاب الأخرى ورؤساء الفرق البرلمانية لم يكونوا قادرين على زيارة الاتحاديين في مقر الحزب، عندما أبعدوا عن البرلمان، وراجت إشاعات وقتها بأن تعليمات من الداخلية أعطيت لمنع برلمانيي الحزب المذكور من ولوج البرلمان، بما أن موقف بوعبيد مثل وقتها موقف الحزب نظرا للمكانة التي كان يحظى بها وسط الاتحاديين.
لم يقو أي فريق برلماني على فك العزلة عن الاتحاديين في «نكستهم» البرلمانية، وهو ما شكل ضعفا كبيرا في جسم البرلمان والنظرة الاعتبارية التي يحظى بها نواب الأمة. لكن السبب كان راجعا إلى الطريقة التي كانت تهندس بها عملية إقحام البرلمانيين في اللوائح والعمل على ضمان نجاحهم في الانتخابات، وبالتالي وصولهم إلى المقاعد البرلمانية، وهو الأمر الذي ساهم في قتل النقاش وإخراس البرلمان، وتزكية ما راج عن كون بعض البرلمانيين يتلقون تعليمات من نافذين للتصويت على مشاريع القوانين وغيرها.. بالرغم من أن الملك الراحل الحسن الثاني كان قد سبق وأغلق البرلمان للأسباب ذاتها سنة 1965، عندما اكتشف أن البرلمانيين كانوا في واد، والشارع كان في واد آخر.
الفترة التي استغنى فيها الملك الراحل الحسن الثاني عن البرلمان والبرلمانيين والوزراء والأحزاب السياسية، لم تكن طويلة كثيرا، لكنها بالنسبة إلى الذين تضرروا منها، كانت أطول من الدهر نفسه، خصوصا وأن مصالح الكثيرين تعطلت، على اعتبار أنهم كانوا يستغلون الانتخابات لصالحهم.
السؤال الآن الذي يطرح نفسه بإلحاح، هو ماذا تغير في مغرب شهد الكثير من التقلبات، خصوصا وأن بعض الأحزاب ما زالت تحتفظ بالعقلية القديمة، في وقت نحتاج فيه إلى نخب تساير تحديات المرحلة لتخرج البرلمان، بالرغم من كل الانتقادات التي توجه إليه، إلى مرحلة تتجاوب أكثر مع احتياجات الوطن، والمواطنين أيضا؟
الأعيان الذين وصفهم الفيلالي بـ«السوسة» التي نخرت البرلمان
عندما تقرر أن يُؤسس برلمان مغربي، يلجه نواب مغاربة، جرت تحركات غير عادية في أوساط الأعيان والنافذين في مختلف الأقاليم، عند بداية الستينات. فقد كان وقتها الملك الراحل الحسن الثاني قد أعطى انطلاقة لمغرب آخر، من الناحية الدستورية والتشريعية، ولم تكد سنة 1963 تلقي بظلالها على المغرب، حتى كانت البلاد قد حسمت في أمر أول دستور للمملكة، رغم الأصوات المعارضة، اليسارية خصوصا، والتي عارضت الاستفتاء عليه. لكن المسار استمر وتم تأسيس أول برلمان مغربي، مباشرة بعد الحسم في أول انتخابات جماعية في تاريخ المغرب، وهكذا كانت الأنظار كلها موجهة نحو الانتخابات التشريعية الأولى من نوعها في هذا الباب.
لم تكن إذن سنة 1963 سنة عادية، وكانت أيضا مقدمة لـ«المأساة» الديموقراطية التي عاشها المغرب، والتي هدمت كل ما تم التأسيس له في بداية الستينات. إذ لم تكد سنة 1965 تودع المغرب، حتى أعلن الملك الراحل حالة الاستثناء في المملكة، وحل البرلمان. ما الذي وقع؟
يقول المؤرخ المغربي الراحل، عبد الكريم الفيلالي، إن البرلمان المغربي كان مخيبا للآمال، بعدما ولجته ثلة ممن وصفهم بالانتهازيين والأميين والأعيان الفاسدين، في مقابل قلة فقط من الواعين والغيورين على البلاد، بالإضافة إلى بعض السياسيين الذين لم يكونوا يتوفرون على تجربة كافية لخوض العمل السياسي من قبة البرلمان. وهكذا غضب الملك الراحل الحسن الثاني من ضعف أداء النواب، وقرر أن يحل البرلمان والحكومة أيضا، ويعلن أنه سيتكلف شخصيا بالإشراف على جميع الوزارات المغربية والتنسيق مع موظفيها، ويستغني عن الوزراء وممثلي الأمة.
في موسوعته التاريخية الشهيرة، خصوصا في الجزء الأخير، يذكر عبد الكريم الفيلالي بعض الكواليس المتشعبة التي رافقت تأسيس البرلمان المغربي وكيف كانت النخب السياسية تنظر إلى هذه المؤسسة، التي كان جل الذين يمثلون نخبة البلاد في الاقتصاد والسياسة، يطمحون إلى دخولها.
لم تكن بناية البرلمان في البداية، بالشكل الذي نعرفها به اليوم. كانت البناية في البداية عبارة عن قاعة مليئة بالكراسي، ومنصة يعتليها مسير المجلس، تليها منضدة يصعد إليها النواب لإلقاء الكلمات والمداخلات ومساءلة الوزراء. حتى أن الفيلالي نفسه كان وراء طرح السؤال الشهير داخل البرلمان في أكثر سنواته قتامة، وتساءل بصوت مرتفع: «من أين لك هذا؟» في دعوة منه إلى محاسبة المسؤولين المغاربة الذين كان قاسيا على أكثرهم، وكال لهم الاتهامات و«السب» أحيانا، لأنه كان يرى أنهم الرعاة الرسميون للفساد. أسماء كثيرة بلغها غضب عبد الكريم الفيلالي، الذي كان يرى من منصبه كمؤرخ مقرب جدا من الملك الراحل محمد الخامس، كيف كان بعض السياسيين والنافذين يؤسسون ثروتهم الخاصة، انطلاقا من مناصبهم في الدولة، ولم يعجبه أن يبقى صامتا على الوضع، لينفجر في وجههم في البرلمان ويطالب بمساءلة الجميع عن مصدر الثروات التي راكموها، سنوات قليلة بعد حصول المغرب على الاستقلال.
من هذا المنطلق كان عبد الكريم الفيلالي، ناقما جدا على الأعيان الأوائل الذين وصلوا إلى البرلمان بعد الانتخابات التشريعية، ولعل ذلك يبرر غضب الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1965، بغض النظر عن الأحداث الاجتماعية العصيبة التي وصل إليها المغرب في السنة نفسها، إلا أن «استهزاء» البرلمانيين وقتها بمهامهم وضعف أدائهم، سهّل على الملك الراحل مهمة تبني قرار حلّ البرلمان، وتنفيذه على الفور، ليكون البرلمان المغربي بذلك قد عاش بداية متعثرة، ولم يكتب له الاستمرار إلا سنوات قليلة، ليُريح القصر المغاربة من البرلمان والنواب والوزراء، لخمس سنوات، ولم يفتح البرلمان من جديد إلا بعد انتهاء السنوات الخمس لحالة الاستثناء، ويبدأ المغرب مرحلة أخرى، كانت تشبه الأولى في بعض التفاصيل.
تاريخ حافل من التهريج.. قصص مضحكة لبرلمانيي الصُّدفة
تحدثنا أعلاه عن السياق العام الذي مر به تأسيس البرلمان، وكيف أن بعض الغيورين لم يتقبلوا الطريقة التي ولج بها أغلب نواب الأمة إلى قبة البرلمان، وكيف اتخذه النافذون، المستشار اكديرة على وجه التحديد، مطية للسيطرة على الحياة السياسية في المغرب.
لم يكن منظر «النوام» داخل البرلمان جديدا، بعد أن تقرر نقل جلساته بالمباشر على شاشة التلفاز، فقد كان بعض أصحاب الجلابيب، خصوصا منهم الذين كانوا نافذين إلى الحد الذي كانوا يتباهون معه بصداقتهم مع اكديرة، أو مع المحجوبي أحرضان، الذي كان يمثل في البرلمان بصفته وزيرا للمواصلات، ووزارات أخرى سيادية في ما بعد.
يصعب التدقيق في نوع الحقيبة الوزارية التي كان يتقلدها أحرضان في أولى جلسات البرلمان، لكن الأكيد أنه كان يلجه باعتباره وزيرا يهابه جل البرلمانيين وقتها، كيف لا وهو الذي كان وراء دخول بعضهم إلى البناية المثيرة للجدل وقتها، بغض النظر عن أدائهم في الانتخابات. فلا أحد ينكر قوة أحرضان انتخابيا، خصوصا أنه كان يتحكم في أصوات منطقة الأطلس، وربط معهم اتفاقا متينا دام لسنوات طويلة امتدت إلى آخر أيامه السياسية.
بعض الذين وعدهم المحجوبي أحرضان بدخول البرلمان، اشترط عليهم مقابل تحقيق الشرط، أن يضمنوا له ولاء القواعد الشعبية هناك لحزبه السياسي، وهو ما كان فعلا. وهكذا كان المحجوبي أحرضان، أو «الزايغ» كما يُلقب سياسيا، وراء دخول بعض الأعيان والفلاحين الكبار إلى قبة البرلمان، دون أن تكون لديهم أية خلفية سياسية أو تجربة في الشأن المحلي.
كان هذا الأمر بالذات هو السبب الذي جعل المعارضة، ممثلة في اليسار، تهاجم المحجوبي أحرضان في صفحات جرائدها. لكن المراقبين للمشهد السياسي من بعيد، كانوا يعلمون أن كلا من اكديرة وأحرضان، قد ضمنا لنفسيهما حضورا لافتا في هذه المؤسسة، التي تأسست حديثا في المغرب.
يقال، والعهدة هنا على الذين يروون هذه الوقائع، ما دامت لا تتوفر أي مادة تاريخية موثقة لهذه الفترة الحساسة من تاريخ المغرب، إن بعض المداخلات كانت تبعث على البكاء من شدة ركاكتها ومن فرط جهل أصحابها بالعمل السياسي. كان صعبا أن تتوفر شروط نواب الأمة في برلمانيين دخلوا إليه عبر صفقة سياسية، اعتمدت أساسا على الأصوات لضمان المقاعد التابعة للأحزاب.
بعض الأعيان، الذين كان ينعتهم بعض المعارضين بالخونة وحتى «البياعة» الذين تواطؤوا مع فرنسا أيام الحماية، كانوا يتقدمون الصفوف الأمامية في جلسات البرلمان، ويتابعون المداخلات والنقاشات، رغم أنهم لم يكونوا يفهمون منها أي شيء، وكان مُحرجا أن تُعطى الكلمة لأحدهم، لأنهم كانوا يهوون بالنقاش إلى القاع، بحضور ثلة من المتعلمين في الخارج والذين كانوا في الغالب برلمانيين عن حزب الاستقلال، وهكذا كانت بعض الأصوات المتذمرة تتعالى في الجلسات الخاصة خارج البرلمان، ممتعضة من هذا الاختلاط غير الموفق بين متمدرسين، كان يرى فيهم الفيلالي ومن معه مجموعة من الانتهازيين الذين لم يقدموا شيئا للبلاد، وبين الأعيان والفلاحين الأغنياء، الذين كانت المعارضة ترى فيهم امتدادا «مخزنيا» سيقبر الدور الأساسي الذي من أجله تأسس البرلمان.
عندما وصلت الأحداث إلى قمتها سنة 1965، وطفا حادث اختطاف المهدي بن بركة على السطح في أكتوبر من السنة ذاتها، وعاش الشارع قبل ذلك توترات كبيرة، آخرها كانت المظاهرات التي سقط خلالها الضحايا، بدا واضحا أن البرلمان لم يكن يساير التطورات التي مرت منها البلاد، خصوصا أن الأزمة الاقتصادية كانت خانقة جدا. وهكذا كان الملك الراحل الحسن الثاني يرى أن الوزراء لم يكونوا يقدمون أية إضافة، كما أن البرلمان كان عبارة عن مسرح شاسع، يتبادل فيه المزيج المتناقض الذي تحدثنا عنه اتهامات كثيرة لأشخاص لم يكونوا يعلمون دورا واحدا للبرلمان، وكانوا أعضاء به، وهكذا وضع الملك الحسن الثاني نهاية لكل شيء، وأغلق البرلمان.. بكل بساطة.
رضا اكديرة.. المتهم الأول بتمييع الحياة السياسية
كانت أصابع الاتهام توجه إلى المستشار الملكي، الذي كان مديرا لديوان الملك الراحل الحسن الثاني، ووزيرا، وزعيما لـ«الفديك». التهمة كانت هي التحكم في رقاب عدد كبير من الوزراء والأعيان، الذين كانوا يتولون مناصب كبرى في الدولة، أو يمثلون الأمة في البرلمان.
كان رضا اكديرة قد غادر مكتب المحاماة، رغم أنه احتفظ به لفترة لم تكن قصيرة، وتفرغ لهندسة الحياة السياسية في المغرب، مستمدا قوته من قربه الخاص من الملك الراحل الحسن الثاني. وهكذا كانت تشد الرحال إلى إقامته، وكان همّ بعض الأعيان هو الحصول على رضى السيد اكديرة شخصيا، ليوافق على ترشحهم للبرلمان، خصوصا في انتخابات 1963. حيث لعب اكديرة دورا كبيرا في إدخال عشرات الأسماء وفرضها بالقوة، خلال تلك الاستحقاقات، سواء الجماعية أو التي تتعلق منها بالبرلمان، لمواجهة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب الاستقلال، الذي كانت قاعدته كبيرة إلا أنه لم يصمد أمام المد الكبير للاتحاد الوطني للقوات الشعبية ونفوذ اكديرة و«الفديك»، الذي كان يمثل نفوذه على أرض الواقع.
كان اكديرة يرتشف فنجان قهوته المسائية في أفخم فنادق الرباط، حيث كان ينتظر التحاق بعض الوزراء التابعين له، والذين كان أغلبهم ينتمون إلى أسر فاسية عريقة، ليعطيهم التوجيهات الجديدة لخوض غمار المنافسات البرلمانية، وكان، بحسب بعض الروايات التاريخية، يحذرهم من إعطاء أي تلميح لأحد حتى لو كانوا يثقون به، مخافة أن يصل الخبر إلى صحافة المعارضة، ومنها إلى الصحافة الدولية التي كانت تراقب المغرب بغير قليل من الاهتمام.
هكذا كانت جلسة اكديرة مع المقربين منه تكتسي طابع السرية والحذر، لأنه كان يهيئهم لمرحلة مقبلة يصبحون فيها برلمانيين، وكان طموحه السياسي وقتها أن يهيمن على الحياة السياسية عموما ويقصي معارضيه، مستغلا منشآت الدولة وآلياتها في حملته الانتخابية، وهو الأمر الذي نتجت عنه مواجهات كبيرة مع منافسيه، الذين لم يتقبلوا أن يكون اكديرة ومن في حزبه مرشحين فوق العادة في مناطق كثيرة.
وتحتفظ الذاكرة الجماعية لمن عايشوا انتخابات 1963، بصور واضحة عن استغلال أتباع «الفديك» لسيارات الدولة وآليات الجماعة والعمالة والموارد الإدارية، في الحملة الانتخابية لاكديرة، ولم يكن أحد من مسؤولي الداخلية ليقوى على التدخل، ببساطة لأن اكديرة كان اسما يهابه الجميع، ولم يكن أي مسؤول ليغامر بمنصبه ويسجل خروقات ضد اكديرة. اكتفت المعارضة بالتنديد، وترك الجميع عجلة الانتخابات تمضي إلى الأمام. والنتيجة كانت أن يتأسس البرلمان، ويتخلله الضعف الذي قاد إلى النهاية التي سطّرها الملك الراحل الحسن الثاني، في أقوى غضبة له على المنتخبين والوزراء، ويوقف البرلمان والحياة السياسية لخمس سنوات.
هكذا كان المثقفون الجدد أعداء لأقدم البرلمانيين في مجلس النواب
في سنة 1996، أصبح البرلمان المغربي رسميا يتكون من مجلسين، مجلس المستشارين ومجلس النواب. كان وزير الداخلية «الأسطورة»، إدريس البصري، في أوج قوته وكانت توجه إليه أصابع الاتهام، في الخفاء طبعا، بالوقوف وراء دخول عدد من الأسماء إلى البرلمان، خصوصا أنهم، أي الأسماء، كانوا أساتذة جامعيين لم يكن يربطهم أي شيء بالحياة السياسية والأحزاب المغربية، ولم يسبق لهم أبدا الترشح في الانتخابات. وهكذا كان موضوع استقطابهم إلى البرلمان حديث الساعة في الجلسات الخاصة، خلال نهاية الثمانينات وحتى بداية التسعينات.
كان إدريس البصري ذكيا، عندما استقطب مجموعة من الأساتذة الجامعيين إلى حزب المحجوبي أحرضان، وحثهم على الترشح للبرلمان وأوصلهم، بما أنه كان يصنع الانتخابات المغربية، باعتراف الذين اشتغلوا معه وباعتراف حتى الذين كانوا يدينون له بالفضل في نجاحهم انتخابيا، طيلة مدة اشتغاله وزيرا للداخلية. تقول بعض المصادر إن الغرض من إدماج إدريس البصري لبعض الأساتذة الجامعيين في الحياة السياسية، هو رغبته في تخليص صديقه المحجوبي أحرضان من تهمة ثقيلة لاحقته، تتعلق بجمعه للأعيان الأميين الذين لم يكونوا يتوفرون على أي تجربة أو خبرة أو مستوى دراسي يؤهلهم لتمثيل المواطنين في البرلمان، وهو الأمر الذي جعل إدريس البصري يفكر في استقطاب الأساتذة الجامعيين والدكاترة، خصوصا في القانون، لكي يصبحوا متحزبين ويترشحوا إلى البرلمان. الأمر بطبيعة الحال لم يكن حبا في حزب المحجوبي أحرضان، بقدر ما كان حرصا من إدريس البصري على إحاطة نفسه ببعض الجامعيين، ليواجه معارضيه، لأنه فطن مبكرا إلى أنه لا يمكنه أبدا الاعتماد على الأعيان، الذين كانوا يدينون بالولاء لوزارة الداخلية ويحتفظون بصورة نمطية عن «المخزن»، في عصر المؤسسات التي انخرطت الدولة في تأسيسها منذ الاستقلال.
بطبيعة الحال، فإن قدماء البرلمان، خصوصا منهم الذين ولجوه منذ بداية الستينات، وبقوا حاضرين فيه في جميع الاستحقاقات التشريعية، لم يستسيغوا الخطوة التي أقدم عليها إدريس البصري، خصوصا أن الحديث في الرباط كان قد اشتد عندما حاول إدريس البصري التخلص من ضغط أصحاب الشهادات الجامعية، عندما بدأت أزمة البطالة تلقي بظلالها على المغرب، وقام بتوظيفهم جميعا في الداخلية، مؤسسا بذلك لجيل جديد مثقف من أعوان السلطة وممثليها في العمالات والأقاليم. ووجد الأعيان القدامى مشاكل كثيرة في التعامل مع الجيل الجديد للسلطة، وتكرر السيناريو نفسه في البرلمان. إذ كانت بعض الفرق، غير متجانسة رغم أنها تنتمي إلى نفس الحزب، إذ لم يكن ممكنا أن يتفاهم أستاذ جامعي حاصل على الدكتوراه ويفهم جيدا المساطر القانونية، مع برلماني من الجيل الأول في البرلمان، يحمل بين كتفيه عقلية قديمة في فهم السلطة وتدبير الشأن العام.
ليس صحيحا القول إن إدريس البصري فاته أمر التنبؤ بأمر هذا الصدام، فالعارفون بالخبايا، يقولون إنه تعمد إحداث هذا الشرخ، حتى يضمن احتكاكا بين مكونات البرلمان، وينتظر النتيجة النهائية لتلك المواجهة. إذ كانت الداخلية تعلم أن بعض البرلمانيين القدامى، كانوا يعتمدون على الملفات الاجتماعية الحساسة للوصول إلى البرلمان، والأمر يعتبر من الناحية الأمنية مغامرة خطيرة، لأن هؤلاء المرشحين لم يحققوا وعودهم طيلة عقود ترشحهم للبرلمان، ويعتمدون على الإرث التاريخي لعائلاتهم للوصول إلى البرلمان، كما حصل مع أقدم البرلمانيين في الريف، عندما راهنوا على تقنين زراعة القنب الهندي وقدموا وعودا للسكان مقابل التصويت عليهم للعودة إلى البرلمان، بالرغم من أنهم لم يكونوا يعرفون أي شيء بخصوص أمر تدبير ملف «الكيف»، وهو الأمر الذي رأى فيه مكتب إدريس البصري ومستشاروه، بناء على تقارير الداخلية بطبيعة الحال، خطورة أمنية كبيرة في حال ما إن نفد صبر الكتلة الناخبة أمام تماطل المرشحين وتملصهم من وعودهم في كل دورة. وهكذا كانت الداخلية وقتها تحتاج إلى وجوه جديدة، وبروفايلات أخرى حتى لا تتكرر «حالة» استثناء أخرى في مغرب التسعينات، والحقيقة أن البلد وصل إلى ما سُمي في نهاية التسعينات «السكتة القلبية»، واستقر القرار على منح المعارضة، ممثلة في اليسار، فرصة تسيير الشأن العام في المغرب، وتحول النواب المعارضون الذين كانوا يضربون الطاولات ويحولون الجلسات إلى مواجهات ساخنة، إلى وزراء في الحكومة، ليصبح البرلمان المغربي وقتها أبرد من الثلاجة.