يونس جنوحي
كلما اقترب شهر رمضان، إلا وعاد إلى الواجهة من جديد نقاش حول تقنيات رؤية الهلال وعلاقتها بالحساب الفلكي.
لا يزال بعض المحافظين، خصوصا الأكثر تشددا، يضربون العِلم عرض الحائط، ويُصرون على اعتماد الرؤية البصرية «رأي العين»، ويرفضون الاستماع لتفسيرات العِلم الذي يقوم على حساب درجة ميل القمر وسرعة الدوران حول الأرض، ولا يتوقعون فقط توقيت إمكانية رؤية الهلال بل يحسبون بدقة متى يمكن أن يبرز في الأفق، بحسب المواقع التي تُحدد للتتبع رؤية الهلال.
هناك من يعتقد أن الحساب الفلكي مسألة حديثة الظهور، رغم أن هذا النقاش كله قد حُسم في المغرب في القرن الثامن عشر!
العلماء المغاربة القدامى، أبدعوا فعلا في وضع أسس الحساب الفلكي ووظفوه في خدمة رؤية الهلال، ولم يُكفروا بعضهم البعض ولم يرفضوا الأفكار العلمية الجديدة. لكن الاكتفاء برؤية الهلال لتحديد موعد دخول الشهر الهجري، ظل معمولا به بسبب ضعف إمكانيات جل مناطق المغرب في ذلك التاريخ، وإلى حدود السنوات الأولى لاستقلال المغرب.
في أواخر سنوات حكم الملك الراحل محمد الخامس لعب الراديو دورا كبيرا في نشر خبر رؤية الهلال، والتزم ممثلو السلطة بالانصياع للقرار القادم من الرباط حتى لو تعذرت رؤية الهلال على الفقهاء في مناطق المغرب الأخرى، غالبا بسبب رداءة أحوال الطقس ونزول الضباب. حدث هذا في وقت كانت حكومات في دول إسلامية أخرى تجد صعوبات في إقناع القبائل بالالتزام بقرار العاصمة الإدارية، وتصوم معظم مُدن البلاد بينما ينتظر البدويون يوما آخر إلى أن يتمكنوا من رؤية الهلال رأي العين.
تنظيم الأوقاف المغربية، وهي الوزارة التي عمّرت لقرون وسبق تأسيسها بقية الوزارات، ساعد كثيرا على رعاية عملية مراقبة الهلال، ليس في شهر رمضان وحسب، وإنما خلال كافة أشهر السنة الهجرية.
المدارس العتيقة في منطقة سوس لعبت دورا كبيرا في تطوير عمليات الحساب الفلكي، بحكم أن بعض علماء سوس القدامى كانوا متقدمين جدا في علم الفلك، لكن المنافسة بين المدارس العتيقة وجامعة القرويين، همشت هؤلاء العلماء تاريخيا بحكم أن علماء القرويين كانوا يُسيطرون على المشهد الفكري والثقافي المغربي، وبعض خريجي القرويين كانوا متعصبين وغير متسامحين عندما يتعلق الأمر بمحاولة تسليط الضوء على إشعاع المدارس العتيقة في القرى المنسية. وليس من الغريب طبعا معرفة أن مدارس علم الفلك كانت هي نفسها المساجد التي يُحفظ فيها القرآن الكريم ويتعلم فيها الأطفال اللغة العربية والحساب.
ولعل المغرب البلد الإسلامي الوحيد الذي سبق إلى اعتماد اليوميات العتيقة التي تضع التقويم الهجري لسنة بأكملها بدل انتظار رؤية الهلال، ونادرا ما كان العلماء الفلكيون المغاربة يقعون في خطأ خلال عملية الحساب.
العلماء اليوم حسموا النقاش في الشرق والغرب، وكلهم يؤكدون أن المغرب أفضل منطقة تُمكن جغرافيا من رؤية الهلال بوضوح. لكن المشكل أن حكومات إسلامية أخرى ترفض مسألة توحيد التقويم الهجري ويفضلون الاعتماد على الرؤية الإقليمية مستندين على نصوص فقهية وأخرى تراثية. علما أن تاريخ مراقبة الهلال في الدول العربية والإسلامية توجد به مساحات ظل كثيرة، ورفض للاعتراف بالوقوع في الخطأ لسنوات كثيرة رفض فيها جل العلماء الاعتماد على الحساب الفلكي المتقدم، وجعلوا الشعوب تصوم يوما قبل الموعد المحدد، أو تُخلف موعدها مع الصوم بيوم.
ورغم أن الحكايات الشعبية، والموروث الثقافي يتناول فعلا هذه المسألة في عدد من الدول العربية، إلا أن الشجاعة للاعتراف بجدوى الحساب الفلكي، خصوصا في السنوات التي يتزامن فيها شهر الصيام مع فصل الشتاء، حيث تكون الأجواء ضبابية وتصعب رؤية الهلال بالعين المجردة، لا تزال غير موجودة.