شوف تشوف

الرأي

عودة المركز

أحمد مصطفى

تتجاوز أهمية الاتفاق الأمني بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا التعاون في مجال الغواصات، وحتى في مجالات الأمن الإلكتروني والذكاء الاصطناعي في ما بعد.
وإذا كان الهدف الواضح هو مساعدة الأسطول الأسترالي على امتلاك غواصات نووية، فيما ستعتبره الصين تهديدا لها في المياه الإقليمية، فإن الأبعاد غير العسكرية والأمنية للشراكة أكبر وأوسع.
طبيعي أن يكون الاستنتاج المباشر أن الإدارة الأمريكية الجديدة للرئيس الديمقراطي جو بايدن تحاول وضع وعودها موضع التطبيق، وفي مقدمتها مواجهة صعود النفوذ الصيني. لكن أيضا تعهد تلك الإدارة باستعادة الريادة الأمريكية بالتعاون مع «الحلفاء»، ضمن ما يسميه البعض في الخطاب السياسي والإعلامي الأمريكي «التحالف الديمقراطي الغربي». نظريا، يشمل ذلك مزيدا من التنسيق بين واشنطن ودول مثل كندا وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية. لكن الأهم وفي القلب من ذلك التحالف الغربي، هو دول أوروبا وبريطانيا (باعتبار بريطانيا الآن خارج الاتحاد الأوروبي).
ولعل تلك الشراكة الأمنية/ البحرية مع بريطانيا وأستراليا مقدمة للتوسع، ليس فقط في حلف غربي مواجه للنفوذ الصيني المتصاعد، وإنما لاستعادة علاقات قوية بين أمريكا الشمالية وأوروبا بالأساس. ومع أن البعض يرى أن فوضى الانسحاب من أفغانستان، للقوات الأمريكية وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مؤشر على إعادة أوروبا النظر في الريادة العسكرية والأمنية الأمريكية، فإن الواقع يجعل ما يتم تعويمه في الإعلام عن قوة أوروبية مشتركة لحماية مصالحها بعيدا عن المظلة الأمريكية ضربا من الشطط.
لعلنا جميعا نتذكر أن محاولات فرنسا في السنوات الأخيرة إقناع ألمانيا وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي بالمشاركة في قوة لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء في إفريقيا لم تثمر عن شيء. وكل الأفكار السابقة عن جناح عسكري للاتحاد الأوروبي، تبخرت تماما. ليس فقط لأن هناك الناتو (الذي يضم أمريكا ودول خارج الاتحاد)، ولكن لأن أوروبا تدرك عميقا منذ الحرب العالمية الثانية أنها بحاجة إلى الغطاء العسكري الأمريكي. وجاءت إدارة بايدن بتوجه أقرب ما يكون لأيام الحرب الباردة، بأن جعلت الصين وروسيا هدفا لاستراتيجيتها الخارجية.
لعل مبادرة الشراكة الأخيرة تكون مقدمة أيضا لتعاون أمريكي/ أوروبي، أوسع من مجرد التحالفات العسكرية والأمنية. كما يمكن أن يترجم التوجه الأمريكي الجديد في مجالات تنسيق السياسة الخارجية والمواقف من التطورات العالمية، وكذلك وبشكل أهم في المجال الاقتصادي.
مطلع هذا القرن، غضب الأوروبيون بشدة من تصريح وزير الدفاع في إدارة جورج بوش الابن، حين وصف أوروبا بأنها «القارة العجوز». كان دونالد رمسفيلد يسخر، بعد تباين المواقف الأوروبية من حروب أمريكا الخارجية، خاصة غزو واحتلال العراق. واعتبر محللون ومعلقون وقتها أن تلك بداية حقبة جديدة، ينتهي فيها دور أوروبا تماما، وينتقل «المركز» العالمي كاملا إلى واشنطن، وعليه تقاس الدوائر في العالم من «محيط» و«أطراف».
صحيح أنه منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار نظام ثنائية القطب في العالم، مع تفكك الاتحاد السوفياتي في الربع الأخير من القرن الماضي، تراجع دور أوروبا كمركز ما بين موسكو وواشنطن، لكن ذلك الدور لم يملأه أحد بعد. حتى الحديث عن عالم «متعدد الأقطاب» في نظام عالمي جديد، أو «عالم القطب الواحد» في واشنطن، ظل مرهونا ببروز «نظام عالمي جديد» لم يتشكل حتى الآن. ويعني ذلك ببساطة أن «المركز» في السياسة الدولية يظل أوروبا، مهما تجاوزتها الصين مثلا اقتصاديا، أو تراجع دورها السياسي ونفوذها خارج القارة.
ولا يقتصر الأمر على الجغرافيا، باعتبار أوروبا تاريخيا قلب الشمال العالمي ويحدد على أساس موقعها الجنوب، إضافة إلى الشرق والغرب (والشرق الأوسط الذي توصف به منطقتنا). بل إنه من ناحية الاقتصاد والسياسة لم ينه المركز تماما، وإن تراجع دوره وضعف اقتصاديا بشكل نسبي أمام قوى صاعدة في الشرق والجنوب. هناك سبب غير مباشر يحافظ على وجود المركز الأوروبي، وهو أن كثيرا من القوى الصاعدة والدول النامية في الجنوب تفضل عدم «استفراد» الولايات المتحدة بكل خيوط السياسة الدولية. وهؤلاء يريدون الإبقاء على أوروبا لاعبا، حتى لو كان نفوذه ضعيفا.
الآن، ربما نشهد عودة المركز إلى ساحة السياسة الدولية وإن بشكل مختلف. ومع أن الدور الأمريكي المحتمل في استعادة المركز يبدو واضحا تماما، إلا أن الأقطاب الأخرى وفي مقدمتها الصين تريد أيضا أن تظل أوروبا مركزا للغرب، إن لم يكن من باب تفضيل على ذلك على الانفراد الأمريكي، فيمكن أيضا أن يكون مجالا للدس والعمل على إضعاف موقف الغرب بتبايناته الأوروبية/ الأمريكية. ولعل حرص روسيا مثلا على علاقات قوية مع أوروبا يأتي في ذلك السياق أيضا، كما هو الحال مع الصين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى