عودة الرجل المريض
د. خالد فتحي
هل كان على المتذمرين والساخطين من إخوان (الخليفة) أردوغان أن يتحينوا كبوة الحزب المدوية بإسطنبول وغيرها من المدن التركية الكبيرة، ليجهروا علنا بنيتهم الطلاق البائن مع رئيسهم، أم هي فقط آجال قد بلغت، ومقادير قد أزفت، فبدأ عهد الأفول والتراجع والانحسار الذي يعقب عادة الحكم الطويل؟
يختلف بالتأكيد تقييم ما يقع الآن بتركيا من تململات داخل الحزب الحاكم باختلاف درجة التعاطف أو الحنق الذي يكنه المرء لشخصية أردوغان المأثرة الطاغية على من حولها، وباختلاف حكمنا أيضا على الرجل الذي بقدر ما أنجز طفرة اقتصادية لبلاده لاينكرها أحد، بقدر مايواجه اليوم نشوب عدة أزمات على واجهات متعددة يراها مؤيدوه في الداخل والخارج ضريبة كان لابد من دفعها بسبب تأييده الواضح لثورات للربيع العربي وللإسلام السياسي من جهة، وسعيه الحثيث من جهة اخرى لإحياء العثمانية التي جرت عليه غضب وتوجسات الجيران والحلفاء على السواء، بينما يردها معارضوه الى اندفاعه وخروجه عن روحية الحزب ومنهجه الذي وضعه المؤسسون والذي كان همه في البدايات الانكباب على النفس والنأي عن القلاقل من خلال رفع شعار صفر مشاكل.
يبدو الأمر الآن كما لو أن الأرض بدأت تهتز تحت أقدام الحزب المتماسك الذي أمسك بناصية تركيا منذ 1998 خصوصا مع الخروج الأخير لعلي بابجان المهندس الحقيقي لتلك النهضة الاقتصادية التي صنعت في كل مجد أردوغان السياسي.. بابجان الذي لم يخف رغبته في تأسيس حزب بديل عن العدالة والتنمية من المنتظر أن يشكل حاضنة جديدة للتوجه الإسلامي، وأن يستقطب الى صفوفه عددا من الوجوه التقليدية المعروفة لدى الرأي العام التركي أبرزهم عبد الله غول وداود اوغلو وعدد من النواب مما قد يخلق الظروف حسب مراقبين لانتخابات رئاسية مبكرة قد تعجل برحيل أردوغان.
هذا ما ترشح به بعض التكهنات، ومايظنه المنفضون عن أردوغان الذي لازال رغم كل هذا جلدا لا مباليا محتفظا بثباته واثقا بقدرة ماكينة الحزب على تجاوز (خيانات) أو تخلي رفاق الدرب عنه، ومع كل هذا الصمود يبدو أن الحزب فعلا مرشح للتطورات ومدعو بالخصوص لاختبار قوة بين جناحين أصبحت لديهما رؤى مختلفة للمستقبل التركي.. اختبار قد تكون إحدى نتائجه الانفصال.
هناك عدة أسباب تشرح لماذا وصل الحزب الإسلامي لهذه الشرخ الذي هم الرعيل الأول من المؤسسين، ابرزها:
– أن السلطة كما يقول المثل الفرنسي تستهلك وأردوغان قد عب من كأسها لحد الثمالة، والتي ولابد أن تؤدي الى تآكل الشعبية وتراكم الأخطاء وتحالف الحانقين والغاضبين والموتورين. خصوصا أن تركيا لازالت تعيش تحت وقع آثار الانقلاب وتراجع الليرة والاقتصاد.. آثار يردها بعض أعضاء الحزب لمغامرات أردوغان وجنوحه نحو الانفراد بالرأي في كل التفاصيل التي تهم الحزب والدولة والمجتمع.
– حزب العدالة والتنمية بلغ الطور الثالث من العمر الذي لابد منه. فبعد أوج القوة يأتي الخريف. تلك سنة الله ليس لها تبديل.. لابد أن تسري على هذا الحزب ايضا الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، خصوصا في البلاد العربية.
– هناك نسبة كبيرة من الناخبين الترك الشباب لم يعرفوا سوى أردوغان حاكما آمرا ناهيا فيشعرون بالملل الذي يغريهم بالتغيير ولو لمجرد التغيير. وهي الإشارة التي التقطها الجناح المعارض لأردوغان الذي يريد أن يخلق لهم إطارا سياسيا جديدا في ظاهره وتسميته لكنه في جوهره سيكون استمرارا لنفس التوجه الإسلامي. أي إنهاء عهد أردوغان واستمرار فكرته ومذهبه بمسمى آخر.
– نزوح علي باباجان الى الجهة المناوئة لأردوغان يعني سحب البساط من تحت قدمي الرئيس التركي وتجريده من شرعية المنجز الاقتصادي الذي يظهر إلى العلن الآن ملاكه وصانعوه الحقيقيون وإظهار مروقه عن الأهداف الأولى التي تبناها الحزب عند التأسيس والتي كانت تتركز على تحقيق الرخاء والتقدم الاقتصادي دون التيه في المشاكل الإقليمية والتجاذبات الدولية.
رغم هذه الأسباب التي تلوح وجيهة إلا أن بئر السياسة عميق بتركيا وبراغماتية الحزب الإسلامي لا حدود لها.
فقد يكون كل هذا الحراك مجرد مناورة محبوكة من أردوغان الذي يحل رفاقه من التداعيات الانتخابية لخياراته حتى إذا كان هناك ثمن لها أداه لوحده وصار لوحده قربانا للحزب أو بالأحرى للاتجاه الإسلامي الذي سيخرج سالما.
الأيام وحدها ستكشف هل هناك انشقاق حقيقي أم هناك محض توزيع أدوار يتمخض في النهاية عن نسخة معدلة جينيا للعدالة والتنمية لكن بمسمى آخر وبأفق استقطاب جديد. إن الفيصل في كل هو بغض النظر عن التسمية أن نترقب هل ستركز أولويات الحزب الجنين إن ولد حيا على الرخاء الاقتصادي لتركيا فقط أم ستغوص في معارك الهوية والزعامة الإقليمية كأردوغان؟