شوف تشوف

الرئيسيةرياضة

عندما صاح مارادونا عاش الملك عاش المغرب عاشت الصحراء

كانت تسعون دقيقة، وهي المدة الزمنية لمباراة استعراضية في العيون حاضرة الصحراء، كافية لتحقيق إشعاع واسع للقضية الوطنية. كانت ضربة معلم، إذا وضعناها في سياقها الزمني، أي في غمرة الصخب الدائر حول معبر الكركرات واحتجاج الانفصاليين على فتح عدد من الدول الإفريقية قنصليات عامة في مدن صحراوية، وهي ضربة تحت حزام أعداء الوحدة الترابية إذا ربطناها بتغريدة الاتحاد الدولي لكرة القدم عبر حسابه الرسمي على منصة «تويتر»، التي يؤكد من خلالها اعترافه بمغربية الصحراء وإصراره على إقامة مباراة حبية بطلها دييغو أرماندو مارادونا في مكانها وزمانها، وليذهب الغاضبون إلى البحر ليشربوا ماءه غير الصالح للشرب.

قبلة دييغو لرمال العيون
غضب الانفصاليون وراعيتهم الرسمية الجزائر من أسطورة كرة القدم حين زار العيون، فرد عليهم مارادونا بتغريدته، التي استقطبت ملايين المتابعين، مرفوقة بصور بدا فيها متحمسا وكأنه واعظ يحث الرياضيين على الاستثمار في نشر قيم السلم والتسامح، ويردد مع «جيل جيلالة» لازمة الدعوة إلى السفر «نمشيو في كفوف السلامة».
هناك سيصيح نجم الكرة العالمي وهو يقبل تربة العيون ويصرخ بأعلى صوته «الصحراء مغربية»، وسيرقص على أنغام الطرب الحساني بعد أن يخلطه بقليل من رقصة التانغو اللاتينية، وسيقف لتحية العلم الوطني بانضباط لم نعهده في الرجل المنفلت، وهو يردد في كورال جماعي «عاش الملك عاش المغرب».
لعب المغاربة ورقة السياسة حين استضافوا ساحر الملاعب مارادونا في العيون، في تلك اللحظات التاريخية ليس المهم أن يسجل دييغو هدفا، أو يعبث بتمريراته بوجدان جمهور ملأ مدرجات ملعب الشيخ الأغضف عن آخرها، فتسديداته كانت أشبه بضربات قوية على قفا أعداء الوحدة الترابية.
قضى دييغو مارادونا، نجم الكرة العالمية، أربعة أيام في ضيافة المجتمع الكروي بالمغرب، بعدما حل أسطورة الكرة العالمية بمراكش في مهمة محددة في الزمان والمكان، بحيث شارك في مباراة استعراضية في العيون، بمناسبة مرور 40 سنة على استرجاع الصحراء.

سحر بلدين
خلال وجوده في مراكش والعيون، سقطت رفيقته روسيو أوليفا التي تصغره بثلاثين عاما، في حب المغرب، وطالبت بتمديد المقام وظلت تؤرخ بـ«سيلفياتها» لحياة في فندق «المامونية» أشبه بحكايات ألف ليلة وليلة، وقبل أن تغادر المغرب أصرت على استحضار رقصة صحراوية في مدخل مطار المنارة بإلحاح من مارادونا، الذي غالبا ما تنتابه نوبة غضب من انفلاتات نسائه، فيميل إلى العنف رغم أن القدر شاء أن يموت في اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد النساء.
في تصريحاته المتناثرة هنا وهناك، اعترف دييغو بأن ما شاهده في المغرب يفوق الصورة التي كان ينسجها في خياله عن بلد تعامل معه كضيف استثنائي، وقال: «المغرب فيه شيء من الإمارات وبعض من الأرجنتين، في رحلة واحدة أعيش سحر بلدين».
لكن إذا كان المغرب قد حجز في وجدان دييغو مارادونا مساحة للحب، فإن الإمارات كانت بلده بالتبني وكوبا بلده بالتكفل، بعدما كانت الأرجنتين مسقط رأسه وقلبه. ومن المفارقات الغريبة في حياة أسطورة كرة القدم العالمية، أن يتزامن رحيله مع حلول ذكرى وفاة صديقه الزعيم الثوري الكوبي فيديل كاسترو، الذي كان راعيه الرسمي حين انفض من حوله الرعاة والمستشهرون.

موت كاسترو ودنو الأجل
حين علم مارادونا في 26 نونبر 2016 برحيل كاسترو قال: «إنه يوم رهيب. لقد اتصلوا بي من بوينس آيرس وصدمت لتلقي نبأ رحيل الزعيم التاريخي عن تسعين عاما. أنا حزين جدا لأنه كان بمثابة أب لي».
من شدة إعجابه بفيديل وضع دييغو وشما في ساقه الأيسر للقائد الكوبي، كان يقول لمقربيه: «إذا مات كاسترو سيدنو أجلي، إلى جانب الله، هو سبب بقائي على قيد الحياة الآن». وحين مات بكاه بحرقة وصام عن الكرة حدادا على الفقيد.
قضى دييغو مارادونا أربعة أيام في المغرب بين مراكش والعيون، لكن التخطيط للزيارة أخذ من المنظمين ثلاثة أشهر، لأن المباراة المزمع تنظيمها لها أبعاد أخرى تتجاوز الرياضي إلى السياسي، ولكي تنجح الفكرة لا بد من اختيار «هامات» كروية قادرة على جعل ملعب الكرة قبلة للمنتظم الكروي العالمي، فالعقد لا يكتمل إلا بوجود أسماء أخرى لها نصيبها من العالمية، جمعت المجد الكروي من كل أطرافه.

برج بأبو ظبي
منذ أن أنهى مهامه كمدرب لنادي الوصل الإماراتي، تعاقد دييغو مارادونا مع مجلس الرياضة لأبو ظبي، كسفير رياضي حول العالم، صحيح أن كثيرا من مواصفات سفير النوايا الحسنة لا تتوفر في دييغو، لكنه يملك «بروفايل» يكفي لجلب الكثير من المال وجعل الشهرة تطارده أينما حل وارتحل، فحتى في معاركه الليلية هناك شهرة.
عين المجلس مارادونا سفيرا فخريا ومستشارا رياضيا، لكن القائمين على أبو ظبي آمنوا بقدرة الرجل على التحول من نجم كرة إلى أحد أشهر أبراج المدينة، من خلال الاستفادة من شهرته العابرة للقارات.

لا حياة خاصة
لا يوجد نجم في العالم شفاف كمارادونا، فهو لا يجد حرجا في أن يتقاسم مع المجتمع الكروي مشاكله العائلية، التي نشرت فوق سطوح المنابر الإعلامية، ولا يتردد في النبش في مشكلات عائلية بسبب علاقاته النسائية، كما لا يخجل من الحديث عن عشقه للمخدرات الصلبة والناعمة، على الرغم من مضاعفات ذلك على صحته.
كان يعلم علم اليقين أن حياته الخاصة تشكل مادة دسمة للإعلام، فهي توابل خرجاته التي تعيده إلى دائرة الضوء كلما خرج عن معترك العمليات، وحين يشعر باجتياح إعلامي لحياته، يكتفي ببيان إعلامي عن طريق محاميه يحمل تحذيرا لأي وسيلة إعلامية تقوم بنشر صورة لطفله الرضيع غير المعترف به.

في الجناح الملكي
حين حط دييغو الرحال بمراكش، حظي باستقبال بسيط لحظة وصوله إلى مطار مراكش المنارة، قادما من دبي الإماراتية عبر الدار البيضاء، حيث انتقل رفقة وكيل أعمال اللاعبين كريم بلق إلى فندق «المامونية» بوسط المدينة، وكان النجم الأرجنتيني برفقة روسيو أوليفيا. في المطار لاحظ الضيف الكبير أن الصحافيين لم يتحلقوا في الباب الرئيسي للمطار كما اعتاد في رحلاته، وأن التغطية كانت محتشمة، قبل أن يعلم أن التكتم كان جزءا من العملية التنظيمية.
في الفندق حرص دييغو على عدم مغادرة الجناح الملكي المخصص له إلا في مناسبتين، حين شارك في حفل عشاء أقامته الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم على شرف المشاركين في المباراة الاستعراضية، وحين انتقل يوم الجمعة إلى المطار لركوب طائرة الصحراء رفقة اللاعبين الدوليين، الذين يشاركونه هذا الحدث الرياضي الذي أقيم بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء.
في المغرب لم يطالبه الصحافيون بمستجدات قضية الاعتراف بابنه دييغو فرناندو، ولم يسألوه عن آخر محاكماته أو عن رأيه في ميسي وخلافه الأزلي مع بيلي، وما خلل حياته من مشاكل صحية، كاد بعضها يودي بحياته. بل تركوه يستمتع بالأيام القليلة التي يقضيها في المغرب، فليس في الرحلة متسع للنبش في الملفات القديمة، ومكنوه من فرصة الاستمتاع بالفضاء الذي يقيم فيه، والذي استقبل مشاهير الرياضة والفن والسياسة، فغير بعيد من غرفته أقام روزفيلت وتشرشل وشارلي شابلن وغيرهم من الوجوه البارزة دون أن يلفتوا الانتباه.
غير أن ماردونا حظي باستقبال حافل في «المامونية»، حيث تلقى طلبات التقاط صور للذكرى، من طرف السياح المقيمين في المنشأة الفندقية نفسها، فيما أعطيت تعليمات لمستخدمي الفندق بعدم الاقتراب من الضيف الأرجنتيني، إلا لتقديم خدمة، وحرص كل من كريم بلق وفؤاد الورزازي، الرئيس السابق للكوكب المراكشي، على الوجود في «المامونية» باستمرار في ما يشبه المداومة، مع تقليص الحضور الأمني.
قال أحد أفراد شركة الحراسة الخاصة للمنشأة الفندقية إن دييغو يشعر بالضيق كلما أحيط بحراسة أمنية مشددة، لذا كان يفضل تقليص عدد الحراس إلى الأدنى، كي يستمتع بوجوده في المغرب، فيما أوضح كريم بلق أن مارادونا لا يغادر الجناح إلا نادرا.
وكشف مارادونا عن عشق زوجته للمغرب، وقال إنها دعته مرارا لقضاء أيام في مراكش، وهي التي سبق لها أن زارت مراكش وطنجة، فيما يزور زوجها المغرب لأول مرة، بل إنه لا يتذكر أسماء اللاعبين الدوليين المغاربة، حيث اكتفى بالقول إنه شارك في مباراة ودية ضد المغرب في بوينس آيرس. لكنه أوضح أن زيارة المغرب جعلته «يكمل الثالوث المغاربي»، في إشارة إلى زياراته السابقة إلى تونس والجزائر، حيث سجل وصلات إشهارية لأحد المشروبات الغازية، وأطلق الجيل الثالث للهاتف الجوال. الفرق بين المحطات الثلاث أن زيارة المغرب غابت فيها المفاوضات التجارية، فقد كانت المتعة الكروية الهدف المتوخى من رحلة وصفها دييغو بالاستكشافية.

استياء الانفصاليين
خلفت زيارة مارادونا إلى المغرب استياء لدى خصوم الوحدة الترابية، بعدما ظلت أطروحة الانفصاليين تتحدث عن تعاطف دييغو، الصديق الحميم لفيديل كاسترو، مع توجهات ملهمه الكوبي، وأكدت المباراة مدى قدرة الرياضة على تقمص دور الدبلوماسية الموازية، بحيث يكفي أن يكون مارادونا حاضرا في العيون لينوب عن كل المبادرات الدبلوماسية التي تعزز الطرح المغربي وتدعمه، فالمكانة الاعتبارية لأسطورة كرة القدم العالمية تتجاوز مكانة رئيس هيئة الأمم المتحدة.
خلال وجوده في المغرب جس بعض الوكلاء نبضه، وسألوه عما إذا كان يمني النفس بمنصب رياضي في المغرب، وهيأ محمد بودريقة، رئيس نادي الرجاء الرياضي الأسبق، مشروع عرض واقترح عليه مهمة مدير رياضي للفريق الأخضر، ويبدو أن رجع الصدى لم يتحقق، وظل المقترح بدون جواب. قيل حينها إنها محاولة للركوب على شعبية الأسطورة، من أجل اجتياز اختبار الجمع العام ليس إلا.
مات اللاعب الذي أسال مدادا غزيرا في حله وترحاله في سكونه وحركاته في نومه ويقظته، توقف نبضه حين بلغ من العمر ستة عقود، وتعطل اللغط الذي لازمه، وانتهى به المطاف على آلة حدباء محمول، ولأنه ليس مجرد لاعب كرة بل هو رمز من رموز السيادة في الأرجنتين، فقد أعلن رئيس الجمهورية ألبرتو فرنانديس فورا الحداد الوطني لمدة ثلاثة أيام، لكن الأكيد أن طيفه سيظل يتراقص أمام عيون هواة كرة القدم لسنوات، لأنه الساحر الذي يفلح من حيث أتى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى