شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

عندما سال الدم أنهارا في خنيفرة وزيان

أوراق المنصوري تكشف مواجهات ساخنة بالأطلس

يحكي أحمد المنصوري عن الأحداث التي عاش تفاصيلها في مرحلة شبابه، متحدثا عن صعوبات تمويل القبائل لجيش سيدي علي أمهاوش، خصوصا وأنه تحرك لنصرة بوذنيب وجاء برجال قبائل زيان للقتال معه، ونصروا قبائل أخرى. هذه التنقلات كانت تحتاج إلى توفير العدة والعتاد وتموين الجنود، وهو ما كان صعبا على هذه القبائل التي كانت تئن تحت رحمة الجوع وانتشار الوباء في مغرب تلك الفترة.

مقالات ذات صلة

كما أنه تناول أيضا في مذكراته ملاحم من بطولات موحا وحمو الزياني، وذكر تفاصيل منسية تتعلق بالأحداث التي عاشتها منطقة زيان منذ سنة 1911.

يونس جنوحي:

 

الشاهد المنسي..

كتاباته «تفضح» أسرار امتلاكه لناصية اللغة العربية، وتُحرج القائلين بأن عرب المغرب هم من خدموا اللغة العربية. أحمد المنصوري، توزع بين الجغرافيا مُفتخرا بدور الأطلس وزيان خصوصا، في صناعة شخصيته وذكرياته الشخصية ومساره العلمي ومساره في المقاومة أيضا.

هذا الرجل، كان من رموز الحركة الوطنية الأوائل الذين مارسوا الدعاية في صفوف المغاربة، لمواجهة المد العسكري الفرنسي في منطقة الأطلس. وقد كان معروفا عنه إلقاء الخطب والمواعظ، وتحريك حماس الناس وتذكيرهم بتاريخ المغرب وملاحم المقاومة المغربية، أيام الجهاد البحري، لطرد البرتغاليين والإسبان من الثغور المغربية.

عاصر أحمد المنصوري انتقال السلطة من المولى عبد العزيز إلى أخيه عبد الحفيظ، وكان طفلا وقتها يسمع عن مجريات الأحداث. لكن عند وصول المولى يوسف إلى السلطة، كان الوعي الوطني لأحمد المنصوري في طور التشكيل، وعندما بدأت القوات الفرنسية تنشر وحداتها في منطقة زيان، كان هو يتلمس طريقه الأول نحو الخطابة.

وقد كتب في مخطوطه، الذي تناول فيه حياته وأقوى محطات نضاله العلمي والسياسي، عن هذه الفترة الانتقالية واعتمد على ذاكرة مقربيه لكي يوثق للأحداث التي مرت أثناء مرحلة طفولته، أو سبقت وجوده، لكنها أثرت على الأحداث اللاحقة.

سيرة أحمد المنصوري تبقى فريدة، بحكم أنه عاش في قلب منطقة الأطلس، مع انطلاق الحملات العسكرية للجيش الفرنسي، وتوحيد صفوف قبائل زيان، لمواجهة فرنسا.

وقد تناول بعض التفاصيل عن الموضوع، نقلها عن الشهود الذين عاشوها، أو العلماء الذين تتلمذ على أيديهم، ثم انتقل إلى توثيق ما عاشه شخصيا من أحداث، خصوصا عندما بدأ في عشرينيات القرن الماضي يدعو المغاربة إلى الاتحاد في مواجهة الحماية الفرنسية، وقد كتب بنفسه أشعارا كثيرة تغنى فيها بالروح الوطنية، ودعا إلى عدم التفرقة بين العرب والأمازيغ، ورفض فكرة المحاكم العرفية.

وفي ثلاثينيات القرن الماضي كان يحظى بتقدير كبير من الملك الراحل محمد الخامس، حتى أن أحمد المنصوري كان في طليعة الذين دعوا إلى ضرورة منح السلطان صلاحيات سياسية واسعة وتحرير سلطاته من مضايقات الإدارة الفرنسية.

ومن النقط التي انبرى للدفاع عنها، ما يتعلق بمحاولة فرنسا فرض الظهير البربري، وكتب محاضرات مطولة، ضمها مخطوطه الذي تناول فيه حياته، واختار له عنوان: «كباء العنبر من عظماء زيان وأطلس البربر»، تناول فيها تاريخ منطقة زيان ودور علمائها الكبار في الدفاع عن اللغة العربية والشريعة الإسلامية وحرصهم على تطبيقها في مناحي حياتهم، عكس ما حاولت الإدارة الفرنسية وقتها ترسيخه عن عادات الأمازيغ والأحكام العرفية. الباحث المغربي ذ. محمد بن لحسن أشرف على تحقيق مخطوط أحمد المنصوري، وتولى الدكتور مصطفى الكثيري تقديمه، لصيانة المخطوط الأصلي من الضياع ونقل محتواه إلى الأجيال، سيما وأن تاريخ منطقة زيان شهد الكثير من المغالطات، ومحاولات التقزيم.

 

 

 

هل فعلا اختلطت الوقائع بالأساطير في أحداث «زيان»؟

منطقة زيان ظلت دائما حاضرة في تاريخ مقاومة الحماية الفرنسية. ومعركة «الهري» الشهيرة، التي دارت رحاها سنة 1914، كانت القطعة الأبرز في فسيفساء المقاومة المحلية في الأطلس.

سبق وأن تطرقنا في عدد من المناسبات إلى موضوع حياة موحا وحمو الزياني، وذهبت بعض الآراء إلى القول إنه كان شخصية أسطورية. بينما انبرى آخرون للدفاع عن إنجازات هذا الرجل، الذي أذاق الحماية الفرنسية الأمرين.

عبد الرزاق السنوسي أحد الباحثين المغاربة القلائل الذين نبشوا في تفاصيل موقعة الهري وكواليسها المنسية. وسبق له أن نشر مقالا دراسيا للموضوع سنة 2010، بالتزامن مع ذكرى معركة «الهري»، أي في 13 نونبر. جاء في هذا المقال:

«وبعد معارك في مواقع متفرقة حول مدينة خنيفرة مع المقاومة الزيانية، احتل الغزاة مدينة خنيفرة بقيادة الجنرال هنريس في 12 يونيو 1914، كان شهري يونيو ويوليوز من سنة 1914 قد كلفا المقاومة المغربية الكثير من الأرواح والجرحى. لقد صعدت قوات حمو الزياني إلى الجبال المجاورة، ومنها كان ينظم حملات مباغتة على مراكز العدو. كانت له خطة عسكرية أنهت القوات الاستعمارية واستنزفتها، وقد استمرت مقاومة موحا والمقاومين من قبائل زيان إلى سنة 1921، حيث يعترف الجنرال غيوم بالهزيمة في كتابه البربر المغاربة وتهدئة الأطلس المتوسط بجسامة الخسائر التي تكبدتها القوات الفرنسية في معركة «الهري»، بقيادة المناضل الوطني الغيور موحا أوحمو الزياني، الذي ألحق بالمحتل هزيمة نكراء سجلها تاريخ الكفاح الوطني، والمقاومة المسلحة بالأطلس المتوسط عموما، وتاريخ قبائل زيان على الخصوص. ففي يوم 12 نونبر 1914 انعقد اجتماع لقادة جميع الوحدات واطلعوا على الخطة الهجومية، وكانت الفاجعة كبيرة بالنسبة إلى الزيانيين، أي قبائل زيان وأسفنيرن وأيت إسحاق…. لقد انطلقت القوات الاستعمارية في أربع مجموعات تعدادها 1300 جندي وضابط، صباح يوم 13 نونبر 1914، اتجاه الهري مقر إقامة القائد المجاهد الزياني والمجاهدين على الضفة الشرقية لنهر وادي شبوكة، احتدمت المواجهات بعد وصول بقية فرق العدو كما تعززت قوات المجاهدين الزيانيين بالتحاق قبائل أخرى، وما أن شرعت قوات الغزاة في مغادرة قرية الهري، حتى انهالت عليها من الخلف القوات الزيانية، تاركة في صفوفها خسائر جسيمة في الأرواح والعتاد قدرت بـ33 قتيلا من الضباط، وسقط 700 قتيل من الجنود و200 جريح، من بينهم 5 ضباط، وتمكنت من محاصرة القوات الدخيلة ومهاجمتها وزرع الرعب فيها. حاول ليوطي تحويل هذه المنطقة إلى خراب ودمار والقضاء عليها، لكن اعتقاده تبخر مع صمود الزيانيين في وجه القوات الاستعمارية. لقد شكلت معركة الهري تحديا حقيقيا للغزو الأجنبي وتصديا قويا للمخطط التوسعي، الذي ابتغته قوات الاحتلال للسيطرة على الأطلس المتوسط. بعد الانهزام الذي مني به الفرنسيون، انتقل موحا وحمو إلى منطقة تاوجكالت لتعزيز قواته، قصد مواصلة هجوماتها على الفرنسيين، إلا أنه في معركة أخرى بتاوجكالت ضد الجنرال بوميرو استشهد القائد البطل موحا وحمو الزياني في ساحة الشرف حاملا سلاحه، يوم 27 مارس 1921، بمكان المعركة، ودفن بتاملاكت قرب تاوجكالت».

أحمد المنصوري، المقاوم المغربي والعَالم الذي وُلد سنة 1897، وعاش أحداث المغرب المعاصرة إلى أن توفاه الله سنة 1965، كان شاهدا على أحداث كثيرة تتعلق بهذه المنطقة وتاريخها المنسي، وأحداثها المثيرة التي تعرضت لحملات واسعة من التشكيك قبل عقود خلت.

 

+++++++++++++++++++++++++

الموالون لفرنسا ضيقوا على محاضرة بسبب الإشادة بمحمد الخامس

«قُدر لي وإن كنت مكناسي الدار منصوري الوجار أن أنشأ في ثنايا الأطلس، وفي ذروة تلك الجبال الشم المعطس وأنمو في ترابها وأربى بين شعابها وهضابها، فهي وطني منذ نعومة أظفاري إلى أن كاد يطرّ عذاري، ومن غضاضة إهابي إلى رعيان شبابي».

بهذه البلاغة يصف المقاوم أحمد المنصوري حياته خلال مرحلة الطفولة، في كتابه الذي خطه بيده واختار له عنوان: «كباء العنبر من عظماء زيان وأطلس البربر».

وقد حكى أحمد المنصوري عن هذه الواقعة في مخطوطه، والتي حدثت في شهر ماي 1937. يقول: «حاضرتُ في بلدة نشأت فيها وعشت بين مغانيها وروابيها، ألا وهي بلاد زيان، معقل الفرسان والشجعان. وكانت محاضرتي كلها إشادة بديني وسلطاني، ومفاخر بما تحتويه من كنوز جبال أوطاني، وكان من دواعي الأسف والحسرة أن يحاضر فيها الأجنبيون بكثرة، وبنو وطني كأنهم غرباء فيها، يكتفون بالاستماع وإلقاء النظرة، فالكثير فوق الكراسي قابعون والقليل بالقليل من الحديث عنها قانعون.

وقد تعرضت من بعض الاستعماريين للانتقادات، حينما ألمحتُ بما لهذا الجبل البربري من ديانة إسلامية واعتقادات، وكما كانت سمتي غير سماتهم، فكذلك نغمتي غير نغماتهم، فهم باغمون وأنا صادح أو هم قادحون وأنا مادح، إذ هم يستطلعون لما وصلت لهذا الأطلس يد الاستعمار.

وقد كانت المحاضرة أطول من وقتها فاضطررت إلى نحتها كما كانت لاستعجال الوقت غير متناسقة الترتيب، فقلت ماذا عسى يكون يا ترى إن ألحقتُ بها طررا تكون في جبينها غررا، لتم بتاريخ هذا البربر إلمامات وتلوح في وجوه شجعانهم وبعض علمائهم وأعيانهم».

رغم الإطالة واستعراض لغة عربية متينة، إلا أن أحمد المنصوري كان «موجعا» في انتقاده للعلماء الموالين للحماية الفرنسية، وخصوصا التيار الذي ظهر بقيادة الأعيان، والذين باركوا الفصل في القوانين بين العرب والأمازيغ.

السنة التي ألقى فيها أحمد المنصوري محاضرته، أي 1937، لم يكن مقبولا فيها إثارة دور الأمازيغ في صيانة اللغة العربية وحفظ القرآن الكريم والتفوق في الفقه والتشريع، فقد كان مخطط «الإصلاحات» القانونية الفرنسية يرمي إلى عزل الأمازيغ في الأحكام العرفية، عن مشرعي القرويين في فاس.

ولأن أحمد المنصوري كان زيانيا أمازيغيا، فقد كان لا يحظى بأي دعم من أعيان فاس، الذين كان بعضهم يؤثرون في تنقيلات القضاة وتعيينات العلماء في المجالس والمساجد.

ورغم أن المنصوري يسمي زيان في مخطوطه، وطنه الثاني، بحكم الانتماء العائلي إلى نواحي مكناس، إلا أنه دافع عنها باستماتة، وهو ما كلفه مواقف غاية في الخطورة في ذلك الوقت. بل وكادت أن تودي بحياته في أكثر من مناسبة. إذ إن الإدارة الفرنسية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، لم تكن تقبل ظهور تيار متنور في منطقة الأطلس، في وقت كانت تسعى فيه إلى تفكيك قوى القبائل لتسهيل السيطرة عليها عسكريا.

وأكثر ما أثار غضب الإدارة الفرنسية، أن هذا العالم كان يلقي خطبا عن الثروات المعدنية في الجبال، وينبه إلى خطورة استغلالها من طرف الشركات الفرنسية.

 

 

عندما كانت خنيفرة عاصمة للعلماء المُعادين لفرنسا

يثير أحمد المنصوري في مخطوطه، سيرة المقاوم الكبير محمد وحمو، والذي أحاطت بشخصيته الكثير من الأساطير، إلى درجة شكك البعض في أنه قد كان مجرد اسم أسطوري، بينما توجد وثائق تاريخية وتسجيلات وتوثيقات للأحداث، مثل توثيق أحمد المنصوري نفسه، تؤكد كلها بما لا يدع مجالا للشك، أن محمد وحمو كان فعلا أحد كبار العلماء والمجاهدين الذين أربكوا حسابات الإدارة الفرنسية في منطقة الأطلس، قبل بداية ثلاثينيات القرن الماضي.

يقول: «فأما محمد وحمو فقد تشبع بفكرة الجهاد من الملوك العلويين، الذين خدمهم زهاء أربعين سنة، وبخاصة السلطان المولى الحسن، ومن العلماء الذين كانوا يترددون على عاصمته خنيفرة من حين لآخر، وخاصة من ناحية صحراء تافيلالت، حيث كانت حوادث بوذنيب واحتلال تافيلالت الأول – وكذلك حوادث احتلال الدار البيضاء. وفي رجب 1327، حل بعاصمته خنيفرة الشيخ سيدي أحمد الهيبة الشنگيطي، ماراً لفاس ليشفع في إطلاق سراح الشرفاء الكتانيين، وكله غيرة وحماس في الجهاد. وكان من الظروف المواتية لهذه الروح الجهادية، أن القدر ساق سنة 1325 إلى قبائل زيان شيخنا العلامة الحافظ المتسع الأفق، علما، وأصولا وتفسيرا، وحديثا، سيدي الحاج عبد الرحمان بن محمد النتيفي سنة 1325، وهي السنة التي احتلت فيها مدينة الدار البيضاء – وصادف في رجوعه من فاس سنة 1325 احتلال الدار البيضاء، فحضر بعض معاركها مع الشاوية، وخصوصا يوم تادارت، واندحار المحال الشاوية، ومن ثم واصل سيره إلى قبيلة زيان، بقلب يفيض غيرة وحماسا، على الدفاع عن لواء الإسلام، حيث ما رآه في قبائل الشاوية، من الانحلال والتبجح بالشجاعة الفارغة ساءه جدا، وكان يأمل أن يجد في قبائل البربر ضد ذلك. فلما توجه العدو إلى هذه القبائل الأطلسية، كان كله فيضا وحماسا، وكان هو المرجع في الاستفتاء حول الجهاد والهجرة والرضى بالمقام، تحت حكم الأجنبي، فكان شديدا صلبا في ذلك أول الأمر، وكان يلقي محاضراته في الجهاد والحث عليه من تفاسير القرآن والآيات الواردة في ذلك، وكانت تجتمع عليه جموع من القبائل ومن تلاميذه، وأنا أحدهم. فيسرد عليهم من المغازي، ومن فتوح الشام، وإذا وصل إلى بعض القصائد الشعرية الحماسية، يتلوها بنفسه بنغمات مؤثرة، ودموع منهمرة على خده، وكذلك البعض من تلاميذه، حتى يصير الجمع كأنهم في جنازة».

الواضح أن أحمد المنصوري عاش في قلب هذه الأحداث التي انطلقت من المساجد ودور تحفيظ القرآن، التي كان يشرف عليها العلماء. وهو ما يجعلنا بالتأكيد أمام حقيقة تاريخية واضحة، مفادها أن المقاومة الشرسة التي واجهت بها القبائل المد الفرنسي في المغرب بعد 1912، لم يكن مصدرها أي تأطير سياسي على يد الحركة الوطنية التي لم تظهر إلا في منتصف الثلاثينيات، وإنما مصدرها تأطير العلماء، خصوصا علماء الأطلس وسوس، لسكان القبائل وحثهم على حمل السلاح في وجه المستعمر. صحيح أن العلماء ساهموا في تأسيس الحركة الوطنية إلى جانب السياسيين، حتى أن الفصل بين التيار السياسي وتيار العلماء لم يكن ممكنا، إذ كان مؤسسو الحركة الوطنية مشبعين بالأفكار المحافظة، ومثلوا التيار السلفي المغربي في ذلك الوقت.

 

 

العلماء كتبوا الشعر لحث محمد وحمو على محاربة فرنسا في الأطلس

يستحضر أحمد المنصوري مشاهد من طفولته وشبابه المبكر، ما بين سنتي 1911 و1912. يقول: «وأعقل أني سافرت بعد احتلال فاس ومكناس، إلى العاصمة مكناس وأنا صغير سنة 1331 – لبيع الدار التي بقيت لنا بها لقطع العلائق بين الزيانيين المجاهدين والمحتلين وسأقص ما جرى في محله- فوجدت بعض المبشرين الأمريكيين، قد فتحوا محلا يلقون بعض تباشيرهم فيه، ويوزعون مناشير التبشير، فاحتفظت بأحد المناشير. فرجعت به من مكناس، فمكنته في بعض مجالسنا من ذلك المنشور، فما أن اطلع عليه حتى هاج بالبكاء، وانهمرت دموع عينيه، وصار يتغنى بشعر مرتجل (وإن كان شعره ليس بذاك).

(..) وعندما هجم الجيش الفرنسي على الدار البيضاء وبوذنيب ووجدة وما إليها، وتشوف العلماء إلى رجال القبائل البربرية وغيرهم ممن اشتهروا بالشجاعة كمحمد وحمو الزياني وأضرابه، في ذلك الوقت، وجه بعض العلماء نسخة من قصيدة للوالد، ليستنهض هو بدوره القبائل البربرية عامة، وبطلها محمد وحمو خاصة، فألقيتها إلى شيخنا المذكور. فسدت فراغا عظيما وتأثر بها رجال، وفتحت المجال لمناهضة العدو مناهضة قل نظيرها، مما أدى إلى الفئة الطيبة الصالحة منهم إلى الاستماتة، استشهادا في بلادهم، وفي مهاجرهم».

يقول أحمد المنصوري في مذكراته إن الفقهاء المعنيين بهذه الحملة الأدبية لمواجهة الاستعمار، رغم أنهم كانوا قلة فقط، إلا أنهم استطاعوا فعلا استنهاض الهمم وحث القبائل على الجهاد، وتوحيد الصفوف لمواجهة الجيش الفرنسي في منطقة الأطلس كلها، وليس قبيلة زيان فقط.

يذكر أحمد المنصوري هنا، أثر الكتابات التي كانت تُوزع لتوعية الناس بخطر المد العسكري الفرنسي في المنطقة، بعد توقيع الحماية: «من أجل هذه المكاتب قام الناس وقعدوا، متأثرين بذلك. يدل على ذلك المكاتب الواردة عليه في الموضوع ومنها هذا الوارد من السمالات، فخذ هوارة، بإمضاء مقدمهم، الحاج محمد بن بوبكر البعصامي، والفقيه السيد الصديق بن أحمد القداري، والفقيه السيد أحمد بن المبخوت، والفقيه السيد عبد الرحمان بن الحبيب، راتب مسجد هوارة، يقولون فيها، بعد أسطر الافتتاح والتحلية والسلام وبعد، فاعلم أنه لما أتى مولاي علي بن الحسين بكتابكم، الذي مضمنه الزجر والردع لكل من يسافر بأي سلعة لناحية تلمسان، ونواحيها، بأي سلعة كانت، قام من ذكر من أعيان فقراء السمالات، لذلك على ساق الجد، وقدموا لبلاد مولاي المستعين بالسوق، وجمعوا جماعات الشرفاء، وتافيلالت، والغرفة وبني محمد والسبيعه، وقرؤوا عليهم ذلك الكتاب، واتفقت كلمتهم على أن يقدموا للقائد الذي بالرصاني، فقدموا عليه وقروؤه عليه، وأقام معهم بعض أعوانه فبرحوا بالسوق على ذلك، وتعاقدوا على أن كل من سافر بشيء لتلك الناحية يؤخذ ماله ويؤكل ولا شيء على من أكله، ونادوا بذلك في أسواقهم وأرسلوا لجميع نواحي تافيلالت ليكون ذلك في علم الجميع».

إصدار هذا النوع من الفتاوى، سيكون له في ما بعد تأثير عكسي على صلاحيات العلماء ودورهم، إذ ستجري تغييرات كثيرة في الحقل الديني، للحد من إصدار هذا النوع من الفتاوى التي أربكت معالم الحياة العامة في المغرب.

 

حُروب علي أمهاوش.. الرجل الذي قض مضجع الفرنسيين في بوذنيب

من بين الذين تأثر بهم أحمد المنصوري في سيرته، سيما وأنه عندما وُلد سنة 1897، كان جل هؤلاء المقاومين الذين ترأسوا قبائل الأطلس وغيرها من المناطق في أوج قوتهم، نجد المقاوم سيدي علي أمهاوش. الذي وصفه في مخطوطه بأنه كان يلهب الحماس عندما تُذكر أخبار معاركه ضد فرنسا في منطقة بوذنيب. وذكر أيضا العلاقة الوطيدة التي جمعته مع زعماء قبائل الأطلس، إلى درجة أن الأحداث التي وقعت في المنطقتين كانت مترابطة. فقد تجمعت بعض قبائل تافيلالت المتحمسة، لكن كان ينقصها العدد والعتاد، فجاء علي أمهاوش لنصرتهم ومعه جيش قوي من الأطلس، قد لعب دورا كبيرا في قلب موازين الأحداث.

الأرشيف الفرنسي يؤكد أن عمليات عسكرية واسعة دارت رحاها في منطقة بوذنيب، إلى درجة أن فرنسا في عشرينيات القرن الماضي قد فكرت جديا في استعمال الأسلحة الكيماوية لإخضاع بوذنيب.

يحكي أحمد المنصوري عن هذه الأحداث التي عاش تفاصيلها في مرحلة شبابه، متحدثا عن صعوبات تمويل القبائل لجيش سيدي علي أمهاوش، خصوصا أنه تحرك لنصرة بوذنيب وجاء برجال قبائل زيان للقتال معه ونصروا قبائل أخرى. هذه التنقلات كانت تحتاج إلى توفير العدة والعتاد وتموين الجنود، وهو ما كان صعبا على هذه القبائل التي كانت تئن تحت رحمة الجوع وانتشار الوباء في مغرب تلك الفترة.

إلا أن أمهاوش استطاع رغم كل هذه الصعوبات إرباك الجيش الفرنسي، ليجبر الجنرالات المتمرسين على إعادة حساباتهم وتغيير الخطط، وطلب المدد من الحكومة الفرنسية.

في الفترة التي كان فيها أمهاوش يواجه فرنسا بضراوة، كان قادة الجيش في مقر الإدارة في الرباط يرسلون البرقيات لطلب التعزيز من وزارة الدفاع الفرنسية، وكان وزير الخارجية الفرنسي وقتها يطلب تقارير مفصلة عن تحركات رجال قبائل الأطلس ومعرفة علاقاتهم، في محاولة سياسية للتضييق عليهم ونزع المشروعية عنهم، لإضعاف مكانتهم ومواقفهم بين الناس. لكن تدمير منظومة هؤلاء العلماء وعلاقتهم بقادة القبائل التي قررت مواجهة فرنسا، كانت تحتاج وقتا أطول.

إذ إن فرنسا عمدت إلى نفي العلماء المؤثرين عن مناطقهم وإبعادهم عن المحيطين بهم، للحد من حملة نشر الوعي الديني. إذ إن هؤلاء العلماء مارسوا دعاية عنيفة ضد فرنسا قائمة على الوازع الديني. يقول أحمد المنصوري في هذا الصدد، متحدثا عن أحداث سنة 1911 التي حل فيها الجيش الفرنسي ونشر أكذوبة مفادها أنه يوجد في المنطقة لحماية المصالح المغربية، وإخضاع القبائل المتمردة: «رجع المجاهدون إلى استنهاض الناس، ومن جملتهم العلامة مولاي أحمد السبعي، فصار يجول في القبائل بإخلاص وغيرة دينية خالصة لله تعالى، كما قام محمد وحمو في قبائله الزيانية ومن إليها، وقام سيدي علي أمهاوش في قبائله الأشقيرنية والسخمانية وما إليها. وقام موح وسعيد في قبائله الوراوية وما إليها».

أحمد المنصوري توفي سنة 1965، وهو ما يعني أنه عاش مرحلة الحماية الفرنسية بكل تفاصيلها، وعاش تفاصيل حملات نفي العلماء، وذاق نصيبه هو الآخر من التضييق والإجبار على التخلي عن دوره في نشر الخطاب الديني والوعي الوطني في صفوف المحيطين به. لكنه بعد استقلال المغرب سنة 1956، كان في طليعة الذين أعيد إليهم الاعتبار الرمزي، وعاش مرحلة طمس معالم ما وقع في المغرب ما بين سنتي 1911 و1912، ولذلك انبرى لتدوين مذكراته بخط اليد، ليترك توثيقا نادرا لما وقع من أحداث، بتفاصيلها الدقيقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى