عندما تصحح هفوات التلفزيون سياسيا
في أكثر من مناسبة يتصفح فيها الحسن الثاني كتابا، تستقر عيناه على خطأ مطبعي، حتى صارت يداه تتحركان مثل جهاز إنذار يلتقط الإشارات. وكم من كتاب أعيد طبعه أو حبس في دائرة النسيان بسبب أخطاء غير مقصودة. ويتعين إدراك أن الطباعة على «اللينوتب» قبل دخول التقنية الحديثة كانت محفوفة بالهفوات، على رغم مراجعة الكاتب والمصحح.
لكن حظ المؤلفين لم يكن عاثرا، مثل فنانين ومبدعين، فالكتب تقدم في مراسيم، لا تترك مجالا لردود الأفعال أمام الكاميرات المصوبة. فيما مشاهدة الأعمال التلفزيونية أو السينمائية تختلف طقوسها، كما المسلسلات والبرامج الإذاعية. ففي اليوم الذي غيب فيه الموت أب الوطنية الملك محمد الخامس، أبدى الناس تذمرهم من فأل السوء الذي ألصق بمسلسل إذاعي بعنوان «القط الأسود»، وصدر على الفور قرار بوقف بثه. طالما أن الأعراف تقول إن القطط السوداء التي تظهر ليلا تكون نذير شؤم.
المحاذير لا تلغي الأقدار، والناس يتطيرون من صب الماء الساخن في المواسير، وقد يؤجلون سفرا أو رحلة لمجرد أن شيئا يعترضهم في الطريق. لذلك ابتدعوا للأسفار أو النوم أو الأكل حتى طقوسا خاصة تقيهم من شرور محتملة. لكن مشاهدة تمثيلية تلفزيونية عشية سفر رسمي كانت وبالا على الفكاهي حمادي عمور، فقد صادف أن إحدى هزلياته عرضت إلى نزاع بين رجل وزوجته حول كبش العيد، ومن سوء حظه أن الحسن الثاني شاهد وقائعها، فالتفت إلى جلسائه وقال لهم ما معناه: «آتوني بحمادي عمور لأقنعه بأن الزمن تطور وأن المرأة المغربية لم تعد تغالي في طلب كبش العيد بنفس الأوصاف التي تتسم بالمبالغة».
بدل إحضار الفنان لسماع ملاحظات قابلة للنقاش، طرق بيته زوار الفجر، وأخذوه مقيد اليدين إلى مكان مجهول، لأن أمر إحضاره تدرج من اللياقة والليونة إلى الصرامة ثم الفظاظة. ليجد نفسه معتقلا في شبه زنزانة منفردة في مقر إحدى العمالات، بدون تهمة أو محضر أو تحقيق قضائي. وكان عليه أن ينتظر إلى حين عودة الملك الحسن الثاني من رحلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. دهش خلالها لدى قراءته خبر اعتقال حمادي عمور في صحيفة «العلم» فتساءل عما فعله.. ليدرك أن أمر إحضاره تطور إلى مأساة عائلية. وكان أن استقبله في المطار لدى عودته من واشنطن، ما خلف تساؤلات حول ما كان يفعله حمادي عمور بين حشد الحضور الرسمي في المطار.
في مناسبة أخرى شوهد المفكر المهدي بن عبود يتحدث إلى برنامج تلفزيوني عن مخاض الحركة الوطنية إبان فترة الكفاح من أجل الاستقلال، وانفلت على لسان أول سفير للمغرب في واشنطن ما أثار عليه استعداء جهات شككت في نواياه. ولأنه لم يكن واردا «الاقتصاص» من مفكر بحجم المهدي بن عبود، جرى الالتفاف على الموضوع، بما هو أخطر، إذ فرضت هيمنة مباشرة لوزارة الداخلية على قطاع الإعلام امتدت لأكثر من عشر سنوات، تاركة ندوبا على المشهد الإعلامي برمته.
فقد سئل وزير الإعلام آنذاك الدكتور عبد اللطيف الفيلالي كيف انطلت عليه إيحاءات البرنامج، ورد بأن ليس في وسعه أن يكون رقيبا على التلفزيون. وجاء من يقوم بالمهمة ضدا على كل الأعراف التي تعكس تناقض المنحى بين الحرية وبسط القبضة الحديدية.
غير أن خلفيات برسم الصراعات التي تدور داخل المربعات الضيقة، كانت بدورها وراء الدفع بهذه الصيغة، على أساس أن اعتلاء الواجهة يعري الأشياء المسكوت عنها. ولأن التلفزيون أقرب إلى عيون أهل القرار فقد أحيط دائما بأسوار عالية. ومنذ أن خرج أحد وزراء الإعلام من قاعة البرلمان لعام 1963، بهدف إصدار أوامر بمنع البث المباشر لإحدى المعارك السياسية التي كانت تدور رحاها تحت خيمة المؤسسة التشريعية. ما دفع نوابا في المعارضة إلى قطع الطريق عليه بالإعلان أمام الملأ أنه ذاهب لحظر البث التلفزيوني.. منذ ذلك الوقت خضع التلفزيون لآلة رقابة، مثل التي تنصب في المطارات والمؤتمرات والجمارك.
لم يحل ذلك التشدد الذي اعترته فترات انفتاح دون لفت الانتباه إلى نخب فكرية وسياسية وإبداعية ورياضية، فقد تعرف المشاهد على الدكتور عبد الرحيم الهروشي نموذجا لكفاءة طبية، وقاده مروره عبر القناة الثانية ليضطلع بمسؤولية وزارة الصحة. واكتشف الجمهور رجل قانون وبحث في شخص السياسي خالد الناصري، فعهد إليه بمسؤولية إدارة معهد عال للإدارة والقانون، قبل أن يصبح وزير اتصال. بينما شكلت اللحظات الإعلامية محطات اختيار لزعامات حزبية وسياسية، منها من أخفق ومنها من أثار الإعجاب والتقدير، واستغل آخر الشاشة الصغيرة لتوضيح مواقف وملابسات أحداث.
لكن نصيب المفكرين لم يكن على قدر إسهاماتهم إلا في ما ندر، في حين أن مناطق الظل التي اعترت محطات تاريخية كان في الإمكان تجاوزها. فقد شكل برنامج «سمر» للإذاعي المتميز محمد بن عبد السلام طفرة نوعية في تقريب وقائع حركة المقاومة وجيش التحرير إلى الصورة. وصادف أن بث حلقاته كان يتم في شهر رمضان الفضيل، وكان مما قاله الحسن الثاني لدى متابعته وقائع تلك الملفات التي رفعت الحجز عن شخصيات وطنية مثل الزعيم التاريخي عبد الرحيم بوعبيد، أنه تمنى لو كان ضيفا على تلك الملفات التي أثارت جدلا إيجابيا حول الصورة المغيبة لرجال المقاومة الحقيقيين.
كما في الأخطاء الطبية غير المتعمدة، تقع أخطاء تلفزيونية وإذاعية، ومن يلتفت إلى الوراء سيلاحظ كم من الهفوات أعيد تصحيحها، ليس على مستوى الأداء الإعلامي، بل في نطاق العبرة السياسية التي تتعاطى والأخطاء بروح إيجابية، ليس أبعدها الزاوية التي ينظر منها المرء إلى الصورة والأحداث.