شوف تشوف

الرئيسيةتعليمتقاريرملف التاريخ

عندما أشرف الحسن الثاني بنفسه على التعليم

الموسم الدراسي لسنة 1965 المتزامن مع حالة الاستثناء

سنوات طويلة بعد نهاية سيناريو فترة الاستثناء التي امتدت قرابة خمس سنوات ما بين فترة 1965 و1970، اعترف عدد من السياسيين المغاربة أن الملك الراحل الحسن الثاني لم يكن يملك بديلا سياسيا لذلك قرر حل الحكومة والبرلمان معا، مستعملا حقه الدستوري في الإشراف بنفسه على كل قطاعات الدولة.

مقالات ذات صلة

كان بعض المقربين من الملك الحسن الثاني غير متفقين مع حالة الاستثناء، أمثال الدكتور الخطيب وعبد الهادي بوطالب. لكن الوضع العام وقتها لم يكن يسمح بمزيد من الانشقاقات السياسية، خصوصا وأن حدة الخلافات بين مكونات المعارضة مع الوزراء كانت سببا مباشرا في فرض حالة الاستثناء.

بل إن حزب الاستقلال كان يعلن في بلاغات رسمية عدم اتفاقه مع سياسة التعليم التي أطلقها الملك الراحل الحسن الثاني، خلال مرحلة الاستثناء، لتطوير القطاع، وطالبوا بتعميم اللغة العربية، وتعميمها في الإدارات، في وقت كان أبناء قادة الحزب أنفسهم يتابعون دراستهم في فرنسا ويدرسون في مدارس البعثات الأجنبية ويتعلمون اللغات الأجنبية.

كان إشراف الملك الراحل الحسن الثاني على قطاع التعليم طيلة سنوات 1965 إلى 1967، بشكل مباشر، مناسبة لإطلاق إصلاحات لتحديث التعليم، بعيدا عن تنازعات السياسيين والعزف على خطابات القومية.

 

 

يونس جنوحي

++++++++++++++++++++++++++

 

قصة الدخول المدرسي الذي كان «استثناء» في تاريخ المغرب

اعتاد المغاربة منذ يونيو 1965 وإلى حدود سنة 1970 أن يسمعوا كثيرا «الحكومة الملكية». في ظل حالة الاستثناء بعد حل البرلمان، كان الملك الحسن الثاني يباشر بنفسه الإشراف على أمور الدولة والقطاعات العمومية من خلال حكومة يُشرف عليها بنفسه.

لماذا حل الملك الراحل البرلمان؟

الجواب على هذا السؤال يستدعي بسط سنوات طويلة من تاريخ مغرب الاستقلال. لكن أبرز عاملين أديا إلى استعمال الملك حقه الدستوري في فرض حالة الاستثناء، كانا يتعلقان أساسا بما عرفته أولا جلسات البرلمان ما بين سنتي 1964 و1965 من مواجهات بين المعارضة ووزراء الدولة، والسبب الثاني تفجر الأوضاع الاجتماعية واتجاهها نحو الاحتقان بسبب أحداث مظاهرات 23 مارس 1965 التي خرج فيها التلاميذ والطلبة للاحتجاج على قرار وزير التعليم، بلعباس التعارجي، والذي يحرم الراسبين من حق التمدرس بعد استنفاذ فرص التكرار في المستويات الدراسية.

كان التعليم إذن حاضرا في عمق مشاكل المغرب في ذلك الوقت، ولم يكن يخفى على أحد وقتها أن «زلة» وزير التعليم لموسم 1964 و1965 كانت سببا مباشرا في تدهور الأوضاع السياسية.

وهكذا فقد كان شتنبر 1965 استثنائيا بكل المقاييس.

كان ذلك أول موسم دراسي بعد إعلان حالة الاستثناء في يونيو من تلك السنة. الترقب يسود الأجواء، ومسؤولو التعليم على أعصابهم، لأن الحكومة الملكية التي يقودها الملك الحسن الثاني بنفسه، مسؤولة عن الدخول السياسي والاجتماعي لتلك السنة، ولن يكون مسموحا وقوع أي انفلات أو تأخر في إعلان الموسم الدراسي.

كان الوزير الدكتور بنهيمة أول من شغل منصب وزير في ظل حالة الاستثناء، وهكذا فقد كان مسؤولا ضمنيا عن إنجاح الدخول المدرسي في ظل الحكومة الملكية التي يشرف عليها الملك الراحل الحسن الثاني بنفسه.

أول مشكل وقع في تلك السنة، بروز دعوة حزب الاستقلال، الذي كان في المعارضة، إلى رفض إصلاح التعليم الذي تم الإعلان عنه، والقاضي بالمزاوجة بين اللغتين العربية والفرنسية في التدريس.

لم يقف حزب الاستقلال، الذي دبر قطاعات حكومية سابقا قبل حالة الاستثناء، عند هذا الحد، بل طالب بإجراء استفتاء شعبي بشأن اقتراح الوزير الأول بنهيمة.

كان حزب الاستقلال يرى أنه لا يجب الحفاظ على اللغة الفرنسية لغة للعمل في الإدارات. بينما على أرض الواقع لم يكن هناك أطر مغاربة كافون لتعريب الإدارة. لكن قيادة حزب الاستقلال التي جعلت من القضية مسألة سياسية، لم تكن مهتمة بالتفاصيل، بقدر ما كان لديها اهتمام بمحاولة الخروج من حالة الاستثناء المفروضة دستوريا.

الحزب طالب أيضا بفرض ضرائب على التعليم الخاص وإيقاف الدعم الذي يصرف للمدارس الحرة.

كان الحزب يضرب مباشرة في الإصلاحات التي بوشرت في ظل إشراف الملك الحسن الثاني على قطاع التعليم. ففي الوقت الذي كان الملك الراحل يسعى إلى تطوير التعليم، كان حزب الاستقلال يدعو من موقعه في المعارضة خارج أي إطار مؤسساتي، بسبب حالة الاستثناء، إلى تعميم التعليم باللغة العربية وتلقين المواد الدينية. في حين أن أبناء قادة حزب الاستقلال كانوا يدرسون في الخارج، في فرنسا على وجه الخصوص، ويتعلمون اللغة الفرنسية.

عندما قاد الملك الراحل هذه المحاولة الإصلاحية بنفسه، خصوصا وأنه كان يتفقد بعض المدارس وخصص حيزا مهما من خطاباته إلى الشعب في عدد من المناسبات الوطنية والدينية خلال حالة الاستثناء لمشاكل التعليم، لم تكن أصوات معارضة هذا التوجه الجديد تُسمع بالكاد، ليس لأن البرلمان كان قد حُل، ولكن أيضا لأن الأجواء السياسية في مغرب 1965، كان فيها تركيز كبير على حضور الملك شخصيا في الحياة السياسية والاجتماعية للمغاربة، بعيدا عن وساطة الوزراء.

 

باحنيني.. بنهيمة والعراقي.. هل أزاحهم «الاستثناء»؟

بالنسبة لهؤلاء الثلاثة، والذين تكرر ظهورهم في الحياة السياسية بعد حالة الاستثناء، فإنهم كانوا في وضع لا يُحسدون عليه، رغم قربهم الكبير من الملك الراحل الحسن الثاني وتقديره الكبير لهم.

الأول هو الوزير امحمد باحنيني. فقد كان وزيرا أول عندما أعلن الملك الراحل الحسن الثاني عن حالة الاستثناء في يوم 7 يونيو 1965. وهو ما كان يعني أن الرجل فقد كل صلاحيات الوزارة الأولى تقريبا.

إلى جانب أنه لم يعد مجبرا على حضور جلسات البرلمان وسماع مداخلات النواب ومساءلتهم له بصفته وزيرا أول، فإنه أيضا قد أعفي من مسؤوليات الوزارة الأولى بحكم أن المغرب دخل في حالة الاستثناء عهد «حكومة الملك».

ولأن المغرب لم يسبق أن عاش حدثا دستوريا مماثلا، فقد كان الترقب يسود الأوضاع في المغرب. بقي باحنيني لثلاثة أشهر في منصبه بعد إعلان حالة الاستثناء، لكن البقاء كان إداريا فقط، فقد كان الملك الحسن الثاني ممسكا بزمام الأمور ومشرفا بنفسه على الوزارات رغم بقاء باحنيني في الوزارة.

في نونبر بقي منصب الوزير الأول شاغرا، ولم يُعين الملك الراحل الحسن الثاني أحدا في الوزارة الأولى، وبقيت الرباط، كما كان يقال وقتها، بدون حكومة ولا برلمان ولا وزراء.

إلى أن جاءت سنة 1967 لكي يعين الملك الراحل الحسن الثاني الدكتور بنهيمة وزيرا أول، وشاع وقتها أن التعيين، كان فقط لكي يفوض له الملك بعض المهام على رأسها التنسيق بين القصر الملكي والقطاعات الوزارية التي بقيت تشتغل بموظفيها في حالة الاستثناء.

كان بنهيمة وزيرا انتقاليا، إذ أنه لم يعمر في منصبه سوى سنتين تقريبا، لكي يترك منصبه للوزير مولاي أحمد العراقي، والذي عينه الملك الراحل الحسن الثاني في أكتوبر 1969 في منصب الوزير الأول، وعهد إليه بتشكيل الحكومة التي سوف يخرج بها المغرب من حالة الاستثناء.

لكن التاريخ كان لديه مخطط آخر للعراقي، ففي عهده انفجرت فضيحة ارتشاء الوزراء، وأمر الملك الراحل بمحاسبة الوزراء المتورطين وإيداعهم السجن أثناء التحقيق معهم. وهي الواقعة التي عجلت بإعفاء حكومة العراقي في صيف 1971، مباشرة بعد انقلاب الصخيرات، وتعيين حكومة أخرى جديدة، أوكلت إلى الوزير أحمد عصمان. في صالونات الرباط، كان وصول عصمان، صديق الملك من أيام الدراسة الأولى في المعهد المولوي بالرباط وصهره، إلى كرسي الوزراة الأولى إيذانا بنهاية حالة الاستثناء. وفعلا كان الأمر كذلك.

لكن الوزراء بنهيمة والعراقي وباحنيني، دخلوا فعلا التاريخ لأنهم دبروا مهام منصب الوزير الأول، في ظرفية تاريخية استثنائية من تاريخ المغرب، لم تكن تشبهها أي مرحلة أخرى.

 

 

++++++++++++++++++++++++

أجواء مشحونة لجلسات آخر برلمان قبل حالة الاستثناء

برلمان سنة 1964، كان أشبه بحلبة مصارعة بين المعارضة التي يقودها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ووزراء الحكومة الذين كانوا يرون في رفاق المهدي بن بركة «أعداء» حقيقيين للدولة، خصوصا في ظل وجود ملف مؤامرة يوليوز 1963، وهو الملف الذي اتُهم فيه قياديون اتحاديون، بينهم أعضاء من الحزب لديهم مقاعد في البرلمان، بالتخطيط للمس بسلامة الدولة وقلب النظام وإدخال السلاح إلى المغرب.

وهكذا كانت أجواء الجلسات في البرلمان بعد إطلاق سراح عدد من الاتحاديين، مشحونة جدا، خصوصا وأن بعض الذين أطلق سراحهم، كانوا يشاركون في تلك الجلسات ويحاولون إحراج الوزراء. وهو ما جعل تلك الجلسات تصبح مشحونة جدا، ويتبادل فيها الطرفان الاتهامات.

لذلك كانت المقولة الشهيرة التي أطلقها الملك الراحل الحسن الثاني عندما شبّه جلسات البرلمان بالسيرك، فترة قصيرة قبل إعلان حالة الاستثناء وحل البرلمان والحكومة، ذات حمولة قوية.

نورد هنا شهادة مهمة من مذكرات السياسي والدبلوماسي مولاي المهدي العلوي، والذي كان أحد أبرز الشبان وقتها الذين رافقوا المهدي بن بركة ويقودون خط المعارضة من الداخل.

يقول: «في الوقت الذي كنا في السجون والأقبية السرية والعلنية، كان بعضنا ما يزال يتحمل مسؤولية الدفاع عن مصالح الشعب التي جرد منها، بعد انتخابه ممثلا للسكان في البرلمان، إثر تحقيق «الاتحاد الوطني» لانتصاره الكبير في الانتخابات التشريعية التي سبقت الكشف

عن «المؤامرة» المزعومة، وحيث أني كنت من الفائزين بمقعد في البرلمان عن دائرة «سلا»، فقد كان عليّ أن أنجز عددا من المعاملات الإدارية، قبل الالتحاق بالمجلس النيابي، بعد خروجي من السجن وأباشر مهامي ضمن فريق الحزب، بعد جلسة التعارف مع الأعضاء، وكذا الشخصيات الممثلة للاتجاهات السياسية الأخرى.

في افتتاح دورة أكتوبر عام 1964، توزع النواب على اللجن البرلمانية، فاخترت الانضمام للجنة الخارجية، بحكم مساري واهتماماتي وعلاقاتي بعدد من الجهات بالخارج. (..)

حضرت الاجتماع الأول لهذه اللجنة وشاركتُ بحماس في مناقشة عرض وزير الداخلية، بحضور كل من الجنرال «أوفقير» و«الدليمي»، وبدأت المناقشة حول سؤال طرحه أحد نواب «الجبهة» عن وضعية السجون في المغرب، وتحديدا نوعية الطعام الذي يقدم للسجناء، فكانت إجابة «الدليمي»، المسؤول عن إدارة السجون وقتها أنه في العموم يتم احترام جدول تغذية متوازن يفي بحاجيات النزلاء.

وقال «الدليمي» إن هذا لا يعني أن اللحوم تقدم للسجناء في كل يوم، بل تجتهد الإدارة، حسب الإمكانيات المتاحة لتقديم أنواع من الحساء والخبز والقطاني، إضافة إلى قطع من اللحوم في بعض الأحيان، فضلا عن وجبة «الكسكس» كل يوم جمعة.

استفزني هذا الكلام وأنا الخارج لتوي من المعتقلات والسجون وأماكن الاحتجاز، فعقبت على كلام المسؤول بكلام واضح، مفاده أن ما يقدم من وجبات للسجناء لا يليق ببني آدم، فالحساء (الشربة) عبارة عن ماء ملون تسبح فيه الحشرات (الما والزغاريت کا يقول المغاربة بلهجتهم المحلية)، بينها الخبز مجرد قطع من الدقيق الرخيص، الذي مرت أيام على طهيه (خبز كارم تهرس بيه راسك)، أما وجبة «الكسكس» الذي يقدم أيام الجمعة، فيستحسن ألا أذكرها.

ولما ارتفعت نبرات صوتي، قام «أوفقير» من مكانه، فأحدث الكرسي صريرا يعكس حالة الغضب التي استبدت بالجنرال، في حين بقي الحاضرون صامتين، في حالة اندهاش وذهول، وكأن على رؤوسهم الطير، يتوقعون ردة فعل المسؤول ورفيقه «الدليمي». وقبل أن يغادر القاعة، مر من خلفي «أوفقير» وربت على كتفي، ووجه لي كلاما باللغة الفرنسية قائلا:

– من دون ضغينة  Sans rancune.

فأجبته:

– طبعا، من دون ضغينة Evidamment sans rancune».

هذه الجلسات، كانت من بين أخرى كثيرة تشبهها، سببا مباشرا في التعجيل بحل الحكومة والبرلمان.

 

عندما كان وزير التعليم يمشي فوق حقل الألغام

في الموسم الدراسي لسنتي 1964 و1965، كان هناك إنزال قوي لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في نقابة التعليم. وفي البرلمان، خاض فريق الحزب معارضة قوية ضد وزير التعليم، بلعباس التعارجي، بسبب التوتر الذي عرفه قطاع التعليم في ذلك الموسم الدراسي.

كان هذا آخر موسم بالضبط قبل إعلان حالة الاستثناء. أي أنه آخر موسم دراسي تحت إشراف الوزير بلعباس، قبل أن يُصبح التعليم في الموسم الذي يليه، أي موسم 1965 و1966، تحت إشراف الملك الحسن الثاني مباشرة.

كيف كانت أجواء الدخول المدرسي لسنة 1965 إذن؟

قبل أن تُلقي هذه السنة ظلالها على المغرب، كان شتنبر 1964، ثلاثة أشهر فقط على نهاية العام، موعدا لبدء المواجهات بين المعارضة وقطاع التعليم. وهذه المعارضة تُرجمت سريعا على أرض الواقع.

إذ في يوم 14 شتنبر سُجلت إضرابات شلت وتيرة التحاق التلاميذ بالأقسام داخل المدارس، ونفس الأمر انطبق على الجامعات.

والسبب اعتقال محمد الحلوي، الذي كان رئيسا وقتها للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، على خلفية النشاط الطلابي وأيضا أجواء الاحتقان التي كانت بين الداخلية وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.

تجند الطلبة، رفاق الراحل محمد الحلوي، للدعوة إلى إضرابات في المدارس والجامعات. والنتيجة كانت عرقلة للموسم الدراسي 1964، الذي ستتلوه بعد أشهر فقط انتفاضة 1965 في مارس، حيث سيكون وزير التعليم بلعباس التعارجي، أمام غضب شعبي كبير بسبب قرار في نفس الموسم، يمنع بموجبه الراسبين في امتحان الشهادة مرتين، من العودة إلى مقاعد الدراسة، وهو القرار الذي أصاب عشرات الآلاف من التلاميذ بخيبة كبيرة، خصوصا وأن منهم متقدمون في السن لم يلتحقوا بمقاعد الدراسة في السن القانوني.

اعتبر القرار وقتها بأنه طعن في سياسة الدولة وخطابات الملك الحسن الثاني التي كان يحث فيها المغاربة بعد الاستقلال على تسجيل أبنائهم في المدارس ومحاربة الهدر المدرسي والانتقال بالمغرب إلى مصاف الدول التي تفرض التعليم الإجباري على مواطنيها والقضاء على الأمية. كانت كل المؤشرات إذن توحي بأن الموسم سيكون استثنائيا.

كان موقف وزير التعليم إذن يشبه اللعب بالنار، خصوصا وأن القرار الذي أعلن عنه منتصف الموسم تقريبا، كان سببا في ازدياد وتيرة الإضرابات في الشارع، واحتقان الأجواء داخل قبة البرلمان.

لكم إذن أن تتصوروا كيف سوف تكون علاقة موظفي التعليم، التابعين للمعارضة، ومسؤولي الوزارة.

وقد سجل عبد الرحيم بوعبيد، حسب ما أورده بنفسه في مقالات سابقة، كيف أن موظفين في قطاع التعليم كانوا ينتظرونه أمام مقر الحزب وقرب منزله، لكي يشتكوا له من ممارسات بعض مسؤولي الوزارة المعادين للحزب، والذين عملوا على استصدار قرارات توقيف في حق مُعلمين وموظفين على خلفية أنشطتهم النقابية، أو لمجرد إعلانهم دعم موقف نواب الحزب في البرلمان أثناء مساءلتهم لوزير التعليم خلال الجلسات العلنية التي كان يبثها الراديو وتحظى بمتابعة شعبية كبيرة جدا.

كل هذه المؤشرات زادت من تأزيم وضع قطاع التعليم، لكي ينفجر الوضع يوم 23 مارس 1965. إذ تحولت المظاهرات التي خرج فيها التلاميذ بكثرة، مرفوقين بمُعلميهم، خصوصا في الدار البيضاء، للتنديد بقرار وزير التعليم، إلى فرصة لكي يُنزل مدير الأمن، الجنرال أوفقير، الجيش إلى الشارع، وتتم مواجهة المتظاهرين السلميين بالرصاص الحي، وهو ما خلف سقوط مئات الضحايا في ذلك اليوم «الأسود».

وهو ما زاد من حدة المواجهة والملاسنات تحت قبة البرلمان، خصوصا وأن نواب المعارضة طالبوا بفتح تحقيق مع كبار المسؤولين في الدولة لتحديد المسؤوليات في ما وقع.

كانت هذه الواقعة من الأسباب المباشرة التي جعلت الملك الراحل الحسن الثاني يلجأ إلى حقه الدستوري ويعلن دخول البلاد حالة الاستثناء ويحل فيها الحكومة والبرلمان. فقد كانت كل مؤشرات فشل الحكومة واضحة.

 

حينما كانت الرباط بدون وزراء وبدون برلمان

سنوات طويلة بعد نهاية سيناريو فترة الاستثناء التي امتدت قرابة خمس سنوات ما بين فترة 1965 و1970، اعترف عدد من السياسيين المغاربة أن الملك الراحل الحسن الثاني لم يكن يملك بديلا سياسيا لذلك قرر حل الحكومة والبرلمان معا، مستعملا حقه الدستوري في الإشراف بنفسه على كل قطاعات الدولة.

لتقريب الموقف أكثر، نورد هنا شهادات من أرشيف البرلمان المغربي، على لسان قيدوم البرلمان الراحل عبد الواحد الراضي. ففي مذكرات هذا الأخير، عمل على تفريغ تسجيلات مهمة لأجواء جلسات برلمان فترة 1965، في الجلسات الأخيرة التي سبقت إغلاقه.

يقول: «أتذكر تدخلا لأحد نواب الأغلبية، وكيف تناول الكلمة منتقدا الوضع السائد في البلاد. كان رجلا بسيطا عفويا لا تبدو عليه أمارة الحس السياسي، وتأثر بدون شك بخطاباتنا وتدخلاتنا القوية في إطار مناقشات ومواجهات ملتمس الرقابة. فما إن وقف في المنصة حتى انهال على الحكومة بالنقد الشرس. كان يتحدث بمشاعره وقلبه، وختم تدخله بالقول: المغاربة دابا بحال شي قطعة ديال الغنم وسارحينها الذيوبة.

(..) أذكر المرحوم عبد العزيز الوزاني، وكان نائبا عن الأغلبية في برلمان تلك الولاية الستينية. كنا أنهينا المناقشات الخاصة بقانون المالية لسنة 1964، وكنا أبدينا اعتراضا قويا على ميزانية متقشفة تقشفا كان يعني تفقير المغاربة وتجويعهم. ميزانية جاءت لتفرض المزيد من الضرائب على المغاربة البسطاء وتُنذر بالغلاء والمصاعب الواضحة للعيان. وفيما كنت أتهيأ لأغادر محيط المجلس على متن سيارتي، طلب الوزاني أن أنقله معي إلى محطة القطار ليسافر عائدا إلى منطقة بأيت طيفت (سنادة) تارجيست، شمال المغرب. في الطريق سألته: «ايوا آش هاد الشي آسي الوزاني؟ ميزانية كارثية بحال هذي كتصوتو عليها وتزكيوها وانتم كتعرفو أنكم غاديين تقتلو بيها هاد المغرب!». فأجابني على الفور: «لا سيدي. احنا كاع ما قتلناه.. احنا ع دْفناه!».

عندما تقرر إغلاق البرلمان،  في يونيو سنة 1965 أخطر البرلمانيون والوزراء والموظفون لكي يُخلوا مكاتبهم في أسرع وقت، لكي تُغلق البناية. وفعلا عندما جاؤوا لأخذ أغراضهم وجدوا إنزالا أمنيا كثيفا لتنظيم الإخلاء. وحكى عبد الواحد الراضي في مذكراته كيف أنه وجد إدريس البصري، الذي سوف يصبح لاحقا وزيرا للداخلية، وكان وقتها رجل أمن مشرفا على العملية، بزي الشرطة، أمام الباب لكي يمنع البرلمانيين والموظفين من العودة إلى داخل البناية بعد أن أخذوا أغراضهم من المكاتب.

مباشرة بعد هذه المشاهد لإخلاء الوزارات، سوف تصبح مدينة الرباط رسميا بدون برلمان وبدون وزراء.

لكن الوزارات بقيت تسير ويحضر موظفوها إلى العمل. وكثيرا ما كان الملك الراحل الحسن الثاني طيلة تلك المدة، أي ما بين 1965 و1970، يفاجئ الموظفين في قطاعات مختلفة، بزيارة مفاجئة لكي يرى بنفسه تطور العمل على ملفات القطاعات، مثل التعليم والصحة والعدل والاقتصاد، ويسأل بنفسه رؤساء المصالح والمندوبيات. باختصار، كان الملك يقوم بمهام الوزراء بنفسه طيلة مدة حالة الاستثناء. وحتى رغم وجود أسماء إلى جانب الملك مثل الوزير الدكتور محمد بنهيمة، والوزير أحمد العراقي، اللذين عُينا في فترة الاستثناء، إلا أنهما لم يكونا يمارسان صلاحيات الوزير الأول بالصورة المعتاد عليها في مغرب ما قبل حالة الاستثناء، وكانوا أشبه بمساعدين للملك ومنسقين بينه وبينه المسؤولين في مختلف القطاعات.

كان بعض المقربين من الملك الحسن الثاني غير متفقين مع حالة الاستثناء، أمثال الدكتور الخطيب وعبد الهادي بوطالب. لكن الوضع العام وقتها لم يكن يسمح بمزيد من الانشقاقات السياسية، خصوصا وأن حدة الخلافات بين مكونات المعارضة مع الوزراء كانت سببا مباشرا في فرض حالة الاستثناء.

 

 

الفرنسيون وCIA راقبوا أول دخول سياسي بعد فرض حالة الاستثناء

السفارتان الفرنسية والأمريكية في الرباط راقبتا أوضاع الدخول السياسي والمدرسي في المغرب مباشرة بعد فرض حالة الاستثناء.

ففي يونيو 1965 أعلن رسميا عن دخول البلاد حالة الاستثناء، ليأتي الدخول الاجتماعي الجديد في شتنبر من تلك السنة، في أجواء من الترقب والانتظار لما سوف تؤول إليه الأوضاع في بلد يعيش حالة انتقال سياسي استثنائي.

فرنسا كانت تراقب الأوضاع في المغرب، خصوصا وأن العلاقة بين النظام والمعارضة كانت في قمتها، وكان المهدي بن بركة يقود أنشطته من باريس، ولم يعد وقتها يفصل عن اختفائه سوى أسابيع (بن بركة اختفى في نهاية أكتوبر 1965).

أما السفارة الأمريكية في الرباط فقد كانت تبعث تقارير ساخنة عن وضع البلاد بعد مظاهرات 23 مارس 1965. وكانت التقارير تتناول مواضيع من قبيل الدخول الاجتماعي الجديد وعلاقة النقابات بالدولة، في ظل حالة الاستثناء.

يقول الباحث د.عبد الرحيم الورديغي، الذي يعتبر أحد أوائل الباحثين المغاربة الذين وثقوا لحالة الاستثناء: «إن حل مجلس النواب الأول كان موجها في الحقيقة ضد الحركة الوطنية التي صادقت على الاستقلال الممنوح لها من طرف فرنسا. وقد خرجت من مجلس النواب منقسمة على نفسها كما كانت قبل انتخابه سنة 1963، وجابهت جالة استثنائية طويلة المدى. فما كان من القوات اليمينية إلا أن ازدادت غطرسة وسلطة بفضل الجيش والشرطة، وقامت بسياسات داخلية وخارجية تخدم مصالحها».

هذا التحليل كانت تؤكده معطيات ملموسة على الأرض. فقد كانت جلسات مجلس النواب تشبه محاكمات يقودها معارضون ضد وزراء في الدولة، ووصل الأمر في بعض الجلسات إلى اتهام وزراء بالخيانة أيام الاستعمار والتآمر على الملك محمد الخامس قبل نفيه، واستعان النواب بأرشيف الصحافة وقتها لكي يدعموا هجومهم ضد هؤلاء الوزراء، بالوثائق والأرشيف.

السفارة الفرنسية تابعت هذه الأجواء عن قرب، بحكم أن عددا من الشخصيات التي كانت توجد في قلب الزوبعة، كانوا أصدقاء مقربين لفرنسا.

وما زاد من اهتمام فرنسا بالأوضاع، ما دعا إليه الاتحاد المغربي للشغل في مناسبة فاتح ماي 1966، أي قرابة سنة على تفعيل حالة الاستثناء، حيث دعا إلى تأسيس حكومة تتمتع بالثقة الشعبية، وتقوم بدور التحضير لانتخابات ديموقراطية لاستئناف الحياة البرلمانية في إطار دستور معدل.

وهذا يعني أن كل المؤشرات التي تثير انتباه فرنسا في المغرب كانت حاضرة، وبقوة. كان هذا الحدث تأكيدا على أن الفاعلين السياسيين لم يكونوا متفقين مع حالة الاستثناء، وأن هناك رغبة في تفعيل حياة سياسية جديدة أكثر ديموقراطية. وما زاد من اهتمام فرنسا بما يقع في المغرب خلال فترة 1965 و1970، الأحداث التي عاشتها القارة الإفريقية في ذلك الوقت، وهي حالة «اللاستقرار» بسبب انقلابات عسكرية في عدد من الدول الإفريقية، وبالتالي فقد كانت باريس مهتمة جدا بما يقع وقتها في الرباط.

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى