شوف تشوف

الرأي

عن المفارقات اللبنانية الصارخة..

زائر بيروت هذه الأيام يجد كل ألوان الطيف السياسي والثقافي العربي فيها، وصالوناتها الفكرية تتحول إلى حلقات نقاش ساخنة، فهناك الليبيون والعراقيون والسوريون والخليجيون والإسلاميون من عدة دول، بالإضافة إلى اللبنانيين من مختلف الاتجاهات، وهذا كله في وقت تحظر دول خليجية على رعاياها زيارة لبنان، وتصدر الولايات المتحدة تعميما لرعاياها فيه بالمغادرة فورا بسبب تدهور الأوضاع الأمنية، في وقت لا تجد فيه مقعدا على الطائرات المتوجهة إلى البلد هذه الأيام، إلا بشق الأنفس بسبب موسم الأعياد.
اللبنانيون، ومعهم كل الحق، يعتقدون أن العالم كله منشغل بهم، والقضية الأسخن محور كل النقاشات في دواوينهم، وعلى شاشات محطاتهم، وهي صيغة التسوية الجديدة لإخراج البلاد من حال الاحتقان السياسي التي تعيشها، وملء الفراغ الناجم عن عدم وجود رئيس جمهورية. فالكل يتحدث عن هذه الصيغة التي تقوم على ثنائية تولي السيد سليمان فرنجية الرئاسة، مقابل تولي السيد سعد الحريري رئاسة الوزراء، لستة أعوام لكل منهما، وهي الصيغة التي ما زالت «مفترضة»، ولكنها نجحت في أمر واحد، وهو تفجير الخلافات في المعسكرين المتنافسين، أي معسكر حزب الله (8 آذار)، الذي يدعم العماد ميشال عون، ومعسكر الحريري (14 آذار)، الذي يدعم سمير جعجع للرئاسة. ويعتقد اللبنانيون أن هذه الصيغة التي تعتمدها السعودية، أو تقف خلفها، هي مقدمة، أو فأل جيد لتسويات في سورية والعراق واليمن، وكل الصراعات المتأججة في المنطقة، فلبنان في نظرهم هو «محور» المنطقة، وعصبها الرئيسي، و«التيرمومتر» الذي يمكن من خلاله قياس حرارة النزاعات فيها، سخونة أو برودة.
الجميع يراقب ردة فعل «حزب الله» والسيد حسن نصر الله على هذه الصيغة، وما إذا كان يؤيدها أو يعارضها، ولكن السيد نصر الله يتحلى بالصمت، ويبقي أوراقه قريبة إلى صدره، ولا يكشف إلا القليل منها، وفي جلسات مغلقة مع زواره، وآخرهم النائب فرنجية نفسه، ويكتفي بحَث حلفائه، وخاصة العماد عون، على التحلي بالصمت، وضبط النفس، وعدم الاقدام على أي رد فعل مندفع، ويبدو أنه، أي العماد عون، التزم بالنصيحة من حليفه الأوثق.
المقربون من السيد نصر الله يقولون، والابتسامة مرسومة على وجوههم، إن من يقبل بالنائب فرنجية رئيسا للجمهورية، والذي يعتبر من حلفاء سورية الأكثر شراسة في الدفاع عنها وسياساتها في لبنان والوطن العربي، يمكن أن يقبل، وفي مرحلة لاحقة، بالعماد عون عدوها القديم، الذي خاض حربا ضدها، وتحول لاحقا إلى «صديق» لها، مع بعض التحفظات، مضافا إلى ذلك أن الأخير، أي العماد عون، يحظى بشعبية أكثر في أوساط المعسكر المسيحي اللبناني من نظيره فرنجية، وأحد أبرز حلفائه في معسكر «الممانعة» اللبناني.
طلب الولايات المتحدة من رعاياها مغادرة لبنان فورا، وتعرض السيد هانيبال القذافي، نجل الرئيس الليبي السابق معمر القذافي (جرى الإفراج عنه لاحقا) من قبل مجموعة مسلحة، أثناء وصوله إلى بيروت قادما من سورية، نسفا حالة التفاؤل التي انتشرت في الأوساط اللبنانية، وأعادا صيغة «الحريري- فرنجية» إلى مرتبة أدنى على سلم الاهتمامات اللبنانية، وبات اللبنانيون في حالة من القلق والحيرة، ويتساءلون أين سيكون التفجير المقبل، وكأن ليس لديهم ما يكفيهم من هذا القلق، خاصة بعد تفجير الضاحية الجنوبية الإرهابي الأخير.
اللبنانيون من أكثر الشعوب العربية غراما بالإشاعات والتقويمات، وبين الأربعة ملايين لبناني هناك أكثر من ستة ملايين محلل سياسي، أضيف إليهم مليون محلل سوري لاجئ، وعشرات الآلاف من اليمنيين الحوثيين وأنصار الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، الذين تزدحم بهم بعض فنادق العاصمة، والكل يدلو بدلوه، ويطرح نظرياته حول التطورات العالمية، ابتداء من أوكرانيا، ومرورا بالانتخابات الأمريكية، وانتهاء باتفاقات «سايكس بيكو» جديدة، لتعديل القديمة، بعد انتهاء عمرها الافتراضي، ومرور مائة عام بالتمام والكمال على تطبيقها بعد الحرب العالمية الأولى.
مصدر لبناني، أثق في دقة معلوماته، أكد لي أمرين رئيسيين: الأول يقول إن من يقبل بالسيد فرنجية سيقبل حتما بالعماد عون، والمسألة مسألة بضعة أشهر فقط، إذا كان هناك مناخا فعليا لتسوية الأزمة الرئاسية اللبنانية، والثاني أن علينا الانتظار حتى آب (اغسطس) المقبل لنعرف ماذا سيحصل في المنطقة، انفجار وحربا إقليمية، أو تسوية سياسية حقيقية تشمل جميع الملفات دفعة واحدة، وسألته بخبث عن أي الاحتمالين يرجح؟ فصمت ولم يجب، ولكنني أحسست بأنه يرجح الاحتمال الأول، أي الانفجار العسكري الكبير، دون أن يقول ذلك صراحة.
التحذير الأمريكي الرسمي للأمريكيين بمغادرة لبنان فورا، يؤكد أيضا احتمال الانفجار القادم، وتلكؤ السيد نبيه بري في قبول الدعوة السعودية لزيارة الرياض التي حملها إليه السفير السعودي في بيروت علي عواض عسيري، تصب في محصلة التشاؤم نفسه، وإفلاس معظم مؤسسات السيد الحريري الإعلامية والاقتصادية، والعجز عن تسديد رواتب العاملين فيها لأشهر، يحمل معاني كثيرة لبنانيا وسعوديا.
مع كل ما تقدم ما زالت مطاعم لبنان ومقاهيه تستقبل الزبائن، والطائرات اللبنانية القادمة من مختلف أنحاء المعمورة تفرغ جوفها من الزائرين الكثر، وتلمح بين الحين والآخر دشداشة خليجية هنا، وشماغا أحمر هناك، والبلاد تسير بدون رئيس، وبمجلس وزراء انتقالي مؤقت، أفضل مما لو كان فيها رئيس فعلا، ولا أحد يملك إجابة حول السر الذي يفسر ذلك، وإن كان الاحتمال الأبرز هو عبقرية الشعب اللبناني، وقدرته الفائقة على التعايش مع مكوناته، وكل الظروف الأخرى، ومع ذلك يظل السؤال الأبرز الذي يطرحه عليك اللبنانيون، جميع اللبنانيين هو: «شو رأيك أستاذ في هناك حل، وكيف شايف لنا الوضع؟».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى