عن احتجاجات روسيا
مروان قبلان
يواجه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عامه الأصعب ربما في السلطة، منذ أقام غير مبارح فيها قبل أكثر من عقدين. من حينها، لم يترك بوتين طريقة للتمسك بالسلطة إلا واستعملها. مع نهاية ولايته الثانية عام 2008، احتال على الدستور، فتبادل المواقع مع رئيس حكومته السابق، ديمتري ميدفيدف، ليعود في 2012 رئيسا، إنما بعد تعديل دستوري زاد فيه فترة ولاية الرئيس من أربع إلى ست سنوات، ما أجاز له بالبقاء في الحكم حتى عام 2024. وفي يوليوز 2020، أدخل تعديلا جديدا على الدستور، يسمح له بتصفير عدد ولاياته، بحيث يمكنه البقاء في السلطة، إذا شاء 12 سنة أخرى، أي حتى العام 2036. وقد قرن بوتين التعديلات الدستورية بحزمة من المكتسبات الاجتماعية، ما سمح بتمريرها بنسبة 76 في المائة من الأصوات. فوق ذلك، لم يترك بوتين معارضا ذا حيثية إلا وحاول تصفيته، مستخدما الطريقة المفضلة للمخابرات الروسية، التي وصل من طريقها إلى الحكم، وهي التسميم، آخرها محاولة تسميم المعارض الليبرالي، ألكسي نافالني، الذي عاد الأسبوع الماضي إلى موسكو، بعد أن نجا بحياته بفضل تدخل المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، التي ضغطت على بوتين للسماح بنقله إلى مستشفى ألماني.
يحكم الرئيس بوتين، والأوليغارك المحيطون به، بمنطق نخبوي معاد بشكل مطلق للثورة، التي تعد بحسبه فعلا شعبويا، يقوم بها الرعاع وتؤدي إلى الفوضى. وخلال العقد الماضي، وضع بوتين جهدا غير قليل في إخماد أي مظهر من مظاهر الثورة، ليس في روسيا فحسب، إنما في كل مكان تستطيع يده الوصول إليه، فتحولت روسيا في عهده، إلى قائد لمعسكر عالمي معاد لأي تحرك ثوري في محور يمتد من بكين إلى كاراكاس، بعد أن كانت الداعم الأكبر له خلال الحقبة السوفياتية، فوقف في وجه «الثورات الملونة» التي اجتاحت دولا في الاتحاد السوفياتي السابق، ابتداء من الثورة المخملية في جورجيا عام 2003، الثورة البرتقالية في أوكرانيا عام 2004، إلى ثورة التوليب (أو السوسن) في قرغيزيا عام 2005، معتبرا إياها ثورات مدفوعة من الغرب، وتستهدف عزل روسيا وحصارها. ولم يكتف بوتين بمقارعة الثورات في الجوار الروسي، بل اتجه، بعد المظاهرات المعارضة لعودته إلى الرئاسة أواخر عام 2011، إلى مقارعة الثورات العربية باعتبار أن ذلك يمثل سلوكا دفاعيا ضد محاولات الغرب نقل موجة الاحتجاجات العربية إلى روسيا. لكن ذلك كله لم يجد، على ما يبدو، نفعا في منع رياح التغيير التي عادت تهب على موسكو مع المظاهرات التي رافقت عودة نافالني، الأسبوع المنصرم.
وعلى الرغم من أن الاحتجاجات بحد ذاتها لا تعد أمرا غير مألوف في روسيا، إلا أن ما يميزها هذه المرة ترافقها مع ظروف محلية وإقليمية ودولية تثير قلق الكرملين. فهناك أولا إدارة أمريكية بينها وبين بوتين ود مفقود، وتسعى، فوق ذلك، إلى الانتقام من تدخله في انتخابات 2016، لا بل يرى بعض أركان إدارة بايدن أن روسيا لعبت دورا مهما في وصول ترامب إلى الحكم، قبل أربع سنوات. من هذا الباب، تخشى موسكو من تدخلات أمريكية واسعة للتأثير في نتائج انتخابات الدوما (البرلمان)، الخريف المقبل، والتي يسعى بوتين إلى حسمها في مرحلة يستعد فيها لتكريس نفسه قيصرا مدى الحياة. مبعث القلق الثاني متصل بغياب المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، عن الساحة السياسية في شتنبر، وقد شكل وجودها عامل اطمئنان لموقف أوروبي «متوازن» تجاه موسكو. وعلى الرغم من الخلافات التي برزت مع بوتين منذ أزمة أوكرانيا 2014، إلا أن ميركل ظلت تقاوم ضغوط دول شرق أوروبا وبريطانيا خصوصا لعزل موسكو، لا بل أصرت، على الرغم من الضغوط الأمريكية، على إكمال بناء خط غاز (نورد 2). يشعر بوتين الآن بقلق كبير حول قدرة خلف ميركل على مقاومة الضغوط الأمريكية، لاحتواء موسكو وعزلها أوروبيا. العامل الثالث مرتبط بانخفاض أسعار النفط وتداعيات جائحة كورونا، التي فعلت فعلها بروسيا على صعيد الصحة العامة والاقتصاد.