عمران تصرم وآخر في الغياهب
لم يُنتِج الفكر العربي الإسلامي في عهده الكلاسيكي، بين القرنين الثاني والسادس للهجرة، معرفة في مسألة التسامح أو أثرا فكريا يُرجَع إليه ويُبْنَى عليه.
ما نصادفُه في كتب الأقدمين، في هذا الباب، لا يعدو بضعة أفكار أو أقوال متفرقة في نصوص لأبي سليمان السجستاني، وأبي الحسن العامري، وأبي حيان التوحيدي، وابن باجة.. وهي – في مجموعها – لا تكون عناصر كافية لبناء منظومة في المسألة، أو حتى للقول بوجود أصول مرجعية عربية لفكرة التسامح التي نشأت في فجر العصر الحديث.
في المقابل، كان السائد في نظرة الفقهاء المسلمين إلى غيرهم من أتباع الديانات والملل الأخرى داخل الإمبراطورية الإسلامية – أكانوا من «أهل الكتاب» أو من أتباع الأديان الأخرى مثل المانوية – التشدد في الاعتراف لهم بحقوقهم الدينية المختلفة. ولقد بلغ التشدد ذاك درجة التقييد الصارم لحريتهم في بناء معابدهم، أو الترويج لأفكارهم وعقائدهم، وإلزامهم بلباس خاص يميزهم عن غيرهم من المسلمين.
أما أن يتمتعوا بالحق في الجهر بآرائهم المخالفة، فلم يكن ليدخل ضمن المباح والجائز عند الفقهاء.
ومع ذلك؛ مع هذا التشدد الصارم من الفقهاء؛ ومع اعتقاد المسلمين بأن الدين هو الإسلام، وبأن لا عقيدة تضاهيه في تمثيل الحق، إلا أن الدولة والمجتمع، بل نخب فكرية أخرى من غير الفقهاء (علماء الكلام والفلاسفة ومؤرخو الفكر خاصة)، أبدوا قدرا مذهلا من التسامح تجاه غير المسلمين.
لم تكن السلطة لتجاري الفقهاء في تشريعاتهم الصارمة تلك فلم تطبقها على «الذميين»، وعلى غير المسلمين عموما، بل استمرت تعتبرهم في ذمة المسلمين وفي حماية الإمام؛ على عادة سنها الرسول الكريم.
هكذا أمكن للأخيرين أن يعيشوا آمنين مطمئنين وسط المسلمين وفي حماية السلطة، وأن يكتبوا بحرية ويجادلوا مفكري الإسلام في شؤون لاهوتية شتى من غير أن يتعرضوا لعدوان من أحد.
بل كان علماؤهم ولاهوتيوهم يشاركون في مجالس الخلفاء والأمراء والوزراء، ويجادلون نظراءهم المسلمين من غير حرج أو خوف لما يتمتعون به من حماية السلطان لهم.
تحتفظ لنا مصادر التاريخ العربي الكلاسيكية بالكثير من الأخبار عن ظواهر التسامح تلك تجاه غير المسلمين في المجتمع العربي الإسلامي.
لكن أكثر ما يؤرخ لذلك ينتمي إلى نوعين من المصادر: كتب الملل والنحل، وكتُب تاريخ الأدب والفكر. يطالعنا في كتب الملل والنحل – من جنس ما كتبه عبد القاهر البغدادي وابن حزم وأبي الفتح الشهرستاني – كم هائل من الإفادات التاريخية عن الجدل بين علماء المسلمين وعلماء الأديان الأخرى، الذين ينتمون إلى رعية الدولة الإسلامية، في مسائل اعتقادية مختلفة ليس فيها اتفاق ولا مشتَرَكات؛ فكانت الحجة في ذلك الجدل تناظر بالحجة.
أما كتب تاريخ الأدب والفكر- من جنس كتب الجاحظ وابن قتيبة وأبي حيان التوحيدي وأبي الفرج الأصفهاني وابن عبد ربه الأندلسي وياقوت الحموي..- فتُظْهِرُنا على وجوه من الحياة الثقافية كان فيها لغير المسلمين حضور قوي ومميز: في ميدان التأليف كما في مجالس الأدب والفكر والمناظرات.
هكذا نتأدى من هذا إلى القول إن العرب والمسلمين ما فكروا في التسامح، كموضوع نظري، ولا أنتجوا في شأنه نصوصا، ولكن المجتمع العربي الإسلامي عاش ذلك التسامح، أو وجوها منه كثيرة، كواقع مادي لم يكن في حاجة إلى تنظير أو تأصيل. ولعل ذلك يكون في باب الاستثناء التاريخي في الأزمنة الكلاسيكية؛ حيث لم يكن للمجتمعات القديمة عهد بقيمة التسامح.
حين نقارن بين أوضاعنا اليوم، في المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة، وأوضاع العرب والمسلمين في العهد الكلاسيكي الحضاري، نصاب بالذهول لهول الفارق بين الحالتين على صعيد نظرة كل منهما إلى الآخر: المختلِف في الملة أو الرأي.
مجتمعاتنا المعاصرة تقع في هذا الباب، عمليا، خلف المجتمع العربي الإسلامي القديم؛ فلقد طوحتْ هي بمكتسباته القيمية كافة وآكدُها سيرة قيمة التسامح في يومياته ومعيشه.
ومقابل التسامح المهدور، وبين شقوق أطلاله، ينمو التعصب والإنكار، والأوحدية في الرأي، والنبذ والإقصاء والإلغاء، والميل إلى اغتيال المختلف – الاغتيال الرمزي والمادي – وتبديد المتعدد والمختلِف…إلخ! ولم نكن، في هذه المسيرة المديدة من التردي والانحطاط، نفقد الوقود الحضاري فحسب، بل والوقود الوجودي أيضا. وشيئا فشيئا كان الفتك بالتسامح ينتقل من حيز علاقتنا بالآخر إلى حيز علاقاتنا الداخلية؛ حيث لم يعد أحد يعترف لأحد بحق؛ وحيث السلطان للكلام الواحد يُطْلقه من ينتدب نفسه للنطق باسم الدين والجماعة!
إنها القيامة الاجتماعية والثقافية بعد فناء؛ حطام ما بعده حطام. دمرنا بأيادينا ما شاده غيرنا: غيرنا القديم وغيرنا الحديث الذي نقتات طفيليا مما يبدعه ولا نأخذ منه غير القشور مُعْرضين عن الروح!
ولأن عمراننا تهدم رُمّةً ودَرَس رسْمُه، ما من بديل سوى إقامة عمران جديد؛ وهو شأن قد يمتنع إلا إن تعمر دواخلنا بالعقل والحرية.. والإبداع.
عبد الإله بلقزيز