علال الفاسي يقول كلمة الفصل
تردد مسؤولو الإذاعة والتلفزيون في بث تصريح التقطه مندوب المؤسسة خارج مقر الوزارة الأولى. وظلوا مسمرين إلى جانب الهاتف ينتظرون رناته التي تتأخر في هكذا مناسبات. ثم صدر الأمر من وزير الأنباء أحمد مجيد بن جلون بأن لا ضرر في إذاعة التصريح الذي كان أمعن في الإصغاء إلى شريطه المسجل، واستشار من يعنيهم الأمر في قضية بهذه الأهمية.
تكثر الاقتراحات على قدر الأزمات، لكن أشد ما كان يزعج هو القول إن المغرب يجتاز أزمة سياسية. فقد تنوعت أسباب التعديلات والمناقلات التي تطرأ على الجهاز التنفيذي، إلى درجة أن وزراء لا يكملون العام الواحد، في مقابل خلود آخرين في مناصب تتغير واجهاتها وقطاعاتها فقط. وبرز من جملة الاقتراحات من يدعو إلى الاكتفاء بالفقرة الأخيرة من ذلك التصريح، والتي تؤكد أن قوى الحركة الوطنية ترفض المشاركة في حكومة مقترحة، من دون إذاعة أسباب الرفض. فيما اقترح طرف آخر حذف التصريح من أساسه والاكتفاء بمضمونه على لسان أحد المذيعين.
في خلفيات الحدث أن مشاورات بدأت بين السلطة السياسية والزعامات الحزبية في المعارضة، من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية. يا له من سحر هذه الصيغة التي كانت تتردد في كل مرة تصطدم فيها التجارب بالجدار المسدود! فقبل سبع سنوات من هذا التاريخ طافت وفود رفيعة على مقار إقامة المعارض المهدي بن بركة، تستشرف رأيه في خطة تشكيل حكومة بنفس الشعار والمرجعية. وحين قال الزعيم عبد الرحمن اليوسفي، أمام محكمة الجنايات في باريس التي كانت تنظر في تبعات ملف بن بركة، إن المسألة تتعلق بموعد غامض، ذهبت أوساط إلى الربط بين كلمة الموعد والإشارة التي صدرت إلى زعامة الاتحاد الوطني حول فوات أوان الموعد الذي لم يأت.
نحن في العام 1972، وليس مثل شهر يناير من يبعث حنين الدفء إلى سنوات الوفاق بين القصر والحركة الوطنية. كانت البداية مشجعة، وأعلن للمرة الأولى عن الاحتفال بذكرى تقديم وثيقة الاستقلال رسميا، بعد أن كانت تنسب إلى المجهول، على قاعدة «قُدمت الوثيقة.. وتضمنت الوثيقة». من دون ذكر أسماء موقعيها. غير أن الكتابات المبنية للمجهول، كما المصادر التي تحيل على تعدد القراءات، لا يعتد بها.
تلقفت زعامات الحركة الوطنية الإشارة الموحية بما يليق من تقدير واعتبار. فالصفحات الجديدة، كما القديمة، لا تطوى، إلا من خلال مبادرات تبلور الإرادة السياسية في تغيير ما كان قائما.
تلت الالتفاتة خطوة في الاتجاه الصحيح، همت الإعلان عن إجراء تعديل على دستور العام 1970، الذي ووجه برفض المعارضة، وأعلنت جبهة «الكتلة الوطنية» عن تحفظاتها، من دون اللجوء إلى المقاطعة، ما أدى إلى إرجاء الخطوة اللاحقة على مستوى تنظيم انتخابات تشريعية وبلدية. لكن هوة فتحت في الجدار عبر مشاورات سياسية، هدفت إلى إشراك المعارضة في حكومة مقترحة، على خلفية هزات عنيفة عرفتها البلاد في صيف العام 1972.
أدخل تعديل على صيغة «حكومة وحدة وطنية» واعتلت السطح فكرة مشاركة المعارضة، في ضوء مشاورات مفتوحة عرضت لأسبقيات المرحلة وسبل تعزيز الجبهة الداخلية، والبدء في تكريس نقلة نوعية، تكون بديلا مستساغا لفترة حالة الاستثناء التي فرضت في العام 1965. لكن مطالب قوى المعارضة كانت تركز على ضرورة العودة إلى الديمقراطية، وإجراء الانتخابات التي تضمن ممارسة الأمة لسيادتها عبر الاقتراع الحر النزيه.
أخفقت المشاورات في ظل غياب شروط موضوعية، وجرى الإعلان في غضون ذلك عن تعيين وزير أول من التقنوقراط، يجمع بين قربه إلى القصر وانفتاحه على المعارضة، ولم يكن غير مدير الديوان الملكي الأسبق أحمد عصمان مؤهلا لهكذا مهمة دقيقة في توقيتها وأهدافها.
أصل الحكاية أنها تخص تصريحا صحفيا ذا طبيعة خاصة. وحين غادر زعيم الاستقلال علال الفاسي مكتب الوزير الأول المعين، أدلى بتصريح مفاده أن الجبهة الوطنية ترفض المشاركة في حكومة غير منبثقة من اقتراع شعبي. قال علال الفاسي، في تصريحه، إنه يقدر مبادرة الوزير الأول، لكنه ورفاقه في الكتلة الوطنية، في طبعتها الأولى، لا يمكن أن يشاركوا في حكومة يقودها وزير أول لا سند شعبيا له، ولا يمثل إلا نفسه.
بعد حوالي عامين غيب الموت الزعيم علال الفاسي. وبعد ثلاث سنوات لاحقة نظمت انتخابات تشريعية في ظل دستور 1972. أصبح معها تجمع الأحرار، بقيادة أحمد عصمان، يحتل الصدارة بمائة وواحد وأربعين مقعدا. وشارك الاستقلال للمرة الأولى في حكومة ائتلافية، كان وزيرها الأول يتوفر على غالبية نيابية.
لا تسألوا كيف، فالمهم أن احترام الشكل أقل وطأة.. إنها «سنوات الرصاص». هل صحيح ما أسمع؟ أترك لكم الإجابة.