بقلم: خالص جلبي
ما يحدث في غزة في شتاء 2024 يذكر بما جاء في كتاب «قراصنة وأباطرة» لـ«نعوم تشومسكي»، أن قرصانا وقع في أسر الإسكندر الكبير الذي سأله: كيف تجرؤ على إزعاج البحر؟ كيف تجرؤ على إزعاج العالم بأسره؟ فأجاب القرصان: «لأنني أفعل ذلك بسفينة صغيرة فأدعى لصا، وأنت الذي يفعل ذلك بأسطول ضخم تدعى إمبراطورا». فهذه هي قصة أمريكا والعالم اليوم.
يقول «تشومسكي»: «إن جواب القرصان على الإمبراطور كان (أنيقا وممتازا)، لأنه (يلتقط بدقة العلاقة بين الولايات المتحدة ومختلف اللاعبين الصغار على مسرح الإرهاب الدولي)».
إن النموذج (الفلسطيني) و(الأمريكي) في العالم هو عصر القراصنة والأباطرة. فأمريكا هي التي أسقطت في أكتوبر 1976 م طائرة كوبية بقنبلة قتل فيها 73 راكبا، بمن فيهم كل الفريق الكوبي الأولمبي حامل الميدالية الذهبية. وأمريكا هي التي ضربت عواصم عربية بما فيها ملاجئ المدنيين، وأمريكا هي التي ألقت القنبلة النووية على هيروشيما، وأمريكا هي التي أبادت السكان الأصليين في أمريكا بالبنادق ووضعت بقاياهم في (محميات)، وأمريكا هي التي تمد إسرائيل بخيل ورجال منذ نصف قرن، بما فيها تمكينها من بناء السلاح النووي بما يهدد السلام العالمي، وأمريكا هي التي تعيق العدل العالمي بنظام (الفيتو) الذي هو الشرك الأعظم في العالم اليوم، وأمريكا هي التي انسحبت مع إسرائيل من (مؤتمر دربان)، بسبب لمس مشكلة العنصرية عام 2001. وأمريكا هي التي قامت بالانقلاب على مصدق في إيران بكلفة زهيدة من خمسة ملايين دولار، وتجنيد المرتزقة على يد الاستخبارات المركزية، ونهب إيران لفترة 28 سنة لاحقا، وأمريكا هي التي هددت (محكمة العدل الإنسانية)، في حال طلب أحد رجالها للقضاء العالمي الذي وقعت عليه 132 دولة، أنها سوف تنقذه بالقوة المسلحة. وفي مجلة «دير شبيغل» الألمانية (عدد 44 – 2001) جاء في مقالة الهندية «أراندهاتي روي Arundhati Roy»، داعية السلام، تحت عنوان «الحرب تعني السلام أو السلام هو الحرب»، ثم قامت باستعراض لائحة الحروب الأمريكية: « كوريا 1950- 1953 ، غواتيمالا 1954 و1967- 1969، إندونيسيا 1958، كوبا 1959-1961، الكونغو 1965، لاوس 1964- 1973، فيتنام 1961- 1973، كمبوديا 1969- 1970، غرينادا 1983، ليبيا 1986، السلفادور في الثمانينيات، وكذلك نيكاراغوا- باناما 1989، العراق 1991». وعلقت على أحداث 11 شتنبر أنها غيرت أمورا جوهرية خمسة: الحرية والتقدم والرفاهية والتقنية ومفهوم الحرب. لتصل إلى جملة لاذعة: إنهم يريدون منا أن نعتبر فجأة أن الخنازير أصبحت خيلا، وأن العذارى انقلبت ذكورا، وأن الحرب هي السلام. وعند ظاهرة طالبان تقول إن حرب العشرين سنة كلفت 40 مليار دولار في أفغانستان، وسبعة ملايين لاجئ ومليونا ونصف المليون قتيل، وعددا من الألغام الأرضية يفوق عدد السكان تقدر بحوالي 15 مليون لغم أرضي ضد الأفراد، يموت من انفجارها كل شهر أربعون من الأطفال. «وإذا كان التقدم والحداثة قد دخلا أفغانستان، فقد جلب التقدم على صورة مدفع فوق ظهر حمار»، فلم تعرف أفغانستان سوى صناعة الموت وانتزعت الرحمة من قلوبهم، لنكتشف بمرارة أن حرب الجهاد الإسلامية لم تكن إسلامية، بقدر أنها كانت حربا أمريكية خاضها شباب مسلمون مغفلون. حتى قال بايدن وهو ينسحب صدق من قال: أفغانستان مقبرة الامبراطوريات.
إن اللعب بالنار لا يجعل النار لعبة.
إنها لائحة للجرائم لا تنتهي على يد الإمبراطور الذي ينافقه الجميع اليوم. إنه بقدر ما توجد داخل أمريكا (حرية تفكير)، بقدر ما توجد فبركة (لحرية التعبير) كما يقول تشومسكي في كتابه «أباطرة وقراصنة»، بقدر ما يوجد قرصنة وإرهاب للآخرين خارج أمريكا، فهذه هي المعادلات الثلاث التي تحكم أمريكا. لن يكون هناك سلام أو طمأنينة، طالما كان العالم مكونا من شريحتين، مستكبرين ومستضعفين، إحداهما مكونة من 20 في المائة من الأغنياء يأكلون 80 في المائة من خيرات العالم، وطالما لا يحتكمون إلى كلمة السواء. وعندما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم رسله إلى العالم، طالبهم «بكلمة السواء» أن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله. فهذا هو التوحيد الذي جاء به الإسلام، ولكن أمريكا تريد أن تجعل من نفسها قوة فوق بشرية، تمنح وتمنع وتذل وترفع. وجرت سنة التاريخ أن الكبرياء يسبق السقوط كما جاء في الإنجيل، وأن باب (هلاك الأمم) هو إقامة الحد على الضعيف دون القوي. إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. والشريف الأمريكي اليوم لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، والضعيف العراقي يقام عليه الحد لأنه انتهك أمن العالم. إن الانتحار بسبب اليأس لا يحل مشكلة، ولكن يجب استحضار سيكولوجية المنتحر. ويذكر «نورمان فنكل شتاين»، عالم السياسة الأمريكي والناقد اليهودي، بمرارة عن أمه التي نجت من محارق النازية، أنها كانت تتمنى من كل قلبها أن لا يُبقي الروس والحلفاء حجرا على حجر في ألمانيا، وأن يقتلوا كل ألماني ويدمروا كل شيء ألماني. «إنها كانت تتمنى لهم الموت في كل ثانية من اليوم، لأنها واجهت الموت على يدهم كل لحظة من كل نهار».
نافذة:
لن يكون هناك سلام أو طمأنينة طالما كان العالم مكونا من شريحتين مستكبرين ومستضعفين إحداهما مكونة من 20 في المائة من الأغنياء يأكلون 80 في المائة من خيرات العالم