عدوى الانشقاق من الحركة الوطنية إلى الحركة الشعبية
أقرب إلى صراع المرحلة السالفة، أن حزب «الحركة الشعبية» انبثق من أفكار تم التداول فيها في أماكن لا تخلو من رمزيات. وما بين إقامة رئيس الحكومة مبارك البكاي، وبيت العامل المحجوبي أحرضان، ومسكن وزير الداخلية الحسن اليوسي، كان الدكتور عبد الكريم الخطيب يتنقل رفقة صديقه أحرضان، وهما يحملان مشروع تأسيس حزب سياسي يركز على أوضاع الأرياف أكثر من الحواضر.
سواء أكان رئيس الحكومة وقتذاك عبر عن انزعاجه من غياب الانسجام والفاعلية داخل حكومته بهذه الطريقة، أو كان وزير الداخلية يخطط للحد من النفوذ المتزايد لفصائل الحركة الوطنية، فإن تأسيس «الحركة الشعبية» سيكون إلى جانب مؤاخذات أخرى، من أسباب عزل العامل المحجوبي أحرضان من ولاية الرباط، بما تمثله من دلالات. وسيجد نفسه رفقة عبد الكريم الخطيب في زنزانة في سجن «عين قادوس» بفاس. وإن كان الراجح أن اعتقالهما ارتبط بالموقف من نقل جثمان المقاوم عباس المسعدي من مقبرة إلى أخرى في أجدير.
غير أن فكرة الاتجاه نحو عمق الأرياف المغربية أخذت من العقل الحزبي نزرا أكبر في البحث عن توازنات مفقودة. ويعزو دارسو الحركة الاجتماعية درجات هذا الاهتمام إلى خلفيات تاريخية وأخرى ميدانية. غير أن تركيز الاختيارات والمخططات الاقتصادية على الزراعة منذ السنوات الأولى في مطلع الاستقلال زاد من أهمية البادية كخزان موارد بشرية ومادية مؤثرة في النسيجين الاقتصادي والاجتماعي.
من قال إن مجال اقتسام النفوذ الحزبي بين المدن والبوادي طفا على السطح فجأة؟ وثمة وقائع تؤكد أن المسألة لم تفارق صراعات الأحزاب منذ البداية. وبالقدر الذي كانت المدن تسيل اللعاب باعتبارها مصادر نفوذ اقتصادي ومالي، يحرك البواعث الاجتماعية، كانت الأرياف تشكل معاقل نفوذ تقليدي للأعيان وكبار المزارعين وارتباطات السلطة.
لن يكون غريبا في ضوء هذا المنحى أن يتولى الإشراف على قطاع الزراعة وزراء أسسوا أحزابا سياسية أو كانت لهم انتماءات بهذا الصدد. فقد شغل أحمد رضا كديرة منصب وزارتي الفلاحة والداخلية على مشارف تشكيل «جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية»، وتولى المحجوبي أحرضان إدارة القطاع سنوات عديدة وهو على رأس زعامة «الحركة الشعبية»، ولم يترك صالح المزيلي الذي انتسب إلى تجمع الأحرار موقعه، إلا ليخلفه تجمعي آخر اسمه عبد اللطيف الغيساسي.
وعندما انشق نواب عن تجمع الأحرار لتشكيل «الحزب الوطني الديمقراطي» بزعامة النقابي محمد أرسلان الجديدي، رفعوا شعار حزب «العروبية» والدفاع عن العالم القروي، بعد أن كانت وزارة الفلاحة والإصلاح الزراعي أسندت إلى مهندس زراعي يدعى عثمان الدمناتي. ما يشير إلى أن ثنائية البادية والمدينة كانت دائما في صلب المعارك الانتخابية، أكان ذلك بدافع إيلاء عناية أكبر للعالم القروي، أم للاستفادة من مخزونه الهائل. مع أن النتيجة في المحصلة النهائية ليست مشجعة، ولازال ثلث السكان المغاربة في الأرياف وأحياء الفقر التي تطوق المدن الآهلة يعانون من بؤس وشظف العيش.
يستطيع المحجوبي أحرضان أن يكشف عن خلفيات تأسيس «الحركة الشعبية» أكثر من أي شخص آخر، بعد رحيل شركائه في التأسيس. وتبقى مسألة مزاحمة أحزاب الحركة الوطنية من بين الأهداف التي لم يتم الإعلان عنها صراحة. وكنت سمعت من أحد قيدومي الحزب الحركي، أن الاتجاه نحو إضفاء اسم «الحركة الشعبية» على الحزب الوليد، استيقت من توصيف الحركة الوطنية، ولو أن الأصل في الحراك الوطني في مراحل الصراع أنه لا يكتمل دون امتداد شعبي.
إذا كان من تنظيم حزبي ضرب الأرقام القياسية في الانشقاق والتفرعات، فالمؤكد أنه «الحركة الشعبية» الذي توالدت من رحمه حركات وتموجات، وما إلى ذلك من الانعطافات. والأمر يشير إلى حالتين، إما أن مجاله التنظيمي لا يقدر على استيعاب درجات اختلاف الرأي، وإما أنه أصيب بحساسية التفتت. والأمر متروك لأصحاب الخيمة أن يتدبروا غرس أوتادها في الأرض، كي تظل عنصر توازن سياسي في أقل تقدير.
كنت في منزل الزعيم المحجوبي أحرضان حين جاءه وزير ينتمي إلى التكتل الذي أسسه بعد إطاحته من قيادة «الحركة الشعبية» بسنوات. كان محور زيارته أنه أعلمه برحلة رسمية سيقوم بها إلى بلد إفريقي. علق أحرضان بعد مغادرته: «كلهم يأتون لطلب المشورة والنصح، وحين يشتد عودهم يغادرون الحزب». وجدت فعلا أن الوزير إياه أزاح معطف التكتل من على كتفه، ثم أصبح «مناضلا» اشتراكيا، ثم انقلب على رفاقه الجدد.
ترى لو أفصح أحرضان عن أعداد المنتسبين الذين زاروا خيمته في والماس، ثم انعطفوا بحثا عن ملاذات واقية أخرى.. كم من الأسماء ستقفز إلى الذهن؟ وما التوازن بالمناصب والألقاب، وإنما العمل المجدي النافع الذي لا يزال المغرب الآخر الذي وصم يوما بأنه «غير نافع»، ينتظر الالتفاتة.