عداؤنا واحد
حسن البصري
لمباريات الديربي بين الوداد والرجاء البيضاويين خصوصياتها الفريدة، فهي ليست مجرد مواجهات كروية يحصل فيها الفائز على ثلاث نقط، بل هي بؤر توتر تتفاعل داخلها الكثير من الحكايات والقصص التي تنم عن صراعات وأحقاد كثيرة بين مشجعين من بيت واحد ومن حي واحد ومدينة واحدة ووطن واحد وحدها الألوان مصدر اختلافهم.
ينتهي الديربي ويحصي كل طرف خسائره ومكاسبه، ويتأكد بعد انتهاء كل مواجهة أن الريادة الكروية في العاصمة الاقتصادية أصبحت بقعة متنازعا حولها، وأن أصحاب القبعات الزرق سيحلون يوما بالدار البيضاء لتنزيل ميثاق سلام بين طرفي النزاع، بعد أن عجزت مذكرة التفاهم بين رئيسي الوداد والرجاء عن نزع فتيل الصراع، وفشلت اتفاقية وقف إطلاق النار في تحقيق الهدنة بين كتائب كل فريق، وبات تسطير الحدود بين الجارين شأنا دوليا.
حين تنتهي المباراة على أرضية الملعب تبدأ مباريات أخرى في ملاعب منصات التواصل الاجتماعي. وترفع ملتمسات بجبر الضرر لعشاق أدوا ثمن عشقهم من صحتهم، في أقسام المستعجلات أجساد أنهكها الديربي وفي مخافر الشرطة كائنات تمردت على الحجر فضاقت ذرعا بمباريات بلا جمهور.
من يعتقد أن الديربي مجرد “كر وفر” وراء كرة محشوة بالهواء الفاسد فهو واهم، فكثير من الرؤساء والمناصرين والمدربين واللاعبين يقاطعونه بناء على توصية طبيب، خاصة إذا كان الوضع الصحي هشا غير قادر على مشاهدة مباريات الضغط العالي، التي تختار لها الصحافة عناوين طبية “مباراة ممنوعة على مرضى السكري”، “ديربي ممنوع على مرضى القلب”، “ديربي الأعصاب”، وهي عناوين كان من الأجدر أن تذيل بوصفة دواء، والحال أن مثل هذه المباريات ممنوعة على مرضى المسالك البولية أيضا، لأن كثيرا من المناصرين يعجزون عن التحكم في الوضوء لمدة تسعين دقيقة. أيها الديربي لقد هجروك ونفوك وشفروك (من التشفير)، وجردوك من جمهورك دون أن تفقد قوة الجذب.
في زمن كورونا انسحبت من مدرجات الملاعب كائنات عبثية تحاول أن تقنعك بأن المشجع إنسان ضائع لا معنى لسلوكه، قبل أن يتبين أن القصد ضياع مقتنياته عندما يتفاعل مع هجوم معاكس، غاب عن المدرجات دعاة التنوير والحداثة الذين كانوا يدعون الناس إلى التخلص من الثوابت ومن كراسي المدرجات عند ضياع كل فرصة.
شكرا لكورونا لأنها أقبرت دعاة العلمانية الذين يروجون لفكر يفصل الفرجة عن الدولة، شكرا لها لأنها بترت من المدرجات المغطاة آخر تيار أصولي يمنع النساء من تشجيع اللاعبين وهن يرتدين الخمار والبرقع. أما الوجوديون فيروجون فكرهم ويرددون لازمتهم “أنا أدمر إذن أنا موجود”.
مع مرور السنوات تبين أن الديربي كعيد الفطر، يحتاج إلى استنفار من نظار المملكة ومن الفلكيين، ومن رأى هلاله فليبلغ الوداديين والرجاويين، وله أجر التبليغ، لكن أمام منع الجماهير من ولوج الملاعب، زادت مخاوف جمعيات أرباب المقاهي من زحف فصائل الالتراس على المقاعد، وهواجس فرجة أشخاص نصف عراة، وهم يرددون أغاني منعت من البث، قد تحول فضاء المقهى إلى قطعة مستقطعة من مدرجات مركب محمد الخامس، مع إمكانية استعمال الشهب النارية. لذا كتبت في مدخل بعض المقاهي عبارة “المباريات عبر الأثير”، فاستبدلت التلفاز بمذياع معقم، في انتظار مباريات بلاي ستيشين.
ديربي الأمس هو عملية إحماء لكثير من السياسيين، فالرؤساء المرشحون للانتخابات لا يقبلون بغير الانتصار، لأن الترويج الحقيقي لا يتم إلا بالقدرة على ترجمة مطالب المنتخبين فوق البساط الأخضر، وليس في ردهات المقاطعات ومجالس المدن، لكن أمام كتلة ناخبة خرجت من رحم الفيراج بجرعة حقد زائدة يكون لها مفعول في أجساد الغريمين، لذا لا يسلم الديربي من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم، وتسقط أرواح المغرر بهم وتشيع جثامينهم بطقوس الشهداء ويتقبل الأهل التعازي في الموقع الرسمي للفريق.