عبد القادر الهركاسي رحالة يعيد رحلة الحج الأندلسية إلى الحياة بعد أكثر من خمسة قرون على طرد المسلمين
اخترنا السفر بالخيول إلى الحج عبر أوروبا إحياء لتاريخ الأندلس
«في هذا الحوار، يحكي عبد القادر الهركاسي، الإسباني من أصول مغربية، عن تجربة الذهاب إلى الحج انطلاقا من قرية صغيرة في إسبانيا، وصولا إلى مكة، لأداء فريضة الحج على ظهر الخيل، إحياء لتقليد الموريسكيين القدامى، قبل أكثر من خمسة قرون.
يفتخر عبد القادر بأصوله الطنجاوية، رغم أنه وُلد في إسبانيا لأسرة تحمل أصولا مغربية، إذ إن جده هاجر إلى المغرب، قبل ما يقارب قرنا من الزمان، وتزوج سيدة إسبانية وأسس عائلته هناك.
عبد القادر، اتخذ منعطفا في حياته وقرر العودة إلى المغرب ليحفظ القرآن الكريم في كُتاب بفاس، سنة 2009، ومن هناك بدأ شغفه مع المخطوطات التاريخية العربية، وتعرف على رحلات الأندلسيين والموريسكيين الأوائل إلى الحج.
التقى عبد القادر مع أستاذ إسباني في التاريخ، أعلن إسلامه واتخذ عبد الله اسما له. هذا الأستاذ نذر قبل 36 سنة أنه إذا وُفِّقَ في امتحان الأهلية لمزاولة التدريس، فإنه سوف يحج إلى بيت الله الحرام فوق ظهر الخيل تماما كما فعل مسلمو الأندلس الأوائل. وعندما تعرف على عبد القادر في سياق ترجمة مخطوط عربي إلى الإسبانية، يتعلق برياضة الصيد بالصقور، قرر الاثنان معا خوض التجربة. بعد أربع سنوات من التحضيرات، ها هي حوافر الخيل تُسمع الآن بالقرب من قرية هادئة في إيطاليا.. فالرجلان في طريقهما الآن إلى مكة!
حاوره: يونس جنوحي
من إسبانيا إلى فاس لحفظ القرآن ثم التخصص في التاريخ الاستعماري للمغرب
قبل أن نخوض في سياق فكرة الذهاب إلى الحج على متن الخيل، سيرا على عادة الأجداد. من يكون أولا عبد القادر الهركاسي؟
+أنا إسباني أنحدر من أصول مغربية. وُلدت في إسبانيا، في مدريد تحديدا، وترعرعتُ في گرانادا. إلا أن التربية على اللغة العربية وتعاليم الدين الإسلامي كانت دائما أولوية، ولهذا السبب اتجهتُ إلى فاس ودرستُ في «كُتاب أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها»، وهو مدرسة قرآنية.
في أي سنة خُضتَ هذه التجربة؟
+درستُ في فاس من سنة 2009 إلى سنة 2014.
للتوضيح فقط، هل أنت ابن مهاجرين مغربيين إلى إسبانيا؟
+والدي إسباني، لكن والده وُلد خلال فترة الاستعمار الإسباني لشمال المغرب، سنة 1932 تقريبا. وبحكم سياق وظروف الاستعمار الإسباني، فقد كانت لديه وثائق ثبوتية إسبانية، وقرر أن يهاجر إلى إسبانيا وتزوج هناك بسيدة إسبانية، وهكذا فإن والدي إسباني مغربي. أما والدتي فهي مغربية تنحدر من طنجة، وهاجرت إلى إسبانيا.
هل تجربة الدراسة في فاس ركزت فيها على تعلم اللغة العربية؟
+لا، اللغة العربية أتقنها قبل ذلك التاريخ. رحلتي إلى فاس كان الهدف الأساس منها هو حفظ القرآن الكريم بالطريقة التقليدية. وتسجلتُ خلال فترة إقامتي بفاس، في جامعة القرويين، وكنت أدرس فيها علوم اللغة العربية، والفقه، والسيرة، والعقيدة. لكن همّي الأكبر كان حفظ القرآن الكريم كاملا.
بعد ذلك، بمجرد ما أن انتهيتُ من الدراسة في فاس، وتخرجت من القرويين، حتى اتجهت صوب بريطانيا، واستقررت في لندن، لمتابعة الدراسة في شعبة الدراسات الإسلامية، وبعد حصولي على الإجازة الجامعية، واصلتُ تعليمي، في لندن دائما، ودرست «ماستر» في تاريخ المغرب خلال عهد الاستعمار.
قصة اللقاء بالأستاذ الإسباني المُسلم صاحب فكرة السفر بالخيل
كيف جاءت فكرة الحج من إسبانيا ركوبا على الخيل؟
+أولا، لم يسبق لي أبدا التوجه إلى الحج. هذه أول رحلة لي إلى الديار المقدسة. أما الفكرة، فقد جاءت في سياق اشتغالي على ترجمة من اللغة العربية إلى الإسبانية، لكتاب يتناول علم الصيد بالصقور.
الكتاب قديم؟ يعني هل يتعلق الأمر بمخطوط؟
+مؤلف الكتاب اسمه علي الأسدي، وقد كتبه سنة 1167 ميلادية تقريبا. وهناك نسخة منه في مكتبة «الإيسكوريال» في مدريد. وقد واجه الباحثون صعوبة شديدة في ترجمة هذا الكتاب.
تقصد المخطوط؟
+نعم، واجهوا صعوبة في فهم الخط. واتصلوا من مدريد بجامعات أخرى، لكن لم تتم عملية الترجمة. وبحكم أنني درستُ في فاس، فقد كنت متآلفا مع الكتابة بالخط أثناء نسخ السور القرآنية لاستظهارها على اللوح، حسب الطريقة التقليدية. وبالتالي فقد تمكنتُ من قراءة مضمون المخطوط، وبالتالي الاشتغال على ترجمة له إلى الإسبانية.
وهكذا بدأتُ عملية الترجمة مع باحث إسباني، اعتنق الإسلام، وكان اسمه «رافاييل هيرنانديز مانشا»، وبعد إسلامه صار اسمه عبد الله.
عبد الله أسلم قبل 36 سنة تقريبا، وقبل إسلامه كان قد زار المغرب في إطار بحثه الأكاديمي في موضوع الصيد بالصقور وزار قبيلة مغربية معروفة بهذا النوع من الرياضة، في نواحي مدينة الجديدة إن لم تخني الذاكرة، وهناك تعلم الصيد بالصقور. والرجل الذي كان يُشرف على تعليمه، تحدث له عن الإسلام، وكان يُصلي في حضرته، وتأثر بهذه التجربة، وعندما عاد إلى إسبانيا اعتنق الإسلام.
وهو رفيقك الآن في تجربة الحج، صحيح؟ أخبرني كيف تبلورت الفكرة لديكم؟
+قبل أن يعتنق الإسلام بفترة قصيرة، وكان هذا أواخر الثمانينيات. سنة 1988 تقريبا، كان بصدد اجتياز امتحان لكي يتخرج أستاذا في مادة التاريخ. وأخرج مُفكرته وكتب فيها نذرا. لقد نذر على نفسه، أنه إن وُفق ونجح في الامتحان، فسوف يعتنق الإسلام، ويحج كما كان يحج الأجداد الأندلسيون.
والآن يوفي بهذا النذر. لكن كيف قررت أنت خوض التجربة؟
+نجح فعلا عبد الله في هذا الامتحان، واشتغل لسنوات طويلة في التعليم، فقد كان أستاذا لمادة التاريخ في السلك الثانوي، ويحمل شهادة الدكتوراه في تخصص الجغرافيا. وظل ذلك النذر حبيس صدره، إلى أن تعارفتُ معه.
تقصد عندما اشتغلتما على ترجمة الكتاب المتعلق بالصيد بالصقور، صحيح؟
+نعم، بالضبط.
متى كان هذا الأمر؟
+قبل ست سنوات، سنة 2018. وبحكم أن الترجمة كانت صعبة للغاية، واستغرقت منا اجتماعات وجلسات مطولة، سمحت بأن نتعارف جيدا، ليخبرني في أحد الأيام بقصة النذر، وأخبرني بالتالي: بحكم أننا معا نشتغل جيدا ونتفاهم بخصوص الترجمة والأفكار. فقد فكرتُ في أن نخوض الرحلة أنا وأنت.
فكرتُ قليلا، وتوكلتُ على الله. وقلتُ له: بسم الله.
بهذه البساطة؟ لم تتردد؟
+الفكرة كانت مُلهمة، خصوصا وأنني مولع بالتاريخ. ثم إن عبد الله كان جادا في الفكرة، وليست مجرد مغامرة غير محسوبة.
الإعداد للرحلة استمر 4 سنوات من التدرب على ركوب الخيل
كيف بدأتم الإعداد للرحلة؟
+أول ما بدأنا به هو التدرب على امتطاء الخيول العربية الأصيلة، واقتنينا زوجين من الخيل كبداية.
التخطيط انطلق منذ أن طرح عليّ عبد الله الفكرة، لكن البداية في التدرب على ركوب الخيل كانت سنة 2021، وانتهى التدريب في هذا العام.
أين خضتم التداريب؟
+ في مختلف مناطق إسبانيا، لكي نتآلف مع قطع المسافات على ظهر الخيل، ونحدد احتياجاتنا ونكتسب التجربة.
احك لنا عن الصعوبات التي واجهتكم. لا شك أن العملية لم تكن سهلة.
+صحيح. من أبرز الصعوبات التي واجهتنا معا، أننا صادفنا أثناء التدريب، فصل الصيف، خصوصا مع ارتفاع الحرارة في جنوب إسبانيا، حيث لم نكن نجد الماء للخيول. ومن الصعوبات التي واجهتنا أولا، إيجاد أماكن للنوم، سواء لنا أو للأحصنة.
لأننا في بداية سفرنا، لم نكن نعرف مقدار المسافة التي سوف نقطعها خلال اليوم. ولا أين سوف يُدركنا المساء لتحديد مكان المبيت. هذه أمور كلها تعلمناها مع التجربة، إلى أن صارت اعتيادية.
ما هي المسافة التي تقطعونها يوميا؟
+ما بين 30 إلى 50 كيلومترا خلال اليوم الواحد.
عندما يحين وقت الظلام، ونصل إلى قرية ما، فإن أول ما نقوم به أن نسأل الناس ما إن كان بمقدورنا قضاء الليلة هناك. كان همنا تدبر مكان لمبيت الأحصنة أولا، أما نحن الاثنان فقد كنا ننصب الخيمة ونقضي الليل داخلها.
فترة التدريب اقتصرت على إسبانيا فقط؟
+نعم، لكنها كانت مهمة وحاسمة.
طيب، احك لنا عن الإجراءات الأخيرة التي جرت قبل انطلاقكم في الرحلة.
+وضعنا لائحة بالأغراض والأدوات الضرورية التي يجب اقتناؤها، سواء لنا أو للأحصنة. التدريب وفر لنا فرصة ثمينة لتحديد هذه الأمور.
وقررنا أن تكون هناك سيارة ترافقنا طوال الرحلة إلى الحج، لكي تنقل لنا المعدات والمستلزمات الضرورية والمواد الغذائية، وحتى علف الخيول.
وقد تعطلت يوم الثلاثاء ونحن في قلب إيطاليا، لكن وضعنا مثل هذه الحوادث في الاعتبار.
وضح لنا موضوع هذه السيارة. من يتولى قيادتها، وهل سوف ترافقكم إلى الحج، أم أنها مؤقتة فقط؟
+يتعلق الأمر بالأخ بوشعيب، وهو مغربي من سطات. يرافقنا منذ بداية الرحلة وسوف يحج معنا. هو الذي يتكلف بالتبضع وشراء الأطعمة من المدن القريبة، ويسبقنا كل يوم إلى القرية المحددة التي سوف نقضي فيها الليلة، ويعد للتخييم، ويسأل عن أنسب مكان للمبيت، وننسق بيننا هاتفيا. بينما نحن نقطع المسافة اليومية على ظهر الخيل.
رحلة الحج إحياء لتجربة موريسكيين انطلقا إلى مكة من الأندلس قبل 533 عاما
هل بحثتم قبل الرحلة في المخطوطات القديمة التي تناولت موضوع الحج من الأندلس، أم اعتمدتم بشكل مباشر على الخرائط والتكنولوجيا الحالية في تتبع المسار؟
+اطلعنا على الخرائط القديمة ومخطوطات الرحلة الأندلسية إلى الحج.
هل يحضرك مثال على هذه الرحلات التي انطلقت من الأندلس إلى الحج؟
+هناك نموذج جيد، وهو الأقرب لنا. وهو مخطوط رحلة عمر باتون Omar Patún ومحمد ديل كورال Mohamed Del Corral. وعنوان مخطوط الرحلة: «من أڤيلا Ávila إلى مكة».
وهما معا موريسكيان، كانا يعيشان في إسبانيا تحت سيطرة النصارى، قبل سقوط غرناطة. وخاضا رحلة الحج سنة 1491 ميلادية. وكانا يعيشان في مدينتي «صوريا»، وأيضا بلد الوليد.
إذن قررتما اقتفاء أثر هذين الرحالتين؟
+كانت نيتهما الانطلاق مرورا عبر «فالنسيا»، ثم يعبران إلى شمال إفريقيا. لكن عندما ركبا البحر، سحب التيار السفينة التي كانا على متنها، في اتجاه الشمال. وهكذا انحرفا عن المسار في اتجاه أوروبا بدل أن يصلا إلى المغرب.
أي أن رحلتهما إلى الحج عبر أوروبا برا، جاءت بالصدفة ولم يكن مخططا لها.
لكن كيف جاءت فكرة التنقل على ظهر الخيول تحديدا؟ هل الأمر مقتبس أيضا من المخطوط؟ لماذا لم تذهبا أنتما أيضا بحرا؟
+كما تعلم، للخيل دلالة في ديننا الإسلامي. والخيل مرتبطة بتاريخ الإسلام. لا يمكن أن نستعمل الجِمال في التنقل، لذلك التزمنا بركوب الخيل. ومن الأقدار أن المنطقة التي كنا فيها في إسبانيا، كانت توجد بها مزرعة للخيول العربية الأصيلة المشهورة بالقدرة على التحمل. وقد أدركنا أنه لم يكن سهلا اختيار هذه الخيول. إذ هناك سلالة تعكس جمال الخيل العربي ولا تصلح للسفر والمشقة. وهناك سلالة خيول أخرى خاصة بالسباق والسرعة، وهي غير مناسبة للرحلة. ثم هناك النوع الذي اخترنا اقتناءه، وهو يجمع بين القوة والقدرة على التحمل وقطع المسافات الطويلة بسرعة متوسطة.
المهم، هناك تفاصيل كثيرة بخصوص أنواع الخيول.
°°°°°°°°°°°°°°°°°°°
اخترنا السفر من أوروبا برّا بسبب مشكل الحدود مع الجزائر
طيب، لكن لماذا لم تسافرا بحرا أنتما أيضا؟ قلت إن المخطوط الذي اطلعتم عليه كشف أن الرحلة كانت بحرية بالأساس، للوصول إلى شمال إفريقيا، ثم صارت برية.
+لا تخفى عليك مسألة الحدود، خصوصا بين المغرب والجزائر. والآن أقول لك بصراحة، ونحن على مشارف الانتهاء من مرحلة قطع إيطاليا في هذه الرحلة. لو اتصل بنا أحد ما، وأخبرنا أنه سوف يُسمح لنا بالعبور من المغرب ونقطع الجزائر بخيولنا ونسلك الطريق البرية القديمة لشمال إفريقيا وصولا إلى مصر، فسوف نستدير، ونعود أدراجنا فورا، ونقطع البحر إلى المغرب لكي نبدأ المسار الآخر.
الرحلات التاريخية القديمة، قبل قرون خلت، كانت تتم بهذا الشكل. المغرب كان دائما رئيسيا في رحلات الحج. أما السفر عبر أوروبا فلا يخلو من صعوبات، خصوصا خلال فصل الشتاء كما تعلم.
بالعودة إلى زمننا الحالي، هل تشاورت مع متخصصين، أو رحالة حاليين قبل خوض الرحلة؟ وتحديد التكلفة مثلا.. إلى غير ذلك.
+التدريب الذي خضناه وفر لنا كل هذه المعلومات التي قد نحتاج إلى استشارة أحد بشأنها. أتحدث عن فترة تدريب استغرقت منا قرابة أربع سنوات. أي أنها وفرت لنا الفرصة الكافية للإحاطة بما ينتظرنا من صعاب وتحديات، وما نحتاجه خلال الرحلة.
هذا من جهة. من جهة أخرى، ليست هناك تجارب حالية مثل تجربتنا.
هناك تجربة تعود إلى فترة الثمانينيات من القرن الماضي، وخاضها مواطن إيرلندي، خرج من بلده إلى القدس على ظهر الخيل، وقد كان ينوي إعادة مسار الرحلات الصليبية. وأتوفر حاليا على نسخة من كتابه، اسمه Tim Severin. وعنوان كتابه: «رحلة صليبي على متن الخيل إلى القدس»، وقد ألفه سنة 1987.
°°°°°°°°°°°°°°
قطعنا 2000 كيلومتر حتى الآن ومتفائلان بنجاح الرحلة إلى مكة
لنركز الآن على رحلتك إلى الحج، احك لنا عن أجواء الانطلاقة.
+خرجنا من قرية «آل موناستير»، وهي في إقليم «ويلبا».
لماذا هذه القرية تحديدا؟
+نظرا إلى رمزيتها، فهذه القرية الإسبانية يوجد بها أقدم مسجد في إسبانيا على الإطلاق. لا أتوفر على كافة المعلومات المتعلقة به، لكن يمكن مقارنته بمسجد قرطبة الشهير. ولا يزال هذا المسجد موجودا وقائما إلى الآن، لكن لا يتم استعماله للصلاة.
حسنا، احك لنا الآن عن أجواء الانطلاقة، وعن مشاعرك في تلك اللحظات.
+طبعا مشاعري لا يمكن وصفها، اختلط فيها الحماس مع الحرص. انطلقنا يوم 13 أكتوبر 2024، والرحلة الآن (يقصد يوم الخميس 19 دجنبر الحالي) انطلقت من قرية «بيستاگنو».
لاحظتُ أنكم في مساركم تتبعون دائما القرى وليس المدن أو الطرق الكبرى.
+هذا راجع إلى الابتعاد عن الازدحام، وإيجاد أفضل الأماكن للتخييم.
إلى حدود الآن، كم قطعتم من مسافة إجمالي الرحلة؟
+الآن قطعنا 2000 كيلومتر.
بعد قطع هذه المسافة، هل ترى أنكما قادران على مواصلة الرحلة والوصول إلى مكة؟
+بحول الله نستطيع.
نتحدث عن حوالي 20 بالمائة من المسافة المطلوبة. صحيح؟
+تقريبا 20 بالمائة، وأرى أنه يمكننا مواصلة الرحلة. لا أملك إلا أن أقول: «الله كريم». إذا توفرت النية الصالحة، ووضعت الله في قلبك، سوف تصل بكل تأكيد.
صف لنا مشاعرك في اللحظات الأولى للرحلة.
+طيب. شهران قبل موعد الانطلاق، اقتنينا كل ما ينقصنا من مستلزمات. وبدأنا نجري اجتماعات أسبوعية، مرة أو مرتين في الأسبوع، ونخطط ونتحدث ونتشاور لتحديد المسار. وفي هذه الاجتماعات قررنا اتخاذ مسار بري في أوروبا بدل التنقل عبر شمال إفريقيا.
ولا أريد هنا أن تفوتني الإشارة إلى أننا كنا في البداية أربعة فرسان.
تقصد مع احتساب السيد بوشعيب المكلف بالسيارة؟
+باحتساب سي بوشعيب يكون عددنا خمسة أفراد.
ما وقع أننا عندما وصلنا إلى جبال الحدود بين إسبانيا وفرنسا، اضطر أحد الفرسان إلى الانسحاب، لأن الخيول التي كانت بحوزته لم تتحمل، خصوصا أن قامته فارعة، وبالتالي لم تتحمل وزنه لمسافة طويلة.
كم عدد الخيول التي بحوزتكم؟
+نحن ثلاثة فرسان الآن، ولدينا أربعة خيول. أي أننا نستعمل ثلاثة، والحصان الرابع يسير معنا دون أن يركبه أحد، لكي يحظى كل حصان بمرحلة استراحة بالتناوب.
نقطع يوميا 40 كيلومترا في المتوسط.
°°°°°°°°°°°°°°°°°
إسباني عرض علينا المبيت بفندقه تجنبا لسيول إسبانيا واكتشفتُ أن أصله مسلم
انطلقتم يوم 13 أكتوبر، أي أنكم حتى الآن توقفتم في عدد من القرى والمناطق. هل هناك أسباب لاختيار المرور عبر قرية دون غيرها؟
+نمر عبر طرق تؤدي إلى قرى تاريخية. بدأنا بطريق ومسار طويل يُسمى بالإسبانية Ruta de la Plata، وتعني طريق الفضة. وهو طريق تاريخي، وهذا الطريق يمر عبر قرى تاريخية.
لكن أصل هذه التسمية لا يرمز إلى الفضة ولا علاقة له بها. لا يخفى عليك طبعا أن الأندلسيين مغاربة، ويتشاركون مع المغاربة في كثير من الصفات. وقد أطلقوا على الطريق هذا الاسم الإسباني عبر التاريخ، ليس نسبة إلى الفضة، وإنما إلى كلمة عربية هي «البلوطة»، أي أن هذا الطريق كان يمر بمحاذاة غابات البلوط. وجرى تحريف الكلمة مع الزمن، من «بلوطة» لكي تصبح «Plata»، أي الفضة باللغة الإسبانية. هذا هو أصل التسمية.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الطريق التاريخي ينتهي في إسبانيا، ليبدأ مسار آخر عبر المسالك الجبلية والقرى التاريخية، وفي فرنسا يتحول المسار إلى محاذاة البحر، عبر الجنوب. وهو الطريق التاريخي الذي كان يسلكه الحجاج الأندلسيون لكي يركبوا البحر من هناك ويقطعوا البحر المتوسط. ويتخذوا طريقهم البري إلى مكة.
هل لك أن تقربنا من المسار الذي وضعتموه للرحلة من القرية الإسبانية وصولا إلى مكة؟
+إسبانيا، فرنسا، إيطاليا، سلوفينيا، كرواتيا، البوسنة، كوسوفو، مونتينيغرو، بلغاريا، اليونان، تركيا. ومن تركيا سوف نركب الباخرة بحول الله إلى مصر، بمعية خيولنا بطبيعة الحال. ومن مصر سوف نعبر بور سعيد، ونمر بمحاذاة البحر الأحمر، إلى أن نصل إلى مرفأ بحري هناك اسمه «بورت غالب». وصولا إلى ينبع، ومنها إلى المدينة المنورة، ومنها إلى مكة بحول الله.
لا شك أنك تستحضر الآن مشاهد ومواقف أثناء الطريق عبر القرى. هلا تشارك معنا بعضا من هذه التجارب الإنسانية؟
+سوف أحكي لك واقعة عجيبة. كنا نسير بالقرب من مدينة «أڤيلا»، وهي مدينة تقع وسط إسبانيا، مررنا بمحاذاتها عبر الطرق الترابية والثانوية. وعندما وصلنا إلى نقطة معينة، اكتشفنا أن أحد المزارعين قد أحاط تلك الأرض، رغم أنها طريق حسب ما تنص عليه الخريطة، بسياج. أي أننا لكي نعبر، لا بد أن نستدير حول تلك المنطقة، وهو ما يكلف الجهد والوقت.
وهو ما سوف يؤخر وصولنا إلى القرية التي كان مخططا أن نبيت فيها. وعندما بحثنا في الخريطة، اكتشفنا أن هناك قرية أخرى، أقرب للموقع الذي نحن فيه، وقررنا أن نقصدها للمبيت. وجدنا كنيسة قديمة، وخارجها توجد حديقة، وبدا لنا أنها مناسبة لمبيت الأحصنة، على أن نضرب خيمتنا هناك ونقضي ليلتنا أيضا.
وبحكم أن القرية كانت صغيرة جدا، وعدد سكانها لا يتجاوز العشرين نسمة، فقد توقعنا أنه لا بد أن يأتي أحد ما لكي يسألنا عن سبب توقفنا قرب الكنيسة. وقررنا ألا نخبرهم بنيتنا الحقيقية وأن نكتفي بالقول إننا «حُجاج» فقط.
لماذا؟
+أنت تعلم، هناك عنصرية في هذا الجانب. وإذا أخبرناهم بنيتنا الحقيقية وهي الوصول إلى مكة، قد يكون لديهم تخوف، بحكم أننا مسلمون ونرغب في قضاء ليلتنا قرب كنيسة.
عندما حل وقت صلاة المغرب، جاءت سيدة مع ابنها بالقرب من المكان الذي توقفنا فيه. وقررت أن أتوجه نحوهما وأخبرهما أننا ننوي فقط قضاء الليلة هنا، وسوف نرحل في الصباح الباكر.
حرصنا على أن نؤدي صلاتنا خلف السيارة، حتى لا نثير فضول السكان المحليين.
وعندما كنا داخل الخيمة لقضاء الليلة، سمعنا وقع أقدام، وخرجنا لنستكشف ما يقع. ووجدنا رجلا إسبانيا ألقى علينا التحية بالإسبانية. وسألنا ما إن كنا سوف نقضي الليلة هنا. وعندما أجبته بالإيجاب، قال لنا: «اسمحوا لي لا يمكنني ترككم تقضون الليلة هنا».
وقبل أن يخيب أملنا، واصل كلامه: «لدي فندق صغير لا يبعد عن هذا المكان، ولدي 3 غرف شاغرة حاليا. ولن أدعكم تقضون الليلة في هذا الحقل المفتوح، فهناك عاصفة عنيفة سوف تضرب هذه الليلة. لقد جئتُ قبل قليل لكي أخبركم بهذا الأمر، لكني رأيتكم تصلون وقررت العودة إليكم لاحقا». عرض علينا المبيت في فندقه بالمجان.
نسيتُ أن أشير إلى أن فترة السيول التي تضررت منها بعض المناطق في إسبانيا تزامنت مع رحلتنا، وقد شكلت هي الأخرى صعوبة أمامنا.
عندما ألح علينا في الطلب، وافقنا في الأخير على مرافقته إلى الفندق.
عندما رأينا صنيعه معنا، سألناه عن اسمه وهنا كانت المفاجأة. لقد كان اسمه «فيرناندو»، واسمه العائلي «Alfayate».
وبحكم اطلاعي على تاريخ الأندلس وتاريخ العائلات الموريسكية، فقد أدركت فورا أنه ينحدر من مسلمي الأندلس.
قلتُ له بالإسبانية: «أنت مورو»، وأنت تعلم أن كلمة «مورو» تثير الحساسية في إسبانيا، لأنها تحمل أبعادا عنصرية. وأصل اسمه العائلي هذا هو كلمة «الخياط». وقد جرى تحويرها مع مرور الزمن لكي تصبح «ألفاييتي». والخلاصة أن أصول هذه الرجل أنه مسلم، وهو طبعا لا يدري هذا الأمر. وتصرفه معنا ليس إلا تأكيدا على هذه الحقيقة التاريخية.
هذا الموقف أثّر فيّ كثيرا في الحقيقة.
ما هي التخوفات التي لديك الآن؟ أنت تعلم، موسم البرد القارس على الأبواب، وأنتم لا تزالون في القارة الأوروبية. أليس لديكم تخوف من الثلوج؟
+لدينا تخوف من الثلوج صراحة، خاصة عبر البلقان، لأنها منطقة جبلية وصعبة، وتصل طبقة تساقطات الثلوج فيها إلى سُمك متر ونصف المتر.
لكن بحول الله، عندما نصل إلى البوسنة، سوف نجد مسلمين كثرا هناك، وبحول الله سوف يرحبون بنا بدون شك.
أثناء مواكبة رحلتكم على «إنستغرام»، لاحظتُ وجود بوابة مفتوحة للتبرع لصالحكم، سوف تُغلق يوم 31 دجنبر. هل لديكم مشاكل في التمويل؟
+كل المعدات التي اشتريناها، من مالنا الخاص، وليس لدينا أي ممول، ولا تدعمنا أي شركة. هذه الرحلة نمولها من مالنا الخاص. وباب التبرع فتح فقط لجعل الرحلة تمر في ظروف أحسن، ونفكر في تمديد فترة التبرع بعد 31 دجنبر.
وأختم بالقول إن الحج على ظهر الخيل إحياء لتاريخ عريق من هذه الرحلات. حتى أن أشهر رحالة مسلم وهو ابن بطوطة بدأ رحلته الشهيرة التي امتدت لسنوات طويلة، من رحلة الحج، ثم تطورت لتشمل دول آسيا ويصبح أشهر رحالة عالمي.