شوف تشوف

الرأي

عبثية الحرب

بقلم: خالص جلبي

يبدو أن الضحية أخذت دور الجلاد مجددا ودخل أهل غزة في الهولوكوست، وهو يذكر بما حصل لليهود في بولندا خلال الحرب العالمية الثانية. ولكن لن يطول قدوم ذلك اليوم، حين يقف الناس في المتحف مشدوهين، يتأملون فوهات المدافع، أو أصناف الأسلحة التي لا تنتهي، والتي صممت بعناية من أجل الفتك بالإنسان! سوف يتعجبون من نوعية ذلك الإنسان البدائي (القاتل)، الذي راهنت الملائكة على فساده بسؤالها، «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون». سوف يأتي ذلك اليوم الذي ينظر البشر إلى الحرب والضرب والمعارك والأسلحة والفتك والجريمة، كما ننظر نحن اليوم إلى الديناصورات التي اختفت من وجه اليابسة.
وإذا كانت الديناصورات قد غيبها الثرى قبل 65 مليون سنة، وإذا كانت الحياة قد بدأت قبل 3,8 مليارات سنة، وإذا كان أمام الحياة أن تتابع سيرها في الأرض 500 مليون سنة أخرى.

صلح وستفاليا
قد نتحسر أننا ولدنا مبكرين للغاية، لأن التاريخ (الفعلي) للإنسان لما يبدأ بعد! هذا الحديث يحرك عندي الذاكرة التاريخية عن صلح وستفاليا وحرب الثلاثين سنة؛ فعندما كنت في ألمانيا الغربية (سابقا) أعمل في مركز لجراحة الأوعية الدموية بمنطقة (وستفاليا)، وينطقها الألمان (فيستفالن)، وكان ترخيص مزاولة المهنة يصدر من مدينة (منستر)، لم يكن يخطر في بالي مطلقا أن هذه المدينة تحمل (ختما) لعهد مريع ودعته ألمانيا في القرن السابع عشر، حين تم توقيع معاهدة (صلح وستفاليا) عام 1648 م التي ختمت حربا ضروسا استغرقت ثلاثين عاما.
اندلعت هذه الحرب المروعة ببدايات بسيطة وتنافسات تافهة بين أمراء الإقطاعيات، ولم يكن يخطر في بال أحد أنها ستكون كما قال الشاعر العربي امرؤ القيس قديما:
أولُ ما تكون الحرب فُتيةٌ // تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا حميت وشُب ضِرامها // غدت عجوزا غيرُ ذات حليل
شمطاء جزت رأسها وتنكرت // مكروهة للشم والتقبيل.
اشتركت في هذه الحرب جيوش شتى، ألمانية، سويدية فرنسية، هولندية وإسبانية ودانمركية، وتطاحنت مذاهب متفرقة من كاثوليك وبروتستانت وكالفانيين، ودُمرت الأرض الألمانية شر تدمير، وقضى نحبهم حوالي ستة ملايين من أصل 21 مليونا، أي مات حوالي ثلث السكان، وبالطبع من الشباب، ففي الحرب تنقلب الآية فيدفن الآباء أبناءهم، لا كما هي سنة الحياة بدفن الصغار آباءهم الكبار المسنين! ولم تقم لألمانيا قائمة إلا بعد قرن من هذه الحرب الأهلية المدمرة. جاء في كتاب «قصة الحضارة» لويل ديورانت:
«تناقص عدد سكان ألمانيا بسرعة أثناء الحرب، وتقول التقديرات المعتدلة إن عدد سكان ألمانيا والنمسا هبط من 21 إلى 15 مليونا، وبين 35 ألف قرية في (بوهيميا) هناك نحو 29 ألف قرية هجرها أهلوها أثناء الصراع، وهناك في مختلف أنحاء الإمبراطورية مئات من القرى لم يبق فيها ساكن واحد، وقد يقطع المرء في بعض الأقاليم 60 ميلا دون أن يرى قرية أو بيتا، وتُركت آلاف الأفدنة الخصيبة دون فلح أو زرع بسبب نقص الرجال أو الدواب أو البذور، أو لأن الفلاحين لم يكونوا على ثقة من أنهم سوف يحصدون نتاج ما يزرعون، واستخدمت المحصولات لإطعام الجيوش، وكان ما تبقى يحرق لئلا يستفيد منه الأعداء. واضطر الفلاحون في كثير من الأماكن إلى أكل الفضلات المخبأة، أو الكلاب والقطط والفئران، أو جوز البلوط والحشائش، وقد وجد بعض الموتى وفي أفواههم بعض الحشائش، وتنافس الرجال والنساء مع الغربان والكلاب على لحم الخيول الميتة. وفي الألزاس انتزع المعتدون المشنوقين من المشنقة تلهفا على التهام جثثهم، وفي أرض الراين كانت القبور تنبش وتباع الجثث لتؤكل، واعترفت امرأة في مدينة (السار بروكن) بأنها أكلت طفلها. وأصبحت المدن الكبرى أطلالا خربة: ماغديبورغ وهايدلبرغ ونورمبرغ وبايرويث، وتدهورت الصناعة، وكسدت التجارة، وصار التجار الذين كانوا يوما أثرياء، يتسولون أو يسرقون ويسلبون من أجل لقمة العيش، وبات الهواء ساما بسبب الفضلات والنفايات والجثث المتعفنة في الشوارع، وانتشرت الأوبئة مثل التيفوس والدوسنطاريا والتيفوئيد والإسقربوط بين السكان المذعورين. ومرت القوات الإسبانية بمدينة ميونيخ، فتركت وراءها طاعونا أودى بحياة عشرة آلاف ضحية في أربعة أشهر، وذوت وذبلت في أتون الحرب الفنون والآداب التي كانت تضفي على المدن شرفا ومجدا، وانهارت الأخلاق والروح المعنوية على حد سواء، واختفت كل المثل الدينية والوطنية بعد جيل ساده العنف»، وكانت نهاية هذه المعاناة في عام (1648) م. وقبل فترة قصيرة قام باحث من جديد في كتاب من ألف صفحة، بتحليل تلك الحرب الضروس بين مجانين ذلك العصر.

حرب الباراغواي ضد الأرجنتين والبرازيل والأوروغواي
أما في عام (1864) م فقد بدأت كارثة لا تكاد تصدق، ولم تسلط عليها الأضواء تماما حتى الآن، وهي حرب (الباراغواي) ضد تحالف (الأرجنتين والبرازيل والأوروغواي). ومات في هذا النزاع الدموي والذي استمر ست سنوات حوالي (80 في المائة) من سكان الباراغواي، كان عدد السكان مليونا وثلاثمائة ألف نسمة، لم يبق منهم سوى 200 ألف! فهذان مشهدان من صفحات التاريخ المظلمة والمؤلمة، والسؤال: إذا كانت الحرب بكل هذه الفظاعة والقسوة، بكل هذه الآلام والخسائر، وهذا التدمير فلماذا يمارسها البشر؟
هل الحرب إفراز بيولوجي وتعبير طبيعي، أم تشكيل ثقافي ومرض اجتماعي؟

سوف يأتي ذلك اليوم الذي ينظر البشر إلى الحرب والضرب والمعارك والأسلحة والفتك والجريمة، كما ننظر نحن اليوم إلى الديناصورات التي اختفت من وجه اليابسة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى