شوف تشوف

الرأيالرئيسية

عالم السياسة الزئبقي 

 

بقلم: خالص جلبي 

 

ادعى جحا يوما الولاية، فسأله السامعون عن كرامته، فقال كرامتي أني أعلم ما في قلوبكم.. وعندما سألوه عما في قلوبهم قال: كلكم يعلم أني كذاب. 

وهذه النكتة تصلح لعالم السياسة اليوم وما يصرح به السياسيون، فالأمريكيون دخلوا العراق بكذبة كبيرة أنهم يبحثون عن أسلحة الدمار الشامل في البلاد. وصرح يومها كذاب آخر هو مارتن أنديك، في مؤتمر دولي، بأن هدف أمريكا هو بناء الديموقراطية في العراق، ولكن العراق انزلق وما زال كل يوم ينزلق أكثر باتجاه الفوضى. والهدم أسهل من البناء بما لا يقارن، وها قد حل بالعراق ما حل بالصومال بعد موت التعيس الديكتاتور زياد بري، مات عند الأعراب في عزة وشقاق. وهو أمر تنبأ به سياسي أمريكي قبل حدوثه، فقال بأن الأمريكيين قد يستقبلون بالترحاب أولا، وقد يستمر هذا 48 ساعة أو 48 يوما، ولكن بعد انقضاء الأجل سوف يحيي العراقيون الأمريكيين بالرصاص، ولكن المشكلة الأساسية لم تحل ولن تحل قبل تغير ثلاثة أجيال، هذا إذا انحلت.   

وإذا كانت الفترة بين دخول البريطانيين بغداد عام 1917 أخذت ثلاث سنوات، قبل انفجار ثورة عام 1920، فهي حاليا قد انفجرت في زمن أقصر فمات من العراقيين مئات الألوف ومن الأمركيين بضعة آلاف، كما حدث في فيتنام بموت خمسة ملايين فيتنامي و57 ألف أمريكي. ولكن مشكلة العراق أنه لم يتحرر؛ بل أضاف فوق المرض مرضا، كما جاء في محكم التنزيل: وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم. مثل مريض السرطان الذي أضاف فوق المرض الخبيث، التهاب رئة حاد.  

ومن يظن أن صدام خرج من قلوب العراقيين بعد شنقه، فهو لم يخرج بعد من قلوب العراقيين، كما حدث مع بني إسرائيل الذين أشربوا في قلوبهم العجل. وحين استمر حمل الجثث الأمريكية في نعوش، انسحبت أمريكا في زمن أوباما الذي يصلح أن يكون أستاذا في مدرسة ابتدائية، وليس قيادة أعظم دول الأرض. وكما نرى فسوف يتناحر العراقيون عشرين سنة أو ثلاثين أو أربعين أو نصف قرن أخرى، حتى لا يبق حجر على حجر. وكما بدأنا أول خلق نعيده.  

وكما بني العراق كله خطأ فوق الخطأ، فسوف يعاد ترميمه حجرا حجرا، عندما يمل العراقيون من الاقتتال. وربما يبدؤون بعد نصف قرن في بناء بلدهم، هذا إذا أحسنا الظن. واليوم في أفغانستان، بعد أن حكم قرضاي مقروضا على الأنقاض والحجارة وشيء من سدر قليل. ولكن كما يقول المثل البدوي: «يا حبذا الإمارة ولو على الحجارة». وكان الرجل يطمح إلى أن يؤسس عائلة حاكمة، فيورث الملك من بعده لابنه، وقد شق الطريق إلى ذلك الثوريون في العالم العربي، فلماذا يحرم نفسه من هذه العبقرية العربية حتى تخلص منه الأمريكان مثل أي منديل تنظيف القاذورات، وليس الوحيد.  

وأذكر من عالم السياسة وليس من عادتي الإصغاء إلى السياسيين فلا جدوى من حديثهم، ولكنني تذكرت جحا، فالرجل كان نصف أبله، نصف حكيم، يعتلي ظهر حماره وفوق رأسه عمامة كبيرة يقول ما لا يعنيه، ويعني ما لا يقول. كان في الواقع يقوم بتوزيع منشورات سرية خطيرة، ويقول للسياسيين: هل أنا الكذاب، أم أنتم؟  

وعندما أسمع من السياسيين أن دولة فلسطينية ديموقراطية سوف تقام أضحك، وعندما أسمع أن بوش كان يرسي دعائم الديموقراطية في الشرق الأوسط أضحك، في الوقت الذي أسمع أخبار الاعتقالات في الأنظمة الثورية بتوصية من أمريكا. وكما قال بعض المفكرين لقد أصبحت دعوى محاربة الإرهاب فرصة جيدة لفرض الإرهاب.  

وعندما سئل مسؤول مهم عن جامعة الدول العربية: هل ستأخذ الدول العربية بالتوصية في تبني الديموقراطية؟ قال: نعم، لأن الوضع خطير ولا يتحمل أكثر. وأنا أضحك لجهل السياسيين بأبسط قوانين علم الاجتماع. ويعجبني ابن خلدون فالرجل كان ينظر ليس بشكل طوباوي، بل إلى القوانين المحركة في علم الاجتماع.  

والديموقراطية رصيدها وعي الناس أكثر من صناديق الانتخابات، واليوم تجرى انتخابات في العالم العربي بصناديق وهمية والكل يصوِتون بنعم، وهم يعرفون أنها مسرحية للكذابين. وصدام نال في انتخابات الخريف عام 2002م مائة بالمائة في نكتة تثير القرف. وحين تكون النتيجة مائة بالمائة، فهذا يعني أن الأمور انقرضت إلى الصفر فكان احتلالها مسألة شربة ماء، في عالم ينهدم تدريجيا وينحدر إلى الظلمات.  

إنه لا يمكن لأي قوة في العالم أن تزرع الديموقراطية، ما لم توجد التربة لذلك. وهي فكرة انقلابية في علم الاجتماع، تشبه انقلابية فكرة كوبرنيكوس حول دوران الشمس والأرض. فالكل يعتقد جازما أن الحكومة تفعل كل شيء بما يعطيها صفة إلهية، والقرآن يفيد عكس ذلك بأن التغيير بيد البشر قبل الله، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وهو تصور يصيب الإنسان بالدوار بأن الحكومة لا تزيد على كوكب يدور حول شمس الأمة، وأن الكارثة ثقافية وأن أصل الاستبداد ديني، فمن يناقش أي قضية يجب عليه مواجهة الله شخصيا.  

وفي يوم كان المشركون يرددون المقولة نفسها: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون. وتخرصون تعني تكذبون أشد الكذب، بأشد من كذبة جحا في ادعائه الولاية.  

  نافذة:

لا يمكن لأي قوة في العالم أن تزرع الديموقراطية ما لم توجد التربة لذلك وهي فكرة انقلابية في علم الاجتماع تشبه انقلابية فكرة كوبرنيكوس حول دوران الشمس والأرض

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى