طيارون مغاربة دخلوا التاريخ وخلدوا أسماءهم
التحق بهم علي نجاب.. أبطال الأجواء المنسيون
«أول فوج رسمي من الطيارين المغاربة تخرج مع استقلال المغرب، في أجواء عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، ولم يكن الأمر مصادفة، وحمل الفوج اسم «فوج الملك محمد الخامس»، فيما الفوج الثاني الذي لحق به حمل اسم الأميرة لالة عائشة.
هؤلاء الطيارون المغاربة تدربوا في فرنسا والمغرب، وزاوجوا بين النظري والتطبيقي، وكانوا السلسلة التي ضمنت انتقال الإشراف الفرنسي على الطيران إلى أيدي المغاربة.
لذلك حظى الخريجون الأوائل بتقدير خاص من الملكين الراحلين محمد الخامس، ثم الحسن الثاني.
اليوم، بوفاة علي نجاب الذي ينتمي إلى جيل لاحق، عاش حرب الصحراء ووقع أسيرا لدى البوليساريو، نستدعي في هذا الملف مسارات لطيارين مغاربة بصموا تاريخنا المشترك، بداية من حدو الكحل، الذي كان أول مغربي يحلق بطائرة خلال حرب الريف، وصولا إلى جيل الطيارين الذين دافعوا عن وحدة المغرب ومجاله الجوي في الأزمنة الحرجة».
يونس جنوحي
++++++++++++++++++++++++
علي نجاب.. رحيل واحد من أعلام الطيران العسكري
رحل، الأسبوع الجاري، الطيار العسكري علي نجاب، وهو أحد الشهود على حرب الصحراء، في منتصف سبعينيات القرن الماضي.
هو خريج من أبرز الأسماء التي أنجبها الطيران المغربي بعد الاستقلال. ينتمي إلى الجيل الثاني والثالث ممن اضطلعوا بمهام في الطيران العسكري، واشتغل في صفوف الجيش الملكي طيارا، أوكلت إليه مهام في منطقة الصحراء، في عز الحرب ضد الهجمات الانفصالية الممولة من الجزائر.
سقوطه في الأسر على يد المقاتلين المدعومين من الجزائر، جعله يعيش فصول عذاب امتدت 25 سنة في سجون الانفصاليين، قرب مخيمات تندوف.
هذه التجربة المريرة التي أسقطت جناحيه وأبطلت قدرته على الطيران والمناورات العسكرية، أثرت كثيرا في حياته الجديدة، بعد الخروج من تجربة الأسر في المخيمات، وخرج منها أكثر قوة.
والذين يعرفونه يُؤكدون إصراره، بعد خروجه من تجربة الاعتقال بأشهر قليلة فقط، على العودة إلى الطائرة ذات المقعدين.
علي نجاب، أحد مهندسي ومنفذي العمليات العسكرية المغربية في الصحراء المغربية خلال احتدام الحرب، يعتبر شاهدا على العصر، لكنه كان يدرك أن حساسية المرحلة التي عاشها، وخصوصيات الحرب الطاحنة التي كبدت البوليساريو خسائر فادحة، تقتضي منه ألا يقول كل شيء، وأن يحتفظ ببعض الجزئيات المتعلقة بالطيران العسكري لنفسه فقط.
عندما ألف كتابه «25 Ans dans les Geôles de Tindouf»، تسبب في إحراج كبير للنظام الجزائري الداعم لأطروحة الانفصال، أمام المنتظم الدولي. وحكى جزئيات مهمة عن اعتقاله، وسلط الضوء على الكفاءات العسكرية المغربية، التي دافعت عن وحدة المغرب الترابية أمام تربص الانفصاليين ومناوشاتهم على الحدود.
علي نجاب، واحد إذن من الكفاءات المغربية في عالم الطيران، وبرحيله يكون المغرب قد فقد عنصرا آخر من العناصر التي تشكل ذاكرتنا الجماعية المرتبطة بحماية الأجواء المغربية.
حدو الكحل.. أول مغربي جرّب الطيران وسُجن بتهمة التجسس
قامته الفارعة، وسحنته المغربية التي لا تُخطئها العين، ونظرته الشاخصة إلى الكاميرا، كلها علامات توحي أنه لم يكن مجرد طيار عادي يلتقط صورة أمام طائرة صغيرة من طراز الطائرات البدائية، التي سبقت زمن الحرب العالمية الأولى بقليل.
وُلد حدو الكحل في منطقة الريف سنة 1888، بحسب ما دونه عنه الطيران الإسباني.
عاش الطفل حدو طفولة مضطربة في المنطقة الشمالية الشرقية من المملكة، وهو ما جعله يتحرك صوب الجزائر التي كان يحتلها الفرنسيون رسميا في ذلك التاريخ، وهناك اختلط مع بعض الشبان الفرنسيين وتعلم قيادة السيارات، ومعهم جرب التحليق لأول مرة بطائرة صغيرة مملوكة للعائلات الفرنسية، التي استقرت في الجزائر.
تجربة الطيران، جعلته يصر على تعلم التحليق بتلك الطائرات الصغيرة.
التقطه بعض الإداريين الفرنسيين، وأدركوا مدى قابليته للتعلم وبراعته في الطيران، اقترحوا على الاستعلامات الفرنسية أن يستغلوه، بحكم أنه ابن منطقة الريف ويتحدث الأمازيغية والإسبانية والفرنسية أيضا بطلاقة، ويستعملوه لجمع المعلومات في المنطقة الإسبانية، في سياق السباق الإسباني الفرنسي على احتلال المغرب.
إلا أن الشاب حدو الكحل كان أذكى من الفرنسيين، وعندما عاد إلى منطقة الريف، سخر قدرته على الطيران لإنقاذ المغاربة المصابين في القصف الإسباني لقرى الريف خلال الحرب الشهيرة، التي بدأت في عشرينيات القرن الماضي. وسُجن بسبب أنشطته تلك على يد الإسبان، خصوصا وأنه اتهم بنقل الجرحى المغاربة جوا للعلاج، ونقل المؤن والسلاح بطائرته الصغيرة، متحديا نقاط المراقبة الإسبانية. قبل أن ينجح في الفرار بعد ذلك ويحلق من جديد في الأجواء، وحظي بتقدير كبير في المغرب، حتى أن المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي استدعاه مرة، واحتفى به وكرمه على بطولاته، التي كانت تتناقلها الألسن في عز الحرب الإسبانية على الريف.
ثريا الشاوي.. أيقونة الطيران المغربي
صحيح أنها لم تكن رُبانة أو منتمية إلى الطيران المغربي، إلا أن ثريا الشاوي كانت أول سيدة عربية تحلق بطائرة.
شغفها بالطيران بدأ منذ أربعينيات القرن الماضي. فهي ابنة أسرة مغربية من أوائل الأسر المغربية الأرستقراطية العصرية، التي تعيش وفق النموذج الأوروبي العصري. أحبت الطائرات الصغيرة منذ طفولتها، ولم يُمانع والدها أن تستفيد من حصص تدريب في «تيط مليل»، حيث تعلمت أبجديات التحليق بالطائرات الخفيفة التي كانت تُستعمل في الترفيه ولأغراض سياحية فقط.
وفي سنة 1955، عندما عاد الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، اكتسبت ثريا الشاوي شهرة واسعة جدا، وراج أنها حلقت بطائرة صغيرة فوق الجماهير التي أتت لاستقبال السلطان العائد إلى العرش، وأمطرتها بوابل من الورود. مغربية إذن، وتُحلق بالطائرة، لتكون أول عربية مسلمة تحلق على متن طائرة في الأجواء.
لكن شهرة ثريا الشاوي سوف تترسخ أكثر عندما ماتت في حادث مأساوي اتُهمت أطراف سياسية متناحرة بالوقوف وراءه، وراجت روايات كثيرة عن أسباب تصفيتها سنة 1956، ونُظمت لها جنازة مهيبة تليق بقيمة شابة مغربية أسست لتحرير المرأة المغربية واقتحام مجال الطيران، الذي كان حكرا فقط على الرجال في ذلك الوقت.
في ربيع سنة 1959، وأصدقاؤها يحاولون إحياء ذكرى وفاتها الثالثة، طرحت فكرة تأليف كتاب بالفرنسية، يتناول شهادات في حق ثريا الشاوي، سواء خلال مرحلة طفولتها، أو خلال مرحلة شغفها الكبير بالطيران، وترددها على مدرسة تيط مليل لتعلم أولى خطوات التحليق بالطائرات الصغيرة.
كان جل أصدقائها فرنسيين، بحكم المكانة الاجتماعية لأسرتها في ذلك الوقت. إذ كان جل أصدقاء العائلة العصرية من المقيمين الفرنسيين في المغرب، من بينهم أطباء ونقاد وأدباء ورجال أعمال اختاروا الإقامة في المغرب بعيدا عن ضجيج الحياة المتسارعة في فرنسا.
كانت ثريا الشاوي على علاقة طيبة مع عدد من الفرنسيين في الدار البيضاء والرباط، وهؤلاء حاولوا تخليد ذكراها، لكن المشروع أقبر في حينه. وحسب مصدر لـ«الأخبار»، فإن السبب كان غير معروف، لكن أصدقاءها توصلوا بأخبار تؤكد أن تيارا داخل حزب الاستقلال وقتها، كان وراء المنع وبشدة.
كان ممكنا نشر الكتاب في فرنسا، لتعريف الرأي العام الفرنسي بقصة ثريا الشاوي، التي تصنف اليوم أول سيدة عربية مارست الطيران واستطاعت فعلا التحليق بطائرة، وحصلت على رخصة طيران، بعد تكوين احترافي، لكن المشروع لم يكتب له أن يصدر في فرنسا، لأسباب مجهولة.
خطفت ثريا الشاوي الأضواء حية وميتة، وربما كان ذلك مصدر إزعاج لعدد من القيادات التي كانت تريد التحكم في المشهد العام. الكتاب، لو صدر في تلك السنة، أي 1959، لربما كان اليوم وثيقة تاريخية نادرة وغاية في الأهمية، وربما تعرف الأجيال الجديدة ملامح واضحة لشخصية ثريا الشاوي، المرأة التي خلدت اسمها مرتين، مرة في السماء وأخرى فوق الأرض.
++++++++++++++++++++++++++
قصة فوج حمل اسم محمد الخامس وجمع أوائل الطيارين المغاربة
الفوج الذي تدرب في فرنسا، وأصبح جاهزا مع سنة 1955 لقيادة الأسطول الجوي المغربي، كان يتكون من الطيارين المغاربة الأوائل، الذين عُهد إليهم بمهام البريد الجوي وقيادة الطائرة الملكية. وكان من أبرز هؤلاء الخريجين، الطيار محمد القباج، والطيار عبد السلام بوزيان، بالإضافة إلى سبعة طيارين آخرين.
الاثنان معا بصما على مسار لافت في الطيران، المدني والعسكري أيضا، وكانا من بين أعضاء النواة الأولى التي أشرفت على مهام تدريب الأفواج الأخرى في جهاز الطيران بالمغرب، خصوصا بعد تأسيس القوات المسلحة الملكية. وسوف نعود في هذا الملف إلى تفاصيل الفوج، ولائحة الأسماء التي شكلت النواة الأولى للطيران المغربي، قبل أن تتفرق السبل بأغلبها، إذ إن منها من غادر عالم الطيران مبكرا.
الفرنسيون هم من أشرفوا على اختيار هؤلاء الذين شكلوا الفوج الأول، رغم أن اسم الفوج لم يتم اختياره، إلا عندما أنهوا سنوات التدريب. تنقل الثلاثة من المغرب إلى فرنسا لاستكمال التدريب، سيما الشق النظري، في ما كان الشق العملي يُجرى في قاعدة مكناس، التي اختار الفرنسيون أن يُدمجوا أطرا مغربية فيها إلى جانب الأطر الفرنسية.
وهكذا اختير أن يحمل الخريجيون الذين عادوا إلى المغرب، في ظل أجواء الانفراج الذي شهدته الساحة السياسية، بعد بوادر عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، اسم الملك، وأطلق عليهم «فوج محمد الخامس».
بينما كان الفوج الذي لحق بهم، بعد أقل من عامين، يحمل اسم الأميرة لالة عائشة. وسوف نتطرق إلى قصته بالتفصيل.
الآن، مع أجواء وصول الجيل الأول من الطيارين إلى المغرب. عندما تم التوقيع على وثيقة الاستقلال في مارس 1956، وأصبح واجبا تعيين مدير مغربي على رأس القاعدة في مكناس، وقع الاختيار على زميل محمد القباج، وهو الطيار المغربي عبد السلام بوزيان، الذي تنبأ له الفرنسيون بمسار واعد جدا، خصوصا بعدما تفوق على الفرنسيين أثناء فترة الدراسة العسكرية في فرنسا وفي المغرب.
ينتمي بوزيان إلى نفس جيل القباج، وكلاهما اعتمد عليه الملك الراحل الحسن الثاني وعهد إليهما بالكثير من المهام. فالطيار القباج، كان مُنقذ الطائرة الملكية أثناء المحاولة الانقلابية التي استهدفت الملك في صيف سنة 1972. بينما بوزيان، كان من أوائل الذين ترقوا في سلاح الطيران، وسرعان ما أصبح ملحقا عسكريا في السلك الدبلوماسي في ستينيات القرن الماضي، واشتغل في سفارة المغرب في واشنطن، وأشرف على أهم صفقات سلاح الطيران المغربي في سنوات الستينيات والسبعينيات.
كلا الرجلين ينتميان إلى الجيل نفسه، الرعيل الأول للطيارين المغاربة الذين تدربوا في الفترة ذاتها، وفي السياق الفرنسي نفسه، وكانا معا يمثلان فترة انتقالية من الإشراف الفرنسي، إلى بداية التسيير المغربي لقطاع الطيران.
القباج، الذي بدأ حياته المهنية في الطيران، في الجناح العسكري، وكان من أوائل الذين غادروا الحياة العسكرية والتحق بالطيران المدني، مع بداية الستينيات ليتم استدعاؤه لكي يصبح ربان طائرة الملك الراحل الحسن الثاني. بينما الكولونيل عبد السلام بوزيان، بصم على مسار عسكري لافت بإدارته للقاعدة في مكناس، وإشرافه على الطيران المغربي في حياة الملك الراحل محمد الخامس، ويعهد إليه الملك الحسن الثاني في أولى سنوات حكمه بمهام دبلوماسية توجت بانتقاله رسميا إلى السلك الدبلوماسي والاشتغال لعقدين تقريبا في سفارة المغرب بواشنطن، إلى أن عاد إلى المغرب متقاعدا.
القباج توفي سنة 1989 بعد مرض عضال، وارتبط اسمه بالوفاء للملك الراحل الحسن الثاني، بينما بوزيان توفي قبل عامين، سنة 2022، ودفن معه أسرارا مثيرة عن العلاقات المغربية الأمريكية في مجال الطيران وصفقات تسليح الطيران العسكري المغربي.
أول مهمة لتحديث الطيران المغربي بعيون الكولونيل بوزيان
عندما توفي الكولونيل عبد السلام بوزيان في يوليوز 2022، بمنزله الهادئ في مدينة الرباط، كنا في «الأخبار» قد انفردنا بنشر تفاصيل مثيرة عن مساره العسكري، استنادا إلى أرشيفه الشخصي الذي دونه بنفسه في فترة تقاعده. وقد نشرنا وقتها ملفا مطولا عن أبرز المحطات في حياة «الكولونيل» عبد السلام بوزيان، الذي جمع بين العمل الدبلوماسي والطيران العسكري.
ففي سنة 1955 أصبح عبد السلام بوزيان رسميا من بين أبرز أسماء الجيل الأول للطيارين المغاربة الأوائل، الذين أمسكوا بزمام إدارة الطيران المغربي.
في 14 ماي 1956، في سياق تأسيس الجيش الملكي، استقبل الملك الراحل محمد الخامس الفوج الأول، ووعد الطيارين التسعة الذين درسوا الطيران وتدربوا عليه في فرنسا، بمسار واعد في الجيش المغربي، بعد أن سلمهم مفاتيح تأسيس القاعدة المغربية الأولى، والتي كانت تقع في الرباط سلا. الكولونيل عبد السلام بوزيان أمسك مفاتيح قاعدة الرباط، في ما رفيقه في التخرج محمد القباج، الذي أصبح لاحقا ربان طائرة الملك الحسن الثاني خلال السبعينيات والثمانينيات، أمسك مفاتيح قاعدة مكناس.
وكانت تلك ثقة كبيرة من الملك الراحل محمد الخامس الذي رحب بعبد السلام بوزيان، إذ إن الملك الراحل كان يعرف جيدا أصوله الطنجاوية والعائلة العريقة التي ينتمي إليها.
وفي عهد الملك الراحل الحسن الثاني، بدأ بوزيان مسارا خاصا مع جلوس الملك على العرش سنة 1961. وازدادت التكليفات العسكرية المنوطة به في مجال الطيران، خصوصا وأن المغرب سوف يوقع وقتها اتفاقا مع الولايات المتحدة الأمريكية في مجال الطيران العسكري، وسوف يتخلى عن الدعم السوفياتي للمغرب منذ 1956.
كان الأسطول المغربي منتصف الخمسينيات يتكون من طائرات فرنسية عتيقة تعود إلى أيام الحرب العالمية الأولى، لكن القائمين على الطيران المغربي استعملوها في تأسيس الإدارات المغربية، وربط الاتصال بين الأقاليم، ونقل الإرساليات والوثائق، وقضاء المهام العاجلة، قبل أن تأتي الطائرات السوفياتية المتطورة لتشكل النواة الأولى للطيران العسكري المغربي. لكن مع بداية عهد الملك الراحل الحسن الثاني، حدث تقارب كبير وبينه وبين أمريكا في مجال التعاون العسكري. وهكذا وقع البلدان اتفاقا عسكريا يقضي بتكوين الطيارين المغاربة في أمريكا، وتزويد المغرب بأحدث الطائرات المقاتلة. وبموجب هذه الاتفاقيات سيحصل عبد السلام بوزيان على شارة الليوتنان كولونيل في واشنطن، سنة 1967، في شهر يونيو بالضبط، بعد أن حمل الجنرال إدريس بن عمر بنفسه تلك الرتبة، سابقا، لكي يقلد بوزيان بها رسميا. كان السياق زيارة إلى واشنطن ترأسها الجنرال إدريس بن عمر، بأمر مباشر من الملك الراحل الحسن الثاني. وكان وقتها عبد السلام بوزيان يشغل رسميا منصب ملحق عسكري في السفارة المغربية بواشنطن.
تأبط ملفا سريا للغاية من الرباط، عندما أرسله الملك الحسن الثاني إلى السفارة في واشنطن. ولم تكن تلك المرة الأولى التي يتعرف فيها الملك على الكولونيل بوزيان عن قرب، بل سبقتها مرات أخرى تعود بالضبط إلى الفترة التي كان فيها الحسن الثاني وليا للعهد.
ففي سنة 1962 طلب بوزيان أن يقابل الملك الراحل الحسن الثاني، وهو ما تم في الثانية صباحا، ذات ليلة رمضانية. اللقاء تزامن مع توقيت وجبة السحور، وكان الملك الحسن الثاني مهتما بطلب الطيار بوزيان لقاءه، وكان وقتها الكولونيل القباج قد طلب إعفاءه من رئاسة قاعدة مكناس، وقدم طلبا وصف فيه أسباب طلبه الإعفاء بالشخصية. وخلفه الكولونيل بوزيان، الذي راكم بدوره تجربة في قاعدة سلا الجوية، وفي ذلك السياق طلب لقاء الملك الحسن الثاني، لكي يخبره ببعض التفاصيل المرتبطة بتعيينات تلك القواعد العسكرية. وقتها كان الطيار عبد السلام بوزيان يتعرف على محيط الملك الحسن الثاني جيدا، سيما وأن أسماء عسكرية عصف انقلاب الصخيرات بأغلبها، كانت تسيطر على المشهد العام وتطوق جيدا محيط الملك الحسن الثاني. لكن بما أننا نتحدث عن 1962، فإن توقع مصير مشابه لكل هؤلاء كان شبه مستحيل.
المهمة في الولايات المتحدة الأمريكية، في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، كانت تمثل قمة ما وصل إليه الكولونيل عبد السلام بوزيان من حظوة مهنية وتقدير من طرف الملك الراحل الحسن الثاني.
قدور وبوطالب وبن الحسين والخطيب وآخرون.. الربابنة الأوائل المنسيون
دائما في سياق الأسماء الأولى التي شكلت نواة الطيران المغربي، نستعرض هنا لائحة من الأسماء التي شكلت النواة الأولى للفوج الذي استقبله الملك الراحل محمد الخامس في أجواء الاستقلال، ليتولى أفراده مهام التحليق بالطائرات الفرنسية، لقضاء المهام الإدارية لكل من وزارة الداخلية، والبريد والمراسلات الخاصة التي كانت تفد على القصر الملكي في الرباط من مختلف الأقاليم. هذا الجيل من الطيارين لعبوا دورا كبيرا في ربط الاتصال، ونقل المراسلات، خصوصا مع الأقاليم الجنوبية، في عز وجود القوات الإسبانية في معظم الأقاليم الصحراوية للبلاد.
كان الملك الراحل محمد الخامس مسرورا وهو يتلقى خبر نجاح أفراد الفوج المغربي الأول في امتحانات الطيران، دخل الطيارون التسعة التاريخ من أوسع أبوابه. واعتبر الملك الراحل محمد الخامس وولي العهد الأمير مولاي الحسن، حدث تخرج هذا الفوج بمثابة عيد وطني، حيث نظم لهم الملك الراحل حفل استقبال مغربي مائة بالمائة داخل أسوار القصر الملكي، رغم أن هؤلاء الطيارين المغاربة تم استدعاؤهم إلى القاعدة الجوية الفرنسية فور التحاقهم بالمغرب، أي مباشرة بعد اجتياز الامتحانات النهائية في فرنسا، وبإشراف فرنسيين بطبيعة الحال.
هؤلاء الطيارون الخريجون هم: إبراهيم أكزول، قدور الطرهزاز، عبد اللطيف بوطالب، أحمد بن الحسين، عبد السلام بوزيان، عبد الله عمار، عبد الله بامعروف، محمد القباج، ونور الدين الخطيب.
تسعة مواطنين مغاربة يجمع بينهم الذكاء والتفوق الدراسي، في المدارس الثانوية المغربية، التي كان الفرنسيون يشرفون فيها على تلقين المواد العلمية، خصوصا الرياضيات. هؤلاء الخريجون الذين كان أغلبهم ينتمون إلى القرى، مقابل قلة منهم فقط نشؤوا في المدن، كانوا فخرا حقيقيا للملك الراحل محمد الخامس، حتى أنه راسل الإقامة العامة الفرنسية سنة 1955 عندما كان في باريس، تمهيدا لإنهاء أزمة نفيه عن العرش، وأشار في رسالة رسمية إلى رئاسة الجمهورية الفرنسية إلى ما معناه أن المغرب بات يتوفر على جيل جديد من المتعلمين المغاربة بإمكانهم التألق في الريادة. كان هؤلاء الطيارون التسعة وقتها بالكاد يُنهون امتحاناتهم النهائية في جهاز الطيران العسكري الفرنسي.
المعلومات التي تتوفر لدينا، مفادها أن بامعروف انتقل إلى الطيران المدني، رغم المغريات التي كانت مفتوحة أمامه في جهاز الطيران المغربي، وتدرب على يديه نخبة من الطيارين المغاربة في مجال الطيران التجاري والمدني، التابعين للشركة المغربية، لأزيد من ثلاثة عقود، إلى حدود بداية التسعينيات.
أسماء أخرى لا تتوفر معطيات كافية بشأن المسار الذي اتخذته، بعد محطة التجربة الأولى للطيران المغربي. لكن كل هذه الأسماء ساهمت في انتصار المغرب في حرب الرمال في أكتوبر 1963، وما تلا تلك المحطة من معارك أخرى لتأمين الحدود المغربية، والصراع في الصحراء بعد تأسيس البوليساريو.
مدرسة مكناس الفرنسية.. هنا تعلم المغاربة الطيران
«مدرسة مكناس وقتها كانت رائدة، ويمكنني أن أقول إنها كانت وقتها المدرسة الفرنسية الوحيدة التي كونت طيارين مطاردين، وقد تدرب فيها قبلنا طيارون فرنسيون أيضا. ونحن المغاربة كنا نشكل نسبة ما في كل فوج يتخرج، أو دفعة. أخبرتك سابقا أني كنت المغربي الوحيد الذي تخرج في دفعة الطيارين المطاردين في مكناس في 1960. والصديقان اللذان جاءا معي إلى مكناس في البداية، أحدهما اختار أن يغير التخصص، بينما الثاني كان قد مرض، وتخرج في فوج السنة التالية كطيار مطارد. مدرسة مكناس كانت مهمة جدا، ولا يستهان بها. فعندما أقول إننا لم نذهب إلى فرنسا أو الولايات المتحدة الأمريكية، فهذا لا يعني أنني أنتقص من مدرسة مكناس التي كانت في القاعدة الجوية هناك، ولكن فقط هذا ما كانوا وعدونا به سابقا عندما وقعنا العقود لأول مرة للالتحاق بالطيران». الكلام هنا للطيار صالح حشاد، الذي يعتبر من الرعيل الأول للطيارين المغاربة، وثاني فوج يتخرج من فرنسا ويتدرب في قاعدة مكناس الجوية، ويبدأ مسارا مهنيا في عالم الطيران منذ سنة 1957. وقد واكب صالح حشاد، كما يحكي في هذا الجزء من الحوار الذي أجري معه لـ«الأخبار» سنة 2016، لحظات تأسيس الطيران المغربي، وعاشر عن قرب أشهر الطيارين المغاربة ممن لا يعرفهم العامة، لكنهم أشهر من نار على علم بين الطيارين العسكريين والمدنيين المغاربة.
يواصل صالح حشاد في هذا الحوار، حديثه عن القاعدة الجوية في مكناس، بالقول: «القاعدة الجوية في مكناس كانت فرنسية. كل العاملين فيها فرنسيون، ولم يتسلمها المغاربة، إلا عندما تخرج القباج وبامعروف وعمار. وكان هذا التسليم تدريجيا، إلى أن غادرها الفرنسيون نهائيا وتسلمها المغاربة. لدي ذكريات كثيرة في قاعدة مكناس في الحقيقة، خصوصا أنني لم أغادرها لأشهر حتى بعد تخرجي، فقد بقيت فيها، وكنت المغربي الوحيد بها، لأحتك بالطيارين المطاردين الفرنسيين.
أمضيت قرابة ستة أشهر مع مدربين فرنسيين، وكانوا جلهم قد طاروا خلال الحرب العالمية الثانية، وتدربت معهم على القتال الجوي، أي أجواء الحروب. هذه الفترة مكنتني من أن أصبح قائد سرب، أي أن يصبح لدي الحق في قيادة سرب طائرات حربية، وأكون مسؤولا عنها. تدربت على أن أصبح رأس حربة. تعلمت معهم أيضا كيف أواجه طائرات العدو، وكيفية استهداف المنشآت الحيوية للعدو، كالمطارات مثلا والسدود إلخ.
في نهاية الفترة التي أمضيتها هناك، بدأ تفويت القاعدة إلى المغاربة عندما عاد بامعروف والقباج وعمار إلى المغرب. فبامعروف عندما وشحني في تخرجي كان فعلا قد بدأ يتسلم مهامه. وتدرجت الأمور على هذا النحو. وفي الوقت نفسه كانت سلا مخصصة لطياري النقل، بينما مكناس خصصت لنا نحن الطيارون المطاردون. لكن المشكل وقتها أن المغرب لم يكن يمتلك طائرات نفاثة خاصة به، أي أن هذه الفترة الفاصلة كان المغاربة فيها مكتفين بتسلم الأمور فقط، دون أن يكون لدينا طائرات نفاثة خاصة بالمغرب. وأنت تعلم أن نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات كانت تمثل فترة مبكرة من استقلال المغرب، بالإضافة إلى أن البلاد تأثرت بما كان يقع في العالم. ففي القنيطرة كانت هناك قاعدة جوية أمريكية، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تعيش على إيقاع الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، وكانت الأعين مصوبة نحو المغرب بقوة في ذلك الوقت».
تلك الأعين المصوبة التي تحدث عنها الطيار صالح حشاد، هي التي راقبها الكولونيل عبد السلام بوزيان، الذي كان في قلب الصفقة التي غيرت أسطول الطيران المغربي من العتاد السوفياتي إلى الأمريكي.
صالح حشاد، أحد الطيارين المغاربة الذين تفوقوا على الأجانب في الطيران، وهو حامل درع «Top Gun» أثناء فترة التدريب في أمريكا متفوقا على الأمريكيين، ولولا تجربة الانقلاب الذي استهدف الطائرة الملكية سنة 1972، والذي تورط فيه حشاد رفقة آخرين من القاعدة الجوية في القنيطرة، لكان اتخذ لنفسه مسارا آخر، خصوصا وأنه جايل الطيارين الأوائل واشتغل معهم.
رُسمت ملامح الطيران المغربي على يد هؤلاء جميعا، بينما من رحلوا منهم، أخذوا معهم أسرارا أخرى ربما لن يُكشف عنها الستار.