بقلم: خالص جلبي
ثمة طرق لاستئصال الأورام الفكرية والزوائد الذهنية، أو عمليات التصنيع الشريانية العقلية.
لا بد قبل العمل الجراحي من معرفة (تشريح الخارطة النفسية)، فكما أن الجراحة تحتاج بالدرجة الأولى إلى المعرفة المحيطة بالتشريح ANATOMY) )، كذلك لا بد من معرفة خارطة المفاتيح النفسية، ونحن هنا لا نحتاج إلى معرفة (كنه وحقيقة النفس)، فهذه يبدو أن لا جدوى منها ولن نصل إليها – على الأقل في القريب العاجل ـ ما يهمنا هو كيفية عمل النفس (ديناميكية النفس)، كيف يمكن أن نشحن فكرة أو نستأصلها أو نضيفها أو نستبدلها؟ وهذه تحت السيطرة الإنسانية، فيمكن الدخول إلى باطن النفس ومعالجة الاضطرابات الذهنية والفوضى العقلية، بجراحات دقيقة.
طبقتا (الوعي) و(اللاوعي)
إن النفس الإنسانية تعمل في مستويين، هما طبقة (الوعي) وشريحة (اللاوعي)، ولكن الدخول إلى الوعي أو اللاوعي هو فقط عن طريق الأفكار، وهذه مرتبطة بميكانيزم آخر، هو مدى تشبع النفس بالفكرة، أو على حد تعبير القرآن (الرسوخ)، فالفكرة قد يكون وزنها (مايكرو غراما) وقد يكون وزنها (ميجا طن)! فعندما تترسخ الفكرة وتُهضم جيدا، تتحول إلى اللاوعي، والدماغ الإنساني يعمل حتى في الليل، فلا يعرف الراحة كما يتصور البعض، حتى في النوم، كما ثبت من الدراسات الإلكترونية المتقدمة، والمسائل العويصة يشتغل عليها والإنسان غافل عنها، فهو في إحدى وظائفه كمبيوتر مدهش، فهو (يعالج) المعضلات حتى لو تركها الإنسان، ثم يقفز بنتائج عمله فجأة (حسب التجلي)، وهو ما يحصل معنا في تذكر المعلومات أو الأسماء.
وآلية اللاوعي هامة من أجل خزن الخبرات، وإطلاق الحرية الإنسانية دوما؛ فلو تم تشغيل الوعي دوما بالمعلومات، ولم يرسلها إلى الآليات العميقة المختبئة في اللاوعي، لكان معناه كارثة فعلية للإنسان بسبب النسيان، فالنسيان في الواقع هو في صالح آليات اللاوعي، كما في تعلم اللغات وقيادة السيارة وبقية المهارات اليومية، حيث تتخمر هناك وتعمل بشكل آلي بدون تفكير، و(العواطف) هي تعبيرات اللاوعي، فهي تلك الأفكار الدفينة والتي نسيناها منذ زمن بعيد ولا نعرف عنها شيئا، ولكنها توجهنا بشكل مرعب، فالصربي الذي كان يقتل المسلم الصربي، ومن خلال شحن الذاكرة الجماعية بدماء معركة «أمسل فيلد» في كوسوفو، قبل أكثر من 600 عام (وقعت عام 1389م وقتل فيها لازار الملك الصربي والسلطان العثماني مراد)، ومثلها الصهيوني في مذابح غزة أكتوبر 2023م قد امتلأ (اللاوعي) عنده بأفكار سرطانية تتطلب جراحة أورام رهيبة، ومعالجة كيماوية ضد السرطان مكثفة، واختراقا فكريا شعاعيا لتطهير هذا العمق المملوء بالعفن. والمثل الصربي واضح، ولكن كل مجتمع يحمل الكثير من هذه السرطانات المخيفة والمختبئة بكل أمان وسرية في تلافيف الدماغ الداخلية، كما في الصراع المذهبي في الشرق الأوسط.
مبدأ تحويل اتجاه الطاقة
كذلك هناك علاقة بين هاتين الطبقتين وتعملان بتنسيق متصل، وكما يحدث في الوشيعة الكهربية من تحويل الطاقة الكهربية من 110 فولتات إلى 220 فولتا وبالعكس، كذلك يمكن الانتقال من الوعي إلى اللاوعي، ولكن (التردد الكهربي) داخلنا هو عادة في فولتاج (الوعي – اللاوعي) وليس العكس، بمعنى أن الأفكار تمشي أولا إلى الوعي (باستثناء الأطفال والعوام الذين قد تمر عندهم الأفكار مباشرة إلى اللاوعي، كما في تشكل السلوك بالتقليد)، حتى إذا تخمرت تشربها اللاوعي وانفصلت عن الوعي، فأصبحت في اللاوعي (خبرة)، و(تحرر) الوعي لاستقبال أفكار جديدة، وهي في حالة سيالة متصلة، فإذا زاد ترسخ الأفكار في اللاوعي تشكلت (العواطف) فأفرزت (السلوك)، فالأخلاق في النهاية هي المحصلة الأخيرة والتعبير الصادق لعمق الأفكار واتساعها ورسوخها في النفس.
كما ينقل عن غاندي انتبه إلى أفكارك فهي غدا أقوال، وتنبه إلى أقوالك لأنها ستتحول إلى أفعال، وانتبه إلى أفعالك، لأنها ستتحول إلى عادات وسلوك، وانتبه إلى عاداتك فهي دليل شخصيتك. وانتبه إلى دليل سلوكك، فهو مصيرك بكلمة أخرى.
وإذا كنا من أجل (أجهزة) معينة نضطر إلى تحويل السيالة الكهربية بشكل معاكس من 110 فولتات إلى 220 فولتا، كذلك يمكن نقل سيالة (اللاوعي) إلى (الوعي)، وهو ما يفعله المحللون النفسيون أحيانا، فإذا ظهرت تلك (العفونات) المختبئة بدون (أكسجين عقلي) إلى الضوء والهواء الطلق، تعافى الإنسان وكأنه نشط من عقال.
يمكن قراءة مثل هذا البحث الشيق عند عالم النفس هادفيلد في كتابه «تحليل النفس والخلق»، فهو يرى أن أعظم لحظات الإنسان تجليا في اعتناقه دين أو فك عقدة نفسية.
وهذا إن دل على شيء فهو يفيد بمدى قدرتنا على تشكيل الإنسان، وتحول الأخلاق إلى ساحة العلم. هذه هي بعض مفاتيح تغيير الإنسان، وعندما نستطيع تغيير الإنسان يمكن أن نمسك بمقود التاريخ.
قصة العملاق وابنه
تقول الأسطورة إن عملاقا أرسل كتاب تحية إلى عملاق منافس في أرض مجاورة، فلما تسلم الثاني الخطاب مزق الرسالة وشتم الأول، فهرع إليه لينتقم منه، والأرض تهتز من تحت قدميه، فلما سمع الثاني وقع القدمين أصيب بالرعب، فهدأته زوجته، ونصحته بالاستلقاء بالفراش والاختباء كي تتولى هي الأمر، وغطته باللحاف، باستثناء قدميه الضخمتين، فلما اقترب العملاق الغاضب المزمجر، وصاح: أين الوقح الذي تعرض لي؟ اعتذرت المرأة لعدم وجود زوجها، ورجته أن لا يرفع صوته حتى لا يوقظ (ابنها النائم)؛ فلما أبصر العملاق الغاضب قدمي العملاق النائم؛ فرأى القدمين الفظيعتين البارزتين، قال في نفسه: إن كان هذا غلامه، فكم يكون الأب، فأصيب بالرعب وولى الأدبار! وهكذا هي الحرب النفسية والإشاعات كما نسمع مع كتابة هذه المقالة عن حرب برية ضد غزة، بعد أن سويت بالأرض، وهذه لن تكون سوى بحركات استعراضية طالما كان الطيران سيد الموقف، كما جرى ذلك في حرب الخليج الذي كان مخصص له 20 ألف طلعة جوية، فلما أثبتت مفعولها رفعوها إلى مائة الف ومعها مقتل مائة ألف جندي عراقي. من كان له أذنان للسمع فليستمع.
نافذة:
النفس الإنسانية تعمل في مستويين هما طبقة الوعي وشريحة اللاوعي ولكن الدخول إلى الوعي أو اللاوعي هو فقط عن طريق الأفكار