مثلما سكنت الوجدان وعمرت الروح بتاريخها الباذخ وقدسيتها التي تشع بألف نار ونور، حظيت القدس بمكانة خاصة واستثنائية في الأدب العربي بجميع فروعه، فكان أن احتفى بها الشعراء، واتخذها الروائيون ركحا لسردهم، فيما تفنن الرحالة في وصف معالمها وكذلك القصاصون.
حرص العديد من الرحالة المغاربة والأندلسيين على زيارة القدس، فرسموا لها صورة مائزة في مذكراتهم وأدبهم، ولعل أشهرهم: الفقيه أبو بكر بن العربي الذي زارها في سنة 485هـ/1092م، والتقى هنالك الإمام أبا بكر الطرطوشي الأندلسي، أحد أكبر علماء المالكية في الأندلس، وانتهز فرصة اللقاء ليتباحث معه في بعض المسائل العلمية. ومن أهم مشاهداته عن القدس ما دونه في قوله: «شاهدت المائدة بطور زيتا مرارا، وأكلت عليها ليلا ونهارا، وذكرت الله سبحانه وتعالى فيها سرا وجهارا، وكان ارتفاعها أشف من القامة بنحو الشبر، وكان لها درجتان قبليا وجنوبيا، وكانت صخرة صلودا لا تؤثر فيها المعاول، وكان الناس يقولون: مسخت صخرة، والذي عندي أنها كانت صخرة في الأصل قطعت من الأرض محلا للمائدة النازلة من السماء، وكل ما حولها حجارة مثلها، وكان ما حولها محفوفا بقصور، وقد نحتت في ذلك الحجر الصلد بيوت أبوابها منها ومجالسها منها، مقطوعة فيها، وحناياها في جوانبها، وبيوت خدمتها قد صورت من الحجر كما تصور من الطين والخشب، فإذا دخلت في قصر من قصورها ورددت الباب وجعلت من ورائه صخرة مقدار ثمن درهم لم يفتحه أهل الأرض للصوقه بالأرض، وإذا هبت الريح وحثت تحته التراب لم يفتح إلا بعد صب الماء تحته والإكثار منه حتى يسيل بالتراب وينفرج منفرج الباب، وقد بار بها قوم بهذه العلة، وقد كنت أخلو فيها كثيرا للدرس» (نفح الطيب للمقري). ونجتبي هاهنا نماذج لبعض المقاطع التي ألفها هؤلاء الرحالة في وصف المدينة والإشادة بمزاياها، فهذا الجغرافي المغربي الفذ الشريف الإدريسي والذي زاد القدس خلال الاحتلال الصليبي، يقول في كتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»، وهو الكتاب الذي اتخذه علماء أوربا مرجعا لهم لما يناهز ثلاثة قرون:
«بيت المقدس مدينة جليلة قديمة البناء، وكانت تسمى إيلياء، وهي على جبل يصعد إليها من كل جانب، وهي في ذاتها طويلة وطولها من المغرب إلى المشرق، وفي طرفها الغربي باب المحراب، وهذا الباب عليه قبة داوود عليه السلام وفي طرفها الشرقي باب يسمى باب الرحمة، وهو مغلق لا يفتح إلا من عيد زيتون لمثله، ولها من جهة الجنوب باب يسمى باب صهيون، ومن جهة الشمال باب عمود الغراب».
وفي كتاب «زاد المسافر» للرحالة الفارسي «ناصر خسرو»، والذي تم تأليفه وترجمته في القرن الرابع الهجري، نقرأ الوصف التالي للقدس:
«هي مدينة مشيّدة على قمة الجبل، ليس بها ماء غير الأمطار ورساتيقها ذات عيون […]، وهي مدينة كبيرة كان بها عشرون ألف رجل وبها أسواق جميلة وأبنية عالية. وكل أرضها مبلطة بالحجارة […] وفي المدينة صناع كثيرون، لكل جماعة منهم سوق خاصة، والجامع شرقي المدينة وسوره هو سورها الشرقي، وبعد الجامع سهل مستو يسمى «الساهرة»، يقال إنه سيكون ساحة القيامة والحشر، ولهذا يحضر إليه خلق كثيرون من أطراف العالم ويقيمون به حتى يموتوا فإذا جاء وعد الله كانوا بأرض الميعاد «اللهم عفوك ورحمتك بعبيدك ذلك اليوم يا رب العالمين»، وعلى حافة هذا السهل قرافة عظيمة ومقابر كثير من الصالحين يصلي بها الناس ويرفعون بالدعاء أيديهم فيقضي الله حاجاتهم «اللهم تقبل حاجاتنا واغفر ذنوبنا وسيئاتنا وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين»، وبين الجامع وسهل الساهرة واد عظيم الانخفاض كأنه خندق وبه أبنية كثيرة على نسق أبنية الأقدمين…».
بريشة الرسام يمضي «خسرو» في تصوير معالم المدينة الإسلامية منها والمسيحية، وهو بذلك يكتب تاريخا لمدينة ليست ككل المدن، واصفا أسواقها وعادات سكانها، كل ذلك بأسلوب ماتع ينضح منه الجمال والألق، يقول في وصف المسجد الأقصى: «وقد بني المسجد في هذا المكان لوجود الصخرة به، وهي الصخرة التي أمر الله عز وجل موسى عليه السلام أن يتخذها قبلة، فلما قضى هذا الأمر واتخذها موسى قبلة لم يعمر كثيرا بل عجلت به المنية، حتى إذا كانت أيام سليمان عليه السلام وكانت الصخرة قبلة بنى مسجدا حولها بحيث أصبحت في وسطه، وظلت الصخرة قبلة حتى عهد نبينا المصطفى (ص)، فكان المصلون يولون وجوههم شطرها إلى أن أمرهم الله تعالى أن يولوا وجوههم شطر الكعبة وسيأتي وصف ذلك المكان».
أما رائد الرحالين المسلمين ابن بطوطة المغربي الطنجي، والذي اقتطع من عمره أكثر من عشرين سنة في سبيل التطواف حول العالم، فقد حط الرحال بالقدس في سنة 662هـ، وضمن كتابه الشهير «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» مجمل ذكرياته وانطباعاته عن مدينة السلام/القدس، فكان مثل المصور الفوتوغرافي الذي يبرز الصورة في أدق تفاصيلها، يصف قبة الصخرة قائلا:
«أما قبة الصخرة فهي من أعجب المباني وأتقنها وأغربها شكلا، فقد توافر حظها من المحاسن وأخذت من كل بديعة بطرف، وهي قائمة على نشر في وسط المسجد يصعد إليها في درج رخام ولها أربعة أبواب والدائر بها مفروش بالرخام أيضا، محكم الصنعة وكذلك داخلها. وفي ظاهرها وباطنها من أنواع التزويق ورائق الصنعة ما يُعجز الواصف. وأكثر ذلك مغشى بالذهب، فهي تتلألأ نورا، وتلمع لمعان البرق، يحار بصر متأملها في محاسنها، ويقصر لسان رائيها عن تمثيلها، وفي وسط قبة الصخرة الكريمة، التي جاء ذكرها في الآثار فإن النبي (ص) عرج منها إلى السماء، وهي صخرة صماء، ارتفاعها نحو قامة، وتحتها مغارة في مقدار بيت صغير، ارتفاعها نحو قامة أيضا، ينزل إليها على دُرج».