صروح واشنطن دي سي
سلوى
إذا زرت واشنطن سوف تحط في عقلك منذ الوهلة الأولى في هيأة مربع شاسع، وهكذا ستظل في ذاكرتك إلى الأبد. لأنها حرفيا مربع بني على ضفتي نهر «بوتوماك». مدينة صممت من طرف المهندس ذي الأصول الفرنسية «لونفون» الذي حين تكلف بوضع تصميم لواشنطن اشترط فيه منع ناطحات السحاب من التواجد على سطح مدينة الحدائق تلك، وصممها على أساس أن تكون البنايات فيها منخفضة العلو. لذلك ستحب هذه المدينة حتما، لأن البنايات العالية تجعل الأمكنة تبدو مظلمة وشاحبة، ومثلما في أحلام طفل، صمم « «L’Enfantهذه المدينة دون تعقيدات حتى يشعر الزائر بسهولة التجوال بداخلها. فمن النادر أن تتيه بين شوارعها، أو أن تسأل أحدهم عن أي وجهة، كل شيء منظم بداخلها ومصمم ليستفيد السائح من كل مباهج «واشنطن دي سي» وبكل يسر.
في الطريق إلى وسط المدينة وكلما توغلت الحافلة داخل الطريق الرباعي تأتي واشنطن إلى الزائر بأشجارها المتنوعة ورطوبتها المنعشة، وببطء يطل عليك نهر «بوتوماك» البديع باهتزازات الماء الخفيفة على سطحه اللامع، تكفي رؤية هذا النهر لتقتنع بأن هذه المدينة جميلة وتستحق الزيارة وتبذير بعض المال بداخلها ولو ليوم واحد. إنها لسعادة كاملة أن تخصص يوما من سفرك، يوما واحداً فقط، تصرف فيه المال كبحار يشعر بأنه آخر يوم له على اليابسة..، البحارة، يا لهم من قوم، يعلمونك معنى الحياة، أن تنطلق وألا تكترث، وهذا ما فعلته بالضبط في العاصمة واشنطن. صرفت الكثير من المال خلال ثلاثة أيام خصصتها لزيارة المتاحف والمآثر والنصب التذكارية. وبالطبع بدأت بحديقة «جبران خليل جبران».
فحتى لو كانت زيارة المتاحف ليست أكثر ما يجذبك أثناء السفر، في واشنطن لا يمكنك ألا تلتفت إليها. مؤسسة «سميثسونيان» تدير أكثر من أحد عشر متحفا ومؤسسة أغلبها يعرض تاريخ أمريكا وتحولاتها وحروبها ورجالاتها. إذا لم تستطع العودة إلى التاريخ، المتحف سيأتي به إليك، بدأت بمتحف «الهنود الحمر»، تجولت بين أروقته، تخيلت أنني في لحظة ما لو اتكأت على جدار بإمكاني الإنصات إلى أصواتهم المجلجلة الشهيرة، وربما قد أتخيل أولئك القادمين إلى العالم الجديد وهم يهدونهم البطانيات الموبوءة، أخيرا يمكنني أن أنظف عقلي من صور الأفلام عن الهندي المتوحش الذي يهاجم الرجل الأبيض دونما سبب واضح. وأخلص إلى أن الهنود الحمر شعب متحضر بطريقته وبفلسفته التي لا تفصل الإنسان أبدا عن الطبيعة التي يعيش بداخلها. المتحف يضم أشياء الأمريكيين الأصليين، زينتهم وأزياءهم، عالمهم المختلف الذي تلاشى، ولولا أن الأمريكيين انتبهوا إلى أنه جزء من تاريخ هذا العالم الجديد، كان كل ذلك سيندثر كليا. فرغم كل ما حصل، لا أحد يرغب في اقتلاع جزء مهم من تاريخ وطنه.
عشية، تمشيت داخل الحديقة التي تم إنشاؤها تخليدا لأرواح أكثر من أربعين ألف محارب أمريكي قتلوا في الحرب الكورية التي لم تدم أكثر من ثلاث سنوات، لكنها حصدت ما جاوز الخمسة ملايين شخص. تأملت في تماثيل المحاربين بأزيائهم الثقيلة وهم في وضعية المشي والاكتشاف داخل ساحة المعركة، كان ذلك نصبا هائلا ومذهلا للحرب في حالتها الخام، كانوا تسعة عشر تمثالا لمحاربين أمريكيين يمشون بثقل، سرت بمحاذاتهم وبدوا داخل الحديقة كما لو أنهم يقومون بجولة ترفيهية، لكن الحرب ليست نزهة بالتأكيد. لا أعرف أين قرأت أن الحرب إن لم تقتل الرجال فهي تستعملهم وتبليهم حتى يصيروا غير صالحين للاستمرار داخل الحياة.
خصصت اليوم الثالث لزيارة صرح لينكولن الشهير. فرق كبير بين تمثلاتنا للتاريخ في الكتب، والصورة التي تتولد في أذهاننا عنه حين نقترب من المعمار الذي صنعه ومن أشيائه وأبطاله. كان تمثال «لينكولن» يتوسط المبنى بشكل مهيب، جالسا على كرسي ضخم من الرخام الأبيض، الرخام، أبرد الأحجار وأشدها صلابة وأجملها أيضا. واضعا يديه على طرفي الكرسي. جلسة زعيم حقيقي. تذكرت تمثال بوذا، الذي يتربع على زهرة لوتس ضخمة وهو يشبك يديه، كان كل واحد منهما يفترش أسطورته. ما الذي قام به «أبراهام لينكولن»، لينال هذا التمجيد العظيم؟ الإجابة أن ما فعله «لينكولن» في التاريخ الأمريكي مذهل، إنه المحارب الشرس للعبودية والرق، إنه أب كل الأمريكيين. لم أكن أدري أنني سأذهل وسأفتتن لهذه الدرجة، لذلك لم أكتف بزيارة واحدة لهذا الصرح، بل تمشيت بالقرب من الصهريج المائي الممتد أمامه حتى وصلت إلى «المسلة» الشهيرة، وعدت عند الغروب لأشاهد «لينكولن» مرة أخرى تحت إضاءة خافتة ومتقنة، حينها بدا الزعيم تحت ضوء الغروب المنعكس على الرخام الأبيض مثل نار متوهجة، خفت معها صرامة ملامحه وبروز وجنتيه وصار حقا أب أمريكا الحنون.. جلست عند قدم الكرسي لآخذ صورة تذكارية وتذكرت أبي.
تذكرته أبي أيضا وأنا أغادر واشنطن، حين حلقت الطائرة الصغيرة على ارتفاع منخفض فوق المدينة. تأملت تشعبات نهر «بوتوماك» البديعة والزراعات المحيطة به وتذكرتني طفلة أنظر من نافذة غرفتي في الصباح الباكر جدا، أراقب أبي وهو يسقي الأرض بعد الفجر مباشرة، يفتح بمعوله سواقي لمزروعات ويغلق على أخرى تدفق الماء، كان يقوم بذلك قبل الذهاب لعمله الرسمي. رددت بداخلي أن تلك الصورة لأبي زرعت الأمل الذي أحمله داخل قلبي دائما، الأمل الذي جعلني أستمر بعد كل ما جرى، ذلك النوع من الأمل الشفيف الذي يقترب من نقطة الانعدام ولا يصدقه أحد، هو ما يجب أن نعض عليه بالنواجذ. أما الأحلام المكتومة التي لم تتحقق، أو تحققت بشكل رديء ومشوه، ويشوبها الكثير من عدم الاكتمال، فهي تتجمع في مكان ما بداخلك مثل سحابة تنتظر أن تمطر.
غادرت واشنطن على مضض، كنت أود أن أقضي بها وقتا أطول، لكنني تذكرت أن أهم ما يمنحك إياه السفر هو الشعور بأنك بعيد عن منزلك، بعيد عن الذين يصبغون حياتك بالسواد. لم أكن قد قرأت بعد كتاب مارك مانسون، «الفن الخفي لعدم الاكتراث للأوغاد». كان الأمر سيختلف معي. السفر ممتع كذلك لأنك تكون خلاله على يقين بأن لك مكانا تعود إليه. تتحسس جيبك حينها باحثا عن مفتاح بيتك.