في عهد بني أمية تنامت أهمية مدينة القدس، بحيث بدأ الخليفة عبد الملك بن مروان في بناء مسجدي الصخرة والأقصى، هذا الأخير الذي تم افتتاحه للعبادة في عهد ابنه الوليد بن عبد الملك سنة 705م. أما الخليفة عمر بن عبد العزيز فيثبت المؤرخون أنه طرد اليهود من القدس، بعد علمه بسوء طويتهم إزاءه. وعلى المنوال نفسه سار العباسيون في حسن معاملتهم للمسيحيين من سكان المدينة، وبالأخص في عهد الخليفة هارون الرشيد (786م)، الذي سمح للإمبراطور شارلمان بترميم الكنائس وبناء كنيسة باسم العذراء، كما وفر الحماية للحجاج المسلمين، واستمرت القدس محافظة على أهميتها، إن على المستوى الاقتصادي أو السياسي حتى عهد الطولونيين (878م-905)، الذين تقلصت في عهدهم أدوارها واقتصرت على الجانب الديني فأصبحت مزارا للناس فقط، والأمر نفسه ينسحب على عهد الإخشيديين الذي تفاقمت فيه أوضاع المدينة، فقل عدد سكانها وفقدت مكانتها لصالح مدينة الرملة التي أصبحت عاصمة لفلسطين، ويذكر بعض المؤرخين أنه خلال عهد كافور الإخشيدي (960م 966م) كانت لليهود يد طولى في حوادث نهب كنيسة صهيون، وأحرقوا قسما من كنيسة القيامة فسقطت قبتها.
صراع الفاطميين والسلاجقة
في سنة 972م انقادت القدس لحكم الفاطميين، الذين تابعوا نهج أسلافهم في معاملة سكان المدينة على أساس من العدل والتسامح والرفق، باستثناء بعض الحوادث المتفرقة. ويرجع الفضل للفاطميين في تأسيس أول بيمارستان بالمدينة وكان يُقدم فيه العلاج بالمجان، كما أسسوا دارا للعلم كامتداد لدار الحكمة التي أسسوها في القاهرة سنة 1004م. إضافة إلى هذا وذاك عرفت القدس في عهدهم نهضة عمرانية، وازدهارا على مستوى السياحة الدينية التي نشطها الحجاج المسلمون والمسيحيون.
ونظرا لضعف الفاطميين استولى السلاجقة على القدس سنة 1012 م وقد تميز حكمهم بالقسوة، إذ أقدموا على هدم الكنائس والأديرة وكثرت مظالمهم لدرجة أنهم عهدوا لرجل مسيحي قبطي يسمى منصور التلياني بحكم القدس تحت إشرافهم في سنة 1012م، غير أن الفاطميين نجحوا في استردادها من قبضة السلاجقة التركمان سنة 1015م تحت قيادة الأفضل بن بدر الجمالي، بعد حصار دام 40 يوما وقد سهل سكان المدينة مأموريته، حينما فتحوا له أبوابها سرا.
الحملة الصليبية
مهدت جملة من الأسباب الذاتية والموضوعية للمد الصليبي الذي اجتاح الجهة الشرقية للعالم الإسلامي، ومن بينها تضعضع الدولة الإسلامية ككل وتزايد الانقسامات بين الشيعة والسنة، وبين العرب والترك، لدرجة أن الوزير الفاطمي الأفضل عرض على الصليبيين عقد تحالف لمناوءة الأتراك السلاجقة. وقد كان لمضايقة هؤلاء للحجاج الغربيين خاصة ولسكان القدس المسيحيين عامة أثره في تأجيج مشاعر الغرب المسيحي واستثارتها بهدف تخليص «القبر المقدس» من أيدي المسلمين، ناهيك عن رغبة «بابا» روما في ضم الكنائس الشرقية الأرثوذكسية لتنضوي تحت إمرته.
والراجح أن هذه الحملة الصليبية لم يكن الدافع الديني محركها الأوحد، بل كانت تثوي خلفها مطامع سياسية واقتصادية كذلك، هكذا توجهت جحافل الجيوش الصليبية نحو بيت المقدس، فاستولت بداية على أنطاكية، ثم حاصرت القدس في 7 يونيو 1099، وبالرغم من الصمود الذي أبداه المسلمون في الدفاع عن المدينة المحصنة، إلا أن الصليبيين استطاعوا بفضل الإمدادات التي وصلتهم من دخول المدينة في 9 غشت 1099م فدمروها وعاثوا فيها فسادا كبيرا إذ قتلوا أعدادا كبيرة من المسلمين واليهود وأحرقوا المعابد والبيع، وحولوا المساجد إلى كنائس، ومنها مسجد قبة الصخرة، كما قسموا المسجد الأقصى إلى ثلاثة أقسام، الأول حولوه كنيسة والثاني مسكنا للفرسان والثالث مستودعا للذخائر والأسلحة، فيما استغلوا السراديب الموجودة تحته كإسطبلات للحيوانات، وتوالى بعد ذلك سقوط المدن الفلسطينية: الجليل، طبريا، حيفا، قيسارية … إلخ. وفي سنة 1100م أصبح «بلدوين الأول» على رأس مملكة الصليبين في القدس، وقد استمر حكم هذه المملكة 88 سنة، ولم يسمح لغير المسيحيين بسكنى المدينة، وطيلة هذا العهد عمل الصليبيون على مسح كل تلوينات الثقافة العربية الإسلامية واستبدالها بالطابع اللاتيني، إضافة إلى وأد التوجيهات الأرثوذكسية من الدين المسيحي.
زحف صلاح الدين
لم يستسغ المسلمون مسألة ضياع القدس من أيديهم لصالح الصليبين، فعملوا على توحيد صفوفهم في العراق والشام، بقيادة «عماد الدين زنكي» وابنه «نور الدين محمود» الذي نجح في ضم مصر، وهو نجاح باهر بالنظر إلى الثقل الاستراتيجي لمصر في العالم الإسلامي، لذلك بدأ الصليبيون يستشعرون الخطر الإسلامي الذي أصبح يتزايد ويحاصر القدس من الشمال الشرقي والجنوب الغربي.
بعد سنة من قيام الدولة الأيوبية بمصر، دشن القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي زحفه على جنوب فلسطين باسترجاع حصن «الكرك»، والذي تزامن مع الانتصار الكبير الذي حققه الأسطول البحري المصري على نظيره الصليبي في البحر الأحمر سنة 1182م، مما حال دون استكمال المخطط الصليبي الشيطاني الرامي لتدمير الأماكن المقدسة بالحجاز.
تهيأت كل الشروط لكي يحقق صلاح الدين الإنجاز التاريخي الهام والمتمثل في تحرير القدس، فكانت المعركة الحاسمة، معركة حطين التي بدأت في الأول من يوليوز سنة 1187م واستمرت أياما مالت فيها لغة النصر لصالح المسلمين الذين قتلوا 30 ألفا من الصليبيين، وأسروا ما يقارب 30 ألفا آخرين من أصل 63 ألف فارس وهو قوام الجيش الصليبي، وبالموازاة مع ذلك فتح المسلمون مدينتي عكا وطبريا والعديد من مدن وقرى فلسطين، وفي العشرين من شتنبر 1187م حاصر صلاح الدين مدينة القدس، فلما أيقن الصليبيون بقوة المسلمين اضطروا إلى الاستسلام، فتم التوقيع على نسختي المعاهدة بالتسليم في يوم الجمعة 2 أو 3 أكتوبر 1187م الموافق لذكرى الإسراء والمعراج، وقد تضمنت بنود المعاهدة هاته التي سميت بـ«صلح الرملة» أن تسلم المدينة، مقابل أن يرحل منها كل اللاتين غير العرب الذي استوطنوها بعد الغزو الصليبي، وأن يكون رحيلهم في غضون 4 أيام، وأن يكون لهم جميع ما يملكون من نفائس وأموال، وذلك نظير فدية مقدرة بـ10 دنانير للرجل و5 دنانير للمرأة ودينارين لكل طفل.