شوف تشوف

الرأي

صراع داوود وجالوت

بقلم: خالص جلبي

تقول الأسطورة اليونانية القديمة إن (سنتاور نيسوس) أهدى زوجة هرقل (دانيرا) ثوبا زعم أن فيه سحرا للحب، ولكن الرسول اللئيم الذي نصفه إنسان ونصفه حصان عمد إلى عين حمئة مسمومة، فلطخ الثوب بها. وعندما لبس هرقل القميص وسرت في مفاصله قشعريرة الحب ومعه السم، لم يستطع خلعه أبدا، فمات البطل الهمام عاشقا مسموما.
قال الصحفي الإسرائيلي (أوري أفنيري) هذا الكلام في ظروف حرب درع الصحراء التي تحولت إلى عاصفة الصحراء لتدمير العراق وعقب: «يبدو أن هذا هو قدر إسرائيل مع الأراضي المحتلة».
في 25 فبراير من عام 1991م كانت الحرب عاصفة في الخليج، في أيام نحسات تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر. وصدر عدد مجلة «دير شبيغل» الألمانية التاسع، وعلى صفحة الغلاف الرئيسية منظر معبر يجمع بين هزيمة العراق على شكل وجه الرئيس العراقي متفحما، بفوهات من بناء مهدم وكتبت تحتها كلمتان: السلام ـ متى؟ ولكن العدد نفسه حمل مقالة تحليلية عميقة للصحفي الإسرائيلي (أوري أفنيري) فيها مزيج من الأسطورة والتاريخ والسياسة، وهي مقالة أضعها تحت النور بعد مرور زمن طويل على كتابتها، تعطي فكرة عن الأدمغة النيرة في المجتمع الإسرائيلي كيف تفكر، وهي ضرورية للقارئ العربي كي يفهم كيف يحلل مثقفو إسرائيل الأحداث. وكيف يتجرؤون أن ينتقدوا الأوضاع بألسنة حداد، بدون خوف أن يصبح مصير أحدهم في أقبية المخابرات معتقلا إلى أجل غير مسمى، لأنه تجرأ ففكر، فقتل كيف فكر. وهي شهادة عاقل وشاهد من أهلها، كما تكشف النقاب عن بعض أسرار حرب الخليج وعبثيتها.
وأهم ما ورد في المقالة أمران: أن انتصار إسرائيل في حرب 1967 واحتلال أراض جديدة كانا لعنة مقنعة، وأن حرب الخليج كانت بهدف تربية العالم الثالث كله أن لا تقوم له قائمة. واليوم نرى الأمرين بوضوح، حيث انتقل الصراع إلى أحشاء إسرائيل الداخلية (انتفاضات متواليات) في مغص لا نهاية له، ودخل العرب نفقا لا نهاية له من الإحباط واليأس، في ظلام حالك، يجلل سماء التفكير العربي ليس لها من دون الله كاشفة.
قال (أفنيري) عن حرب الخليج: «كانت أشبه بالمعجزة فأمريكا تحطم الآلة العسكرية العراقية، والمثل العبري القديم يقول إن الله يكافئ الرجل الصالح فيسوق له من ينجز له عمله. صحيح أننا تلقينا الصواريخ العراقية، ولكن هذا لم يكلفنا في شهر أكثر من اثنين من القتلى (قارن مع صواريخ حماس ماي 2021م)، وهي حصيلة حوادث الطرق في يوم واحد. لقد تحسن وضعنا السياسي بشكل رائع، ونمثل دولة مؤدبة لا تدافع عن نفسها ضد جار شرير، بل وتتنازل عن الانتقام». ثم يستطرد أفنيري لمقارنة الوضع مع عام 1967 م: «لقد كنا في ما يشبه هذا الوضع عام 1967 م، وفي ذلك الوقت أيضا حصل ما يشبه المعجزة. كانت إسرائيل يومها غارقة في أزمة اقتصادية وتحت ضغط نفسي، وفجأة وبدون مقدمات تدفقت الفرق المصرية، وهددت حدودنا ولأسابيع ثلاثة ساورنا القلق على مصير إسرائيل. إلا أن الذي حصل أن جيشنا اندفع في كل الاتجاهات، ليحطم ثلاثة جيوش عربية، ويحتل كل فلسطين وكل سيناء ومرتفعات الجولان، وكانت سكرة الانتصار. واليوم يعلم البعض أن ذلك النصر المؤزر كان لعنة مقنعة.
إن المناطق المحتلة هي قميص نيسوس الذي ورد في الأسطورة، وهي تسمم بدننا بالتدريج عضوا فعضوا، والمصيبة أننا لا نستطيع أن نخلع عنا هذا القميص لأننا وقعنا في غرامه، كما حدث مع هرقل وزوجته. يبدو لي أن حرب الأيام الستة كانت هدية مسمومة، أو لعبة خبيثة يزجي بها آلهة الأولمب وقتهم إلى الأبد. كأن إلها ماكرا سلب حواس وإدراك إسرائيل في ذلك الوقت ولم لا؟ فالمزاج المتعب قبل الحرب، والنصر الذي يخطف الأنفاس بعد ذلك، والاحتلال غير المعقول. وبدلا من إنشاء دولة فلسطينية بعد النصر كما اقترح البعض، فإن العمى ضرب القيادة الإسرائيلية. وبذلك حقت عليهم الكلمة وطبقوا الأسطورة اليونانية، فلبسوا قميص نيسوس.
إني أخشى أن يحصل لنا الشيء نفسه بعد هذه الحرب. إن الإجماع الوطني اليوم يختنق في مشاعر تتراوح بين الحقوق التقليدية إلى مستوى الفاشية الجديدة. في مثل هذه الأجواء يصعب أن نتوقع أن تتصرف حكومتنا بشكل منطقي، وتستفيد من العظات ودروس التاريخ، فتعقد الصلح مع العرب وتمنح الفلسطينين دولة مستقلة بهم، ليس بفعل الضغط من الخارج، بل بقرار مستقل ومن موقع القوة. بكلمة أخرى أن نستفيد من الفرصة التاريخية ولا نضيعها كما أضعنا فرصة عام 1967. ولكن كيف سنلبس قميص نيسوس؟».
إن هذا الكلام الذي ننقله عن (أوري أفنيري)، لا يتجرأ كاتب في البلاد العربية أن يلفظ أو يكتب عشر معشاره، وهذا يعني أن بنية إسرائيل الداخلية صحية بقدر عدوانيتها إلى الخارج. بقدر تعفن الأوضاع عندنا في تقديس سادتنا وتأليه كبرائنا.
بعد هذا يتساءل الصحفي أفنيري من الذي ينسف مشاريع السلام في المنطقة: «هل هو اللوبي اليهودي؟ هل هي مصانع الأسلحة؟ هل هي الإرادة التي تريد استخدام إسرائيل كرهينة، من أجل المحافظة على أن تبقى دول النفط تحت السيطرة الكاملة؟ إنها خليط من كل هذا لا أحد يعلم بمن فيهم الأمريكيون، ولعل بعض مبادرات السلام سوف تبدأ بعد الحرب، ولكن الإنسان حين يتكلم عن مبادرات السلام فهو لا يريد للسلام أن يحدث».

المناطق المحتلة هي قميص نيسوس الذي ورد في الأسطورة، وهي تسمم بدننا بالتدريج عضوا فعضوا، والمصيبة أننا لا نستطيع أن نخلع عنا هذا القميص

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى